في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
كان المشهد غير عادي في قاعة الشعب الكبرى في بكين، أثناء انعقاد المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر/تشرين الأول عام 2017. انفجر الحضور بالبكاء، وتعالت أصوات المندوبين القادمين من جميع أنحاء الصين في أغنية لتأييد شي جين بينغ ، الأمين العام للحزب ورئيس البلاد.
تحمست إحدى الحاضرات لتلقي قصيدة مديح مرتجلة تثني على سياسات جين بينغ تجاه الأقليات العرقية، ومسحت مندوبة أخرى دموعها وقد غلبها التأثر بعد أن أنهى شي خطابه. بل إن المسؤولين المعروفين برزانتهم لم يملكوا أنفسهم من التفاعل مع جين بينغ وهتافات الصين، ليصرّح ليو شي يو، رئيس هيئة تنظيم الأوراق المالية الصينية قائلًا: "في غضون خمس سنوات، وبفضل اللجنة المركزية للحزب، وفي القلب منها الرفيق جين بينغ، أُنقذ الحزب، وأُنقذ الجيش، وأُنقذت البلاد".
كانت الأجواء تبجيلية، بل تقديسية، في المؤتمر الذي ينعقد كل خمس سنوات بشكل لم تعتده الصين منذ رحيل مؤسس نظامها الحديث. لكن خلال فترة رئاسية واحدة لـشي، الذي كان يبلغ من العمر حينها 64 عامًا، تغير كل شيء. فقد عزز الرجل سلطته أسرع وبشكل أعمق مما فعل أي زعيم صيني من قبل، بعد أن حقق نجاحات في مكافحة الفساد، وصعد باقتصاد الصين إلى مستويات غير مسبوقة، ورسخ سلطة الصين عالميًّا، لكن ذلك التبجيل ليس كله عفويا، فقد حاصر شي منافسيه الأقوياء، وشدد القيود على الإعلام والمجتمع المدني، وأعاد هيكلة قيادة الجيش وأذرعه بما يضمن أن تكون صورة البلاد على قلب رجل واحد وراءه شخصيا.
وبحلول مؤتمر الحزب ذلك، كان شي يوصف بأنه الزعيم الأهم في الصين منذ عهد ماو ، فقد رسخ اسمه وأيديولوجيته في دستور الحزب. لكن إرث شي، الذي تعزز أضعافًا خلال الثلاث عشرة سنة الأخيرة، استفاد كثيرًا من كونه أحد الناجين من جلادي الثورة الثقافية التي قضت على ملايين الصينيين، والكثير من قادة الحزب وأبطاله الثوريين، بمن فيهم والده شخصيًّا.
كان شي نموذجًا مثاليًّا لشيوعي مخلص، وثوري متحمس لأفكار الحزب لم تفتّ في عضده رعونة تطبيقها التي آذته وأهله، وجعلت من حكايته قصة تُروى لبطل ارتقى من منفاه في كهف ريفيّ في أقاصي الصين، إلى قصر الحكم فيها.
لكي نفهم الصين الآن، علينا أن نفهم زعيمها شي وفلسفته وأفكاره التي توجه الصين اليوم وربما لعقود قادمة، ولكي نفعل ذلك علينا أن نتتبع حياته، التي تعني أن نتتبع رحلة الصين المضطربة منذ عصر ماو إلى مكانتها الجديدة حين أصبحت قوة عظمى. إن قصة شي لا تنفصل عن التاريخ الحديث للصين، بل ولا عن تاريخها القديم أيضًا.
ففي محاولته بناء قوة الصين، يمزج شي بين العقيدة الشيوعية، بتنويعاتها المختلفة، وبين التقاليد الكونفشيوسية ورؤية الصينيين لأنفسهم. وبينما يقود شي الصين إلى ما يدعوه "العصر الجديد"، تحكي قصته الكثير عن مصدر قوة الصين، وإلى أين يمكن أن تتجه.
منذ حرب الأفيون البريطانية عام 1840 على الصين، مرورًا بالاجتياح الياباني الذي تعرضت له، والتفكك الداخلي الذي أنهكها داخليا، عاشت الصين انكسارات قاسية ومتتالية على مدى أكثر من مئة عام. وعندما أعلنت الصين الشعبية قيامها عام 1949، كانت تُؤسَّس دولة تريد أن تمنع عودة أيام الضعف مرة أخرى. ولد شي جين بينغ مع نهاية "قرن الإذلال"، لكنه لم يكن بعيدًا عنه.
فقد عاشه على طريقته: والده القائد الثوري يُسجن ويُهان، ويُنفى هو إلى الريف، يُطلب منه أن يُدين أباه، تُغلق مدرسته، ويعيش في كهف كفلاح منسي. عاش شي صيغته الخاصة من "الهزيمة الوطنية"، وكانت هزيمة داخل الحزب، داخل الذات، داخل العائلة.
بعد يوم طويل من رعاية المواشي والحراثة وحمل السماد ونقل الفحم، سار الفتى شي باتجاه الكهف لينال قسطًا من الراحة. كان شي يحمل على ظهره حقيبة من قماش خشن، مطرزة يدويًّا وعليها رمز صيني يعني "قلب الأم". صنعتها له والدته حين نُقل منفيًّا في سن الخامسة عشرة إلى قرية صينية نائية، تنفيذًا لأمر "إعادة التأهيل" الذي أصدره ماو تسي تونغ ضده، في خضم الثورة الثقافية التي بدأت منتصف ستينيات القرن الماضي. لم يعلم ماو، أن قلب أُمّ شي جين بينغ سيكون نورًا للكهف، وأن الكهف في كثير من الأحيان، كما في حالة ابنها، سيتحول إلى فرصة لا منفى.
نُفي شي مرتين، الأولى قسرًا فاستغلها لبناء ذاته، والثانية نفى نفسه بإرادته، وعاد إلى الريف شابًّا يحمل "قلب الأم" مرة أخرى، ومن هناك صعد ليصبح رئيسا.
عودة إلى الوراء، إلى عام 1953، حيث ولد شي لأسرة تنتمي إلى "النخبة الحمراء". والده، شي تشونغ شيون، نائب رئيس الدولة آنذاك، كان أحد رفاق ماو تسي تونغ، وأحد الوجوه البارزة في النظام الثوري الصيني. ولكن مع الوقت، ولأسباب مثل إعجابه برواية حظرها ماو، يتحول نائب رئيس الدولة إلى مُعتقل سياسي لدى رفيقه القديم، وتُجبر أمه على العمل الشاق في المزارع، وشي لا يزال طفلًا.
عندما يتحدث شي عن تلك الحقبة، يصفها بأنها "بائسة"، فقد طُلب منه مرارًا أن يُدين والده علنًا، لكنه رفض. وكانت تلك الفترة بائسة بالفعل، لا على شي وحده، بل على البلاد جميعها. ففي يناير/كانون الثاني 1967، وبعد أشهر من انطلاق الثورة الثقافية، شاهد شي وهو في الثالثة عشرة من عمره والده يُجرّه الحرس الأحمر في إهانة بالغة أمام حشود ساخرة. كان من بين الاتهامات التي اتُّهم بها شي الأب أنه قد نظر عبر منظار مكبر إلى برلين الغربية خلال رحلة رسمية لألمانيا الشرقية قبل سنوات.
وفي هذه السنة أيضًا حقق الطلاب المتحمسون، الذين كانوا يُطلقون على أنفسهم "المولودون حُمرًا"، مع شي. سألوه "هل تعرف عقوبة الاتهامات الموجهة إليك؟"، فردّ قائلًا: أخبروني أنتم، هل تستحق الإعدام؟ فقالوا: "إنها تهمٌ تكفي لإعدامك مئة مرة!". يقول شي الذي روى هذه الحكاية لصحفي عام 2000 إنه فكر حينها في أنه لا فرق بين أن يُعدم مرة أو مئة مرة، فلِمَ الخوف إذن؟
كانت مواجهة شي مع الشيوعيين المتحمسين مواجهة مع الموت، ودرسًا مبكرًا للغاية عن تقلبات السياسة وما يمكن أن تفعله السلطة في نفوس أصحابها. في هذه الفترة كان شي المراهق قريبًا من عدد آخر من أبناء المسؤولين الشيوعيين الذين استهدفهم الحرس الأحمر والطلاب المتحمسون الذين مكّنهم ماو من رقاب المثقفين في كل البلاد. حينها كان "المولودون حُمرًا" يقولون إن "ابن الشيوعي البطل يكون بطلًا شيوعيًّا، أما ابن الرجعي فهو من المنبوذين!" لكن المنبوذين وجدوا مواساة في صحبة بعضهم بعضًا وهم المولودون حُمرًا مثل غيرهم.
جُرّد الأب من جميع مناصبه وأُلقي في السجن حتى عام 1975. بعد ذلك بثلاث سنوات، عام 1978، عاد إلى الحياة السياسية، وسرعان ما أصبح نائب رئيس مجلس الدولة عام 1981 إلى أن اعتزل عام 1988. يقول شي إن والده "شخص كرس نفسه بكل إخلاص للشعب الصيني" وإنه يسير على خطاه.
في خضم الثورة الثقافية ، اضطر شي إلى البحث عن الكتب المخفية، وكان يلتقطها من المكتبات المغلقة والمدمرة مع أصدقائه. تستذكر تشن تشيو يينغ، مدرسة شي للغة الصينية، وتصف الشاب عندما كان في سن المراهقة: "كان الفتى [شي] قارئا نهما للأدب والتاريخ، وكان مفتونا بشكل خاص بشعر دو فو". وهو شاعر صيني عاش في القرن السابع الميلادي، ومعروف في الصين بأشعاره المليئة بمشاعر عميقة اتجاه آلام عامة الناس ومساكينهم وبائسيهم.
وبأمر من نظام ماو، في أواخر الستينيات، نُفي شي إلى الريف تحت ذريعة "إعادة تأهيله"، إذ نُقل من بكين إلى قرية ليانغجياخه، وهي قرية صغيرة كان أبوه قد حارب فيها مع الثوار الشيوعيين وتقع في مقاطعة شنشي على هضبة اللوس، بشمال غرب الصين. وهناك، في المنفى، كانت مأساته تتعمق، حيث أقدمت أخته شي هي بينغ، على الانتحار شنقًا، بعدما دخلت في حالة اكتئاب شديد جراء سوء المعاملة التي طالت العائلة.
وبالرغم من ذلك، يقول شي الرئيس، حتى في ذلك الكهف: "ولدت من جديد"، وعندما يتذكر حياته في ليانغجياخه، يصفها بأنها "جامعته". أما الغريب والمثير للإعجاب في آن واحد، فهو أن الظلم والإقصاء لم يمنعاه من أن يصبح بطلًا شيوعيًّا. لقد وجد في الكهف شيئا ما غير به قدر الصين.
فشي الذي أصبح الآن قائدًا للحزب الشيوعي الصيني الذي يضم 99 مليون عضو، وقائدًا للصين الصاعدة بثبات، ويناظر ماو اليوم فكريًّا ومركزية، وأضيفت رؤيته وأفكاره إلى الدستور الصيني؛ وقد رُفض طلبه للانضمام إلى الحزب الشيوعي الصيني تسع مرات في الماضي.
يصف شي كيف أنه بعد أن ملأ أول طلب انتساب إلى رابطة الشبيبة (الشيوعية) دعا أمين الحزب في لواء الإنتاج الذي ينتمي إليه إلى العشاء، طالبًا منه أن يرسل طلب انضمامه إلى القيادة. لكن الأخير أبدى تحفظاته، قائلًا: "ماذا يمكنك أن تفعل؟ في قيادة الحزب يقولون إنك لم تنأَ بنفسك بما يكفي عن والدك، عدو الحزب".
لكن شي تمسك برغبته في الانضمام إلى شبيبة الحزب. وبعد تسعة طلبات انضمام وسبع سنوات قضاها في القرية النائية، قُبل طلبه العاشر للانضمام إلى الحزب عندما كان في العشرين من عمره عام 1973. في الرواية الرسمية، تُصور سِني شي السبع في ليانغجياخه باعتبارها ملحمة أسطورية، تحول فيها الفتى الصغير ابن المسؤول الكبير المنبوذ إلى رجل من عامة الشعب وملح الأرض. خلال سنوات قليلة، أصبح شي رئيسًا لفرع الحزب في القرية، أي رئيسًا إداريًّا للقرية.
كان طموح شي غير محدود. وعبر شرعيته الجديدة بوصفه رئيسًا لفرع الحزب في قرية فقيرة، ومن خلال علاقات عائلته، استطاع شي أن يجد لنفسه مكانًا في جامعة تسينغهوا المرموقة ليدرس الهندسة الكيميائية. في الجامعة، كان جين بينغ مهتمًّا ببناء علاقاته في دوائر الحزب، وقراءة التاريخ الصيني، والأدبيات الماركسية، والفلسفة الغربية، والأدب الروسي، ولا يزال في خطاباته بين الحين والآخر يستشهد بمقتطفات من ديستويفسكي و تولستوي ، أو حتى من مونتسكيو أو جان جاك روسو.
لقد اختبر السجن والمنفى إيمان عائلة شي بالحزب الشيوعي، لكنه لم يكسر ذلك الإيمان أبدا. ففور خروج الأب من السجن، أرسل إلى القيادة الجديدة للحزب يؤكد ولاءه ورغبته في العودة إلى خدمة الحزب والبلاد.
تخرج شي في أواخر السبعينيات. وفورًا استطاع الحصول على وظيفة سكرتير لمسؤول عسكري كبير كان قريبًا من والده، ولعدة سنوات تالية، كان شي يرتدي الزي العسكري ويتعرف على خبايا البيروقراطية الحزبية من أسفل السلم ويكوّن علاقات عميقة مع مرشدين وأساتذة داخل الحزب.
لكن الشاب المتحمس أدرك أن بقاءه في بكين يعني العيش في ظل والده وتاريخه الذي يسهل مهاجمته من خلاله، فقرر عام 1982 أن يقدم أغرب طلب يمكن لشاب طموح أن يطلبه، وهو الخروج من مركز السلطة في بكين والعودة إلى الريف لكي يبني نفسه وشرعيته السياسية من الصفر. لقد عاد ونفى نفسه مرة أخرى، ولكن هذه المرة بإرادته. وعن هذه التجربة، يقول المؤرخ كيري براون المختص بسيرة حياة شي: "خاض [شي] تدريبًا قاسيًّا وصارمًا بالنسبة لمسؤول محلي".
لكن شي كان يعلم أنه لإعادة تقديم نفسه، وتجاوز إرث والده، ولكي يبني اسمًا لنفسه، فإن عليه أن يمر بمشاق أكثر من أي شخص طَموح آخر.
قُبل طلب شي وانتقل ليصبح الرجل الثاني للحزب في مقاطعة هابي الريفية، وهي مقاطعة خاملة للغاية من حيث نشاط الحزب، وفي خلال سنة واحدة أصبح سكرتير الحزب في المقاطعة، وأثبت أنه قائد قوي وكفء. كانت تجربة شي في هابي شديدة التأثير إذ اعتبرها مختبرًا سياسيا يجرب فيه كل ما يستطيع. ولعل أهم ما فعله شي في هذه المرحلة هو بناء علاقات وطيدة بقادة الحزب المتقاعدين، إذ اعتنى بهم ووفر لهم منافع قرّبته منهم بشكل كبير.
في أواخر السبعينيات، خاصة عام 1978، بدأت الصين سياسة الإصلاح والانفتاح، معلنة عن تبني ما يسمى "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، متجهة نحو اقتصاد السوق والانفتاح على النظام الليبرالي. لكن شي كان حذرًا للغاية في تبني اقتصاد سوق منفتح بلا ضبط كما حدث في العديد من دول العالم بما فيها بعض البلدان العربية التي قررت الانفتاح على الاقتصاد العالمي في السبعينيات والثمانينيات.
فمثلًا، في خطوة على يمين الشيوعية، سمح شي للمزارعين في مقاطعته بزراعة محاصيل ذات ربح أعلى، في الوقت الذي كانت تُفرض فيه المحاصيل على المزارعين في كل أنحاء البلاد ضمن الخطة الاشتراكية الوطنية.
لكنه في نفس الوقت، رفض السماح بتصوير مسلسل تلفزيوني يتناول الليبرالية الاقتصادية، كي "لا يُشعر المواطنين بعدم الرضا". عندما وصف شي أسلوبه ذلك في التغيير التدريجي، شبهه بغلي ماء في قدر، برفع قوة الحرارة بالتدريج، وبإضافة ماء بارد كي لا يغلي الماء سريعا. كان الرجل يخشى من إثارة غضب المتشددين الشيوعيين في الحزب، لكنه كان يرى ضرورة الانفتاح بالفعل، وهذا تمامًا ما فعله عندما أصبح رئيسًا.
في هذا الوقت أيضًا، وتحديدًا عام 1985، سافر شي إلى مدينة صغيرة في ولاية آيوا الأميركية للتعرف على أساليب الزراعة الحديثة في الولايات المتحدة. ولعل هذه الزيارة ساعدته على تصور حياة مختلفة للصينيين بلا انفصام عن تقاليدهم وقيم الشيوعية. بعد أن أصبح رئيسًا، زار شي ولاية آيوا والتقى بعض من عرفهم في زيارته تلك، وهو ما عزز من صورته بوصفه شخصًا حريصًا على بناء العلاقات مع المزارعين وبسطاء الناس، سواء في الصين أو حتى في أميركا.
بعد عودته من الولايات المتحدة، انتقل شي إلى مقاطعة فوجان الأكثر حيوية من هابي، وفي السنوات السبع عشرة التالية، سيتولى مسؤوليات كبرى في المقاطعة ويعزز من فرص الاستثمار والتجارة وينجح في بناء علاقات بمستثمرين من كل أنحاء العالم لتقوية البنية التحتية في المناطق الواقعة تحت إدارته. كذلك اهتم بالمنشآت العسكرية بشكل خاص، وبالحوافز والمنافع التي يحصل عليها الجنود والضباط، مما ضمن علاقة ودية مع الجيش.
وفي نفس الوقت على المستوى الشخصي، كان شي يبني حياته الخاصة بثبات. ففي عام 1987 تزوج بالفنانة الصينية وصاحبة الكاريزما الطاغية بينغ لي يوان، وهو ما أثار دهشة الكثيرين للتناقض الظاهر بين شخصيتها المرحة والشهيرة، وجدية زوجها وتفضيله المستمر حينها للبقاء بعيدًا عن الأضواء.
لكن زواجهما كان غير تقليدي في الأعوام العشرين التالية، حيث كانت شهرة لي يوان وعملها يقتضي وجودها في بكين، في حين كان شي يقضي معظم أوقاته في المقاطعات التي يتولى مسؤولياتها بعيدًا عن العاصمة.
لكن هذه الفترة شهدت أيضًا أحد أهم أحداث الشيوعية منذ تأسيسها. فقد انهار جدار برلين عام 1989، وبعده بقليل أُعلنت دولة روسيا الاتحادية وتفكَّك الاتحاد السوفياتي . سيكون لهذا التفكك أكبر الأثر في أفكار شي وفلسفة حكمه. إذ يمكن القول إن اضمحلال الاتحاد السوفياتي يلوح في خيال شي كتحذير عما يمكن أن يحدث إذا ابتُلي الحزب الشيوعي الحاكم بانفلات النظام، واستشراء الفساد، وخروج الجيش عن طوعه.
استمر شي في الصعود المستمر، حيث أصبح عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، وهي أعلى هيئة إدارية في الحزب، عام 1997. وقد أدت الصدفة دورًا في ذلك، ففي تلك السنة، قرر الرئيس الصيني آنذاك، جيانغ زيمين زيادة عدد أعضاء اللجنة المركزية من 150 إلى 151، الأمر الذي أعطى شي فرصة ليتم انتخابه. ولو أن جيانغ لم يقرر توسيع عضوية اللجنة لربما كان المطاف انتهى بشي في مكان مختلف تمامًا. بعدها تولى منصب حاكم مقاطعة فوجان، قبل أن ينتقل إلى رئاسة الحزب في مقاطعة جي جيانغ عام 2002.
في جي جيانغ سرعان ما بدأ شي إظهار إنجازاته، حيث تطورت المقاطعة وتضاعفت صادراتها أربعة أضعاف، وقاد فيها حملة ناجحة ضد الفساد.
وقد طلب من شي أن يقوم بإخماد ومواجهة فضيحة فساد ورشًا هزت الأوساط السياسية للحزب الشيوعي عام 2007. وفي نفس العام، في اجتماع اللجنة الدائمة للحزب الشيوعي الصيني الأربعمئة الكبار لاختيار التسعة الذين سيقودون الأمة الصينية، برز اسم شي ليس عضوًا في اللجنة فقط، بل خليفة أيضًا للرئيس الصيني آنذاك هو جين تاو.
عندما أعلنت الصحافة أن شي هو الخليفة المرجح لـهو جين تاو، كان اسمه غير معروف خارج الدائرة الداخلية للحزب، إلى حد أن نكتة انتشرت على نطاق واسع آنذاك: من هو شي جين بينغ؟ لم تخل الإجابة من سخرية مُبطنة: "هو زوج بينغ لي يوان".
ولكن، مع وصوله إلى الحكم عام 2012، بدأت شعبيته تتزايد بتسارع داخل الصين، إلى درجة أن أصبح الرئيس الوحيد الذي أطلق عليه الصينيون لقب "شي دادا"، أي "العم شي". في 9 سبتمبر/أيلول 2014، زار شي جامعة بكين للمعلمين، وأجرى نقاشًا مع ممثلي المعلمين الوطنيين. هناك سأله الأستاذ الجامعي ليو يي: "هل يمكنني أن أناديك شي دادا؟" فأجاب شي على الفور: نعم!
في الثقافة الصينية، يُستخدم لقب "دادا" (大大) للإشارة إلى رجل كبير في السن بحب واحترام، وغالبًا ما يُطلق على أفراد العائلة الكبار المقربين، مما يشير إلى أن شي أصبح ينظر له على أنه كبير العائلة، وليس قائدًا سياسيًّا فقط.
"شي دادا" 习大大 تمثل الجانب الودود، المحبوب، والبسيط لشي، وأصبحت منذ ذلك الوقت تُستخدم على نطاق واسع في الشارع الصيني، تعبيرًا عن علاقة شخصية وعائلية متخيلة بين الرئيس والشعب. شاع لقب "شي دادا" (العم شي) في الأوساط الشعبية والإعلامية، في خطوة اعتبرها البعض مؤشرًا على اقتراب رمزي بين الحاكم والمواطن، بينما يرى آخرون أن تبني الدولة لهذا اللقب يعكس استخدامًا متعمدًا للخطاب العاطفي ضمن إستراتيجية بناء الصورة القيادية.
وتم استخدامه في الخطاب الرسمي، خاصة في الحملات التي تُظهر أن شي راعٍ للشعب، وأخٍ كبير للأمة. رافقت هذا اللقب حملة بصرية واسعة: صور لشي بين أطفال المدارس، فيديوهات تُغنّى فيها الأغاني الشعبية عنه، ولافتات تُظهره بجانب الفلاحين والجنود، في تكريس لصورة "القائد الأب".
قام الصينيون بإنتاج أغانٍ بسيطة موجهة لشي دادا، ومليئة بالود، وتعكس تحوّلًا في انطباعاتهم عنه وعن زواجه.
إحداها تقول: أنجبت الصين شي دادا… لا يخاف السماء، ولا يخاف الأرض، فالحالمون يتطلعون إليه جميعًا! لدى الصين أيضًا أمٌّ تُدعى بينغ ماما، امنحها أجمل الزهور، احمها وباركها، عائلة مزدهرة، بلد مزدهر، مزدهر تحت السماء! شي دادا يُحب بينغ ماما… المحبّون يستطيعون الفوز بالعالم!
الغريب أن هذا التصور تجاوز حدود الصين، فعندما سُئل صديق شي، لي كوان يو ، رئيس وزراء سنغافورة السابق: ماذا يريد شي جين بينغ؟ قال: أن يعيد للصين عظمتها من جديد".
وفي مفارقة لافتة، جاء لقب "شي دادا" في وقتٍ كانت فيه السلطة المركزية تتعزز، ومساحات التعبير تضيق، مما يجعل الصورة الشعبية للرئيس تتقاطع بشكل معقد مع صلابته السياسية. وهكذا، ظهر لقب "شي دادا" من العفوية الشعبية، وأصبح ركيزة في خطاب الدولة، حيث يلتقي الأب الحنون والعم القريب بالقائد الحديدي في صورة واحدة.
في مقابلةٍ أجرتها مجلة "تشونغهوا إرنو" الصينية عام ٢٠٠٠، قال شي، الذي كان حاكم مقاطعة فوجيان آنذاك: على القائد الجديد مواصلة العمل على الأسس التي أرساها سلفه، وفي نفس الوقت يجب "أن يأتي بخططه الخاصة ويضع أجندته خلال السنة الأولى". شبّه شي القيادة بسباق عصا التتابع، حيث يتعين على الخليفة "تسلّم عصا التتابع بشكل صحيح" ثم "إكمالها حتى النهاية". بعد أكثر من عقد من الزمان، في أول مؤتمر صحفي له بعد انتخابه رئيسًا، عام 2012، كرّر شي تشبيه العصا، قائلًا إن مسؤولية قيادة الحزب هي " تسلّم عصا التتابع التي سلّمها لنا التاريخ" لتحقيق "التجديد العظيم للأمة الصينية".
وكما قلنا، فإن سقوط الاتحاد السوفياتي أثّر كثيرًا في فلسفة شي. ففي خطاب مغلق أمام كوادر الحزب بعد توليه السلطة بفترة وجيزة، تساءل شي عن السبب وراء اختفاء حزب (= الحزب الشيوعي السوفياتي) "يفوق عدد أعضائه عددنا" بين عشية وضحاها، وأجاب في رثاء: "لم يكن أحدٌ شجاعًا بما يكفي للوقوف والمقاومة". وفي خطابه أشار إلى أن الاتحاد السوفياتي "فصل جيشه عن السياسة، وجعله جيشًا قوميًّا" لا حزبيًّا أمميًّا، تاركًا الحزب الشيوعي "منزوع السلاح" عند حلول الأزمة.
صورة أرشيفية مؤرخة في 17 يوليو/تموز 1945 تُظهر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل (يسار) والرئيس الأميركي هاري ترومان (الثاني من اليسار) والزعيم الروسي جوزيف ستالين (الثاني من اليمين) في مؤتمر بوتسدام بألمانيا (الأوروبية)وأضاف شي حينها: "إنه درسٌ عميق لنا! إن تجاهل تاريخ الاتحاد السوفياتي والحزب الشيوعي السوفياتي، ورفض لينين وستالين، ورفض كل شيء آخر، هو انخراط في العدمية التاريخية، ومن شأنه أن يُربك أفكارنا ويُقوّض منظمات الحزب على جميع المستويات".
شكل هذا التصور ركيزة أساسية في أفكار شي جين بينغ. فكان مما توصل إليه أن الحزب يجب أن يكون "قائدًا لكل شيء" من قاعات الدرس إلى المحاكم، وأن التراخي الأيديولوجي مزلق منحدر سيؤدي ببكين إلى مصير الاتحاد السوفياتي. أما الدرس الداخلي الأهم الذي تعلمه شي من سقوط الاتحاد فكان أن جيش التحرير الشعبي الصيني يجب أن يظل قوة حزبية أممية، تتعالى على القوميات المحلية، لا قوة قومية تفتح الباب أمام الخلافات.
لذلك نرى بوضوح كيف أن خطوات شي للحفاظ على نقاء الأيديولوجيا، وإعادة تأسيس لجان الحزب في جميع القطاعات، وهيكلة جيش التحرير الشعبي الصيني تحت قيادته الشخصية، كلها تنبع من اقتناعه وقراءته لأسباب الانهيار الذي لحق بالاتحاد السوفياتي على أنه فشل في الإرادة والتنظيم، لا بسبب الاقتصاد كما جرت العادة عند تفسير ذلك الانهيار. كذلك يعتقد شي أن فشل الاتحاد السوفياتي كان بسبب الوهن واللين الذي طغى على الساسة الروس، لا بسبب الركود الذي ضغط على موارد البلاد.
كذلك تعلم شي جين بينغ درسًا آخر، وهو أنه لا قيمة لأي قوة عظمى من دون سيطرة على الرواية والسردية. وإذا كان غورباتشوف قد تبنى نهج الانفتاح والشفافية، الذي يعرف بالغلاسنوست، فقد أقام شي ما يُعرف بجدار حماية الصين العظيم (Great Firewall of China).
حرص شي على أن ينأى بالصينيين عن تصديق السردية الغربية، وهو الأمر الذي أدى إلى تصاعد شرعية السردية الصينية في كل أنحاء العالم مقابل السردية الغربية التي تشيطن الصين وحكومتها وشعبها. الخلاصة أن شي عزم على ألا تكرر بكين خطأ موسكو أبدًا!
تبدى ذلك في جانب آخر من حكم شي. فمنذ وفاة ماو، ومع تبني سياسة الإصلاح والانفتاح، حرص الحزب على اختيار قادة يتجنبون الكاريزما الطاغية والسلطة المطلقة. كما يشير المؤرخ الأميركي غراهام أليسون، لم يكن الهدف الكفاءة وحدها، بل "ضمان ألّا يمتلك الزعيم جاذبية شعبية آسرة". ظنّت اللجنة المركزية أن شي سيكون متحدثًا مقبولًا باسم القيادة الجماعية، لا أكثر.
لكن جين بينغ خرج عن هذا التصور سريعًا. ففي خلال عامه الأول، جمع السلطات كافة بين يديه، حتى لُقّب "الرئيس ذا كل شيء" فقد عمد شي إلى اقصاء المنافسين داخل الحزب، إذ لم يعيّن نائبًا له، ولم يظهر خليفة واضحًا له، وقاد حملة تطهير داخلية أزاحت أسماء بارزة، على رأسهم جو يونغ كانغ، رئيس جهاز الأمن الداخلي، الذي أصبح أول عضو في اللجنة المركزية الدائمة يُحاكم بتهم فساد.
وبحلول عام 2017، أي بعد خمس سنوات من وصوله للحكم، ولشدة مركزيته، أضاف أفكاره إلى الدستور الصيني. التعديل على الدستور الصيني وضع فكر شي جنبًا إلى جنب مع الماركسية اللينينية، وفكر ماو تسي تونغ، ليكون أيديولوجية توجيهية للحزب الشيوعي الصيني.
وقد برّر الحزب هذا الإدراج بإنجازات شي خلال ولايته الأولى، قائلًا: "على مدى السنوات الخمس الماضية، وتحت إرشاد فكر شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، قاد الحزب الشيوعي الصيني الشعب الصيني من جميع القوميات في جهد متضافر لخوض نضال عظيم، وتطوير مشروع عظيم، ودفع قضية عظيمة، وتحقيق حلم عظيم، مُبشرًا بعصر جديد من الاشتراكية ذات الخصائص الصينية".
منح شي نفسه أكثر من عشرة ألقاب، من ضمنها رئيس مجلس الأمن القومي، والقائد الأعلى للجيش، وهو لقب لم يحصل عليه حتى ماو، مؤسس الصين الحديثة. لكن الخطوة الأكثر جرأة جاءت بعد عام، في 2018 عندما ألغى البرلمان الصيني، بأغلبية ساحقة، السقف الزمني لفترات الرئاسة. من أصل 2963 نائبًا، امتنع ثلاثة عن التصويت، وصوّت اثنان فقط بـ“لا"، مما عبّد الطريق لشي لحكم البلاد إلى أجل غير مسمى، وطويت صفحة "القيادة الجماعية" التي أسسها دنغ شياو بينغ بعد تجربة الحكم الفردي المضطرب في عهد ماو.
وفي عام 2023، انتُخب شي لدورة ثالثة بالإجماع رئيسا للصين ورئيسا للجنة العسكرية المركزية لجمهورية الصين، وهو أول رئيس صيني يحصل على هذا الاستثناء منذ عهد ماو. آنذاك، نشرت وكالة "شينخوا" الرسمية خبر الانتخاب بصيغة أدبية:
"تصاعد تصفيقٌ مُدوٍّ في قاعة الشعب الكبرى عند إعلان نتائج الانتخابات. نهض شي، مرتديًا بذلةً داكنةً وربطة عنقٍ عنابية، من مقعده وانحنى للمشرّعين".
وفقا لتقارير رسمية صينية، فإن إعادة انتخاب شي جين بينغ ارتبطت بما اعتُبر إنجازات اقتصادية واجتماعية كبيرة، مثل رفع الناتج المحلي، وتوسيع نظم التعليم والرعاية الصحية، لكن مراقبين يرون أن هذه النجاحات توازيها أيضًا تحديات تتعلق بالحريات السياسية وهيكل الحكم.
فقد ساهمت سياسات شي، خلال العقد الماضي، وبحسب هذه التقارير، في ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي للصين من 53.9 تريليون يوان عام 2012 إلى 121 تريليون يوان (حوالي 17.37 تريليون دولار أميركي). وقضت سياساته بشكل فعال على الفقر المدقع، وأنشأت أكبر أنظمة التعليم والضمان الاجتماعي والرعاية الصحية في العالم. وارتفع متوسط العمر المتوقع للصينيين من 74.8 إلى 78.2 عامًا خلال العقد الماضي.
وانضمت الصين إلى صفوف المبتكرين في العالم، وشهد الجيش الصيني إعادة هيكلة ثورية شاملة، ليصبح قوة قتالية أكثر حداثة وكفاءة، وأصبح الاقتصاد الصيني يُمثل أكثر من 18% من الاقتصاد العالمي خلال السنوات العشر الماضية، وتجاوز متوسط مساهمته في النمو الاقتصادي العالمي 30%.
خلال العقد الأخير شهدت الصناعات الصينية طفرة على مستوى القيمة والجودة وكان لسياسات الرئيس الصيني شي جين بينغ نصيب الأسد من هذا التطور (الفرنسية)وفيما يتعلق بملف الفساد ، وهو القضية المركزية داخل الحزب. أصدر شي ما يسمى "اللاءات الثلاثة" التي تتمثل في: لا للجرأة على الفساد، ولا للقدرة على الفساد، ولا للرغبة في الفساد.
بناء على ذلك، قام شي بإصدار تشريعات ووضع لوائح قانونية نتج عنها إنشاء لجان رقابية داخل الحزب، ونظام ردع لمحاربة الجرأة على الفساد. وتشير التقارير الصينية إلى أن لجنة الرقابة التي أنشأها شي تعاملت مع أكثر من 74000 شخص مشتبه في تورطهم في الفساد والرشوة.
هكذا، تحول شي، الذي رُفض انضمامه إلى الحزب تسع مرات، إلى رئيس بسلطات مطلقة. من منفى الكهف، إلى الرئاسة مدى الحياة في سن التاسعة والستين، رحلة امتدت ستين عامًا. وانتهت بالتحكم الكامل في الحزب والدولة. لكنها أيضًا، كانت بمثابة ردّ اعتبار متأخر لذاك الطفل المنفي. فقلب الأم يفعل أكثر من ذلك: لقد جعل من هذه الرحلة مشروع دولة، وشفاءً شخصيًّا في آن واحد.
لكن ماذا عن عصا التتابع التي كانت تظهر جليًّا في سياق الصعود والتحديث الصيني، وحيث بنى شي على ما تركه سلفه، كما قال؟ هذا التقليد الذي أشاد به شي أكثر من مرة كان هو نفسه من كسره، حين اصطدمت العصا بخططه الخاصة وأجندته خلال السنة الأولى، تمامًا كما أشار إليه في مقابلته عام 2002. ومن الداخل إلى الخارج، امتدت هذه الأجندة إلى العالم، حيث تبدأ حكاية أخرى: "العم شي" يتصدر العالم ويحل محل "العم سام".
تلقفت الوكالات الغربية تعبير "شي دادا" وعلّقت عليه بسلبية. فالعم سام، بطبيعته، لا يستوعب تفوق الآخرين، ولا يرى في نجاح أي نموذج آخر سوى تهديد، يستوجب التكسير أو السخرية. لكن ذلك لم يؤثر في صورة شي المحلية والعالمية على ما يبدو، وسواء اتفق المرء أو اختلف مع توجهات الصين، فإن شي شخصية محبوبة محليًّا وتحظى باحترام عالميًّا.
لقد تحدثت مع عدد من أصدقائي الصينيين، داخل الصين وخارجها، وبعضهم ناقد لسياسات الحريات الشخصية في بلادهم، لكنهم مع ذلك يستخدمون وصف "دادا" عند الحديث عنه، ويحترمونه باعتباره رجل عائلة قبل أن يكون رئيسًا. ليس فقط لرمزيته، بل لاقتناعهم بأنه يمثل نهجًا وطنيًّا في مواجهة السرديات الغربية، ويقود مشروعًا قوميًّا للنهضة. بالنسبة لكثيرين، فإن أي إساءة إلى شي تُعد إساءة إلى الجمهورية نفسها؛ لذا فإن دفاعهم عنه لا ينفصل عن دفاعهم عن الذات الوطنية.
يقف "العم سام" بعددٍ لا يُحصى من الناطقين الرسميين وغير الرسميين، يتلكؤون في ممارسة حرية التعبير في بلادهم، ولكنهم يتحولون إلى نقاد أشاوس عندما يتعلق الأمر بخيارات الآخرين في بلاد أخرى. في عام 2017، نشرت نيويورك تايمز تقريرًا بدأته بعبارة: "السيد شي… لا يزال غير قادر على مضاهاة عظمة ماو"، ثم تابعت: "السيد شي بعيد كل البعد عن اكتساب قاعدة جماهيرية مماثلة لماو". شبّه التقرير شخصية شي بشخصيات "استبدادية" مثل ستالين وهوشي منه، قائلًا:
"يُحاكي هذا اللقب الأبوي [شي دادا] قادةً استبداديين آخرين. فجوزيف ستالين، "أب الشعوب"، كان غالبًا ما يُحيط نفسه بالأطفال، مُجسّدًا بذلك سلطته المطلقة وكرمه. وهوشي منه، المعروف باسم "العم هو"، فعل الشيء نفسه في فيتنام". وإذا أمكن تجاوز الإشارة إلى ستالين، فلا يمكن التغاضي عن استحضار هوشي منه. فالاستعمار، حتى حين ينتهي، لا يتوقف عن ممارسة التنميط، ولا يكفّ عن التحقير من رموز من قاوموه. وهوشي منه لم يكن رمزًا عابرًا، بل قائدًا تاريخيًّا، حارب العم سام لتحرير جنوب فيتنام. هذه هي الحقيقة التي تستفزهم، وهي الأهم.
الرئيس الصيني شي جين بينغ (يسار) وزوجته بينغ لي يوان إلى مطار ماكاو الدولي بالصين، في 18 ديسمبر/كانون الأول 2019 (الأوروبية)أما هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فقد نشرت تقريرًا بعنوان "من هو شي دادا؟" اقتبس التقرير، الذي كان قصيرًا، مقابلات مصورة مع طلاب أجانب داخل الصين تحدثوا بإيجابية عن لقب "شي دادا". وللتقليل من صدقية هذه الآراء، ختم التقرير بنقد ساخر مأخوذ من تعليق كُتب تحت فيديو المقابلات: "كم تقاضوا؟".
يصف البعض هذه المقاربات بأنها لا تبتعد عن طريقة الغرب المعتادة في كسر الصور الرمزية للقيادة المُنافسة. وربما كان النقاش الذي يجدر بهؤلاء "الخبراء" أن يخوضوه يخص القلق من مستقبل الغرب أمام نهضة الصين، صعود العم شي مقابل سقوط العم سام، وليس الخوف على مستقبل الشعب الصيني.
افتقر الإعلام الغربي إلى ربط هذه الشعبية الصينية لشخص شي بمفهوم أعمق: الوطنية الصينية نفسها. فلقب "شي دادا" لا يمكن أن يُفهم خارج سياق "قرن الإذلال"، وهو جوهر برنامج "التعليم الوطني" في الصين، الذي يبدأ منذ سن الخامسة ويستمر حتى الدكتوراه. وفيما يراها البعض دعاية رسمية، فإن الصينيين يصرون على أنها بناء لذاكرة وطنية منظمة.
في قلب هذا التعليم، تقع حديقة مدمرة مشهورة جدًّا تسمى يوانمينغيوان في بكين. كانت يوانمينغيوان رمزًا للعظمة الإمبراطورية الصينية القديمة، وهي عبارة عن مجتمع ضخم من الحدائق والمعابد، وكانت مقرًّا صيفيًّا للأباطرة. دُمّرت بالكامل خلال حرب الأفيون، ونهبتها القوات البريطانية والفرنسية.
ومنذ ذلك الحين، لم تُرمم عن عمد، كأن الصين قررت أن تبقي الجرح مفتوحًا، حاضنًا لذاكرتها، شاهدًا على ما حدث. وتعد اليوم، رمزًا للهوية الوطنية والنهضة الصينية، ورسالة حية لأجيالها: صين ضعيفة ستكون فرصة للغرب لإعادة احتلالها.
هذا الموقع، الذي يُزار سنويًّا من قبل عشرات الآلاف من طلاب المدارس والجامعات، ليس مجرد مكان، إنه "نقطة الصفر" في السردية الوطنية الصينية. الحديقة لم تُنهب فقط، بل أُحرقت تمامًا. في عام 2017، أعلنت البروفيسورة غو دايهينغ انتهاءها من مشروع تقني ضخم لرسم خريطة رقمية لـ60% من المظهر الأصلي لقصر يوانمينغيوان، الذي عمل عليه 80 باحثًا واستمر مدة 15 عامًا. وجدت غو مذكرة بريطانية بقيت في المكان بعد انتهاء الاستعمار، كتب فيها أحد المستعمرين البريطانيين: "أريد أن أدمّر أكثر شيء يُحبه الإمبراطور، أريده أن يعيش أعمق أشكال الألم".
ومع ذلك، إحدى الصديقات أجابتني بتحفّظ قائلة: "يؤسفني عدم قدرتي على تزويدكم بالتناقضات والديناميكيات الداخلية، إذ لا نملك القدرة على معرفتها. المعلومات الواردة من شخص عادي مثلنا أشبه بالثرثرة، مما يجعلها غير موثوق بها". صديقة أخرى أضافت أن "الخلفية الشخصية لشي تُعد مسيّسة للغاية داخل الصين، وتتأثر بشكل مباشر بالروايات الرسمية. ويمكن القول إن معظم ما هو متاح مصدره الإعلام الحكومي والمنشورات المرخّصة، ومن النادر جدًّا العثور على وجهات نظر نقدية كتبها باحثون من البر الرئيسي، وخصوصًا باللغة الإنجليزية، بسبب الحساسيات السياسية".
هذا الغموض ليس غريبًا في السياق الصيني؛ فالبلاد تفرض رقابة مشددة على الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، وتمتلك أنظمة مراقبة وتحكم صارمة على المحتوى الإعلامي. ولكن نظرة أعمق إلى كيفية إدارة شي للسلطة تكشف أن ما يبدو وكأنه "حكم فردي قوي" يرتكز على أسس إستراتيجية معقدة تتضمن إعادة هندسة مؤسسات الدولة والحزب معًا. فرغم أن الصين تبدو ظاهريًّا دولة مؤسسات، فإن القواعد التي تحكم الحياة السياسية فيها، مثل حدود السن والتقاعد والفترات الزمنية للمناصب، ليست سوى أدوات مرنة يستخدمها القادة الكبار في سياق إدارتهم للمشهد.
ففي عام 1997، استخدم جيانغ زيمين، الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني حينها، قاعدة تقاعد القادة ممن تجاوزوا 70 عامًا لإقصاء خصمه، رغم أنه هو نفسه كان أكبر من تلك السن.
وبعدها في 2002، خفّض السن إلى 67 لإقصاء خصم آخر. شي جين بينغ ذهب أبعد من ذلك، إذ استغل مرونة هذه القواعد بشكل أكثر فاعلية، فأقصى التيارات المنافسة داخل الحزب، وقلّص نفوذ فصيل "رابطة الشبيبة" إلى أدنى مستوياته؛ فعلى سبيل المثال، بين عامي 2007 و2012، كان أربعة من أصل تسعة أعضاء في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي من هذا الفصيل، أما بين عامي 2017 و2022، فبقي منهم عضو واحد فقط.
الرئيس الصيني شي جين بينغ (وسط) والرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يسار) ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون يشاركون في عرض عسكري ببكين بمناسبة الذكرى الـ80 لنهاية الحرب العالمية الثانية، 3 سبتمبر/أيلول 2025 (رويترز)ويرى شي أن هذا التشديد في السيطرة ليس فقط ضرورة سياسية، بل هو حلّ لمشاكل عميقة ورثها عمن سبقوه. فقد أصدر وثيقة سياسية كبرى تُعرف بـ"القرار التاريخي"، اتهم فيها القادة السابقين بالضعف والتهاون، وبأنهم تسببوا في ضعف قدرة الحزب على تنفيذ السياسات، وسمحوا للفساد بأن ينتشر، مما أضرّ بصورة الحزب ووحدته.
كما اعتبر أن التركيز المفرط على النمو الاقتصادي أفرز مشاكل بنيوية عميقة، لا يمكن حلها إلا من خلال تعزيز قيادة الحزب في كل مفاصل الدولة. بل وحتى الجيش، رأى أن ضعف السيطرة عليه سابقًا هدّد ليس فقط الأمن القومي، بل بقاء الحزب نفسه.
لهذا السبب، يبرّر شي سلطته الشخصية القوية بأنها ضرورية لوحدة الحزب والدولة، ويستند في ذلك إلى رأي خبراء مثل البروفيسور شيوي تشي قوه، الذي يرى أن وجود زعيم واحد قوي يساعد الحزب في فرض نفوذه داخل المجتمع، ويزيد من استعداد الناس لطاعة أوامره. ويشير آخرون إلى أن الحزب قد يكون فعلًا اختار شي لهذا الغرض في 2012، بعد أن شعر بخطر ضعف القيادة خلال فترة زعامة هو جينتاو.
ويبدو أن رؤية شي تستند أيضًا إلى دروس انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ يُظهر تركيزًا شديدًا على ما يراه أسبابًا أساسية لسقوط الحزب الشيوعي السوفياتي، مثل: تراجع الإيمان بالأيديولوجية، وفقدان السيطرة على الرواية التاريخية، وتفكك البنية التنظيمية، وانفلات الجيش من سيطرة الحزب.
لذلك، فإن ما يقوم به شي اليوم من تعزيز سلطته وسلطة الحزب يبدو ترجمة عملية لذلك الاقتناع، وهو أن البقاء والاستقرار لا يتحققان إلا بمركزية شديدة في السلطة، لذلك قام بإقصاء المعارضة.
تزامن صعود شي جين بينغ إلى قمة السلطة في الصين عام 2012 مع اندلاع ثورات الربيع العربي، التي أعادت تشكيل المشهد السياسي في العديد من الدول العربية وأعادت ضبط الخيال السياسي في المنطقة. إلا أن هذا التغير الكبير في المنطقة العربية لم يقابله تحول جوهري في سياسة الصين الخارجية اتجاه تلك الأحداث.
لم يظهر شي بموقف مغاير لسابقَيه، بل حافظ على سياسة الحذر وعدم التدخل المباشر، متبنّيًا موقفًا خطابيًّا واحدًا اتجاه جميع الثورات، تمثل في الدعوة إلى: ضبط النفس، واعتماد الحلول السلمية، وتفعيل دور مجلس الأمن.
لكن قراءة هذا الموقف لا تكتمل إلا بفهم الخلفية الفلسفية التي تحكم السلوك الصيني الخارجي. فقد التزمت صين شي بإرث دينغ شياو بينغ في البراغماتية السياسية. هذا يتضح من طريقة تعامل الصين مع نتائج الثورات: فهي لا تبني علاقاتها على أساس أيديولوجي أو انحياز سياسي، بل على أساس من ينجح في الإمساك بالسلطة، أيًّا كان لونه، أو توجهه، أو شرعيته. كما قال دينغ: "لا يهم إن كان لون القط أبيض أم أسود، ما دام يصطاد الفئران".
وبتطبيق هذا المنطق، أقامت الصين علاقاتها مع الأنظمة التي أفرزتها الثورات، سواء كانت إسلامية أو عسكرية أو انتقالية، دون تمييز يُذكر، مع حرص واضح على تجنّب الوقوف إلى جانب طرف معين في لحظات عدم الاستقرار. الاستثناء الوحيد البارز لهذا النمط هو التعامل مع الثورة السورية، ولكن سرعان ما عادت إلى إستراتيجية لون القط.
ففي بدايات الثورة السورية، تمسّكت بكين بموقف تقليدي يدعو إلى الحلول السلمية و"قيادة سورية" للعملية السياسية، وأبدت ترددًا ملحوظًا في دعم نظام بشار الأسد بشكل مباشر. لكنها مع الوقت، وخصوصًا بعد أن تمكن النظام من الصمود عسكريًّا بدعم روسي، تحوّلت إلى تبنّي روايته بالكامل: دعمه في محاربة "الإرهاب"، وتبرئة ساحته من الأزمة الإنسانية، وتحميل الغرب مسؤولية الانهيار السياسي والاقتصادي في البلاد.
الرئيس الصيني شي جين بينغ (يمين) مع الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في مدينة هانغتشو شرقي الصين، بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول 2023 (رويترز)وعندما سقط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، تغيّر الخطاب الصيني فجأة وعاد إلى الحذر والانضباط الدبلوماسي. حيث امتنعت الصين عن إصدار أي دعم صريح للنظام السابق، واكتفت بالتعبير عن "القلق" والدعوة إلى "استقرار الوضع"، مؤكدة ضرورة التوصل إلى تسوية سياسية تحفظ مصالح الشعب السوري، دون أن تُشير إلى الأسد أو حكومته.
هذا التحول يعكس الطبيعة العميقة لسياسة "لا يهم لون القط"، فالصين دعمت القط ما دام قادرًا على فرض الاستقرار. أما بعد سقوطه، فسرعان ما انكمشت إلى وضع الحياد الحذر، مفضّلة أن تنتظر التوازن الجديد قبل أن تُقرر دعم طرف بديل. وهذا يدل على أن الولاء في السياسة الصينية ليس شخصيًّا أو أيديولوجيًّا، بل هو وظيفي تحكمه المتغيرات.
هكذا، تُظهر الأزمة السورية وباقي ثورات الربيع العربي، كيف أن براغماتية شي ليست مجرد مبدأ نظري، بل ممارسة سياسية مرنة تقيس العلاقة بالأنظمة من خلال قدرتها على الاستمرار، لا من خلال شرعيتها أو سرديتها. لكن إذا كان هناك استثناء، فهي علاقة الصين بإسرائيل!
على صعيد القضية الفلسطينية وعلاقات الصين مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، شهد الموقف الصيني منذ السبعينيات تحولات متدرجة؛ من دعم صريح للقضية الفلسطينية إلى انفتاح غير معلن، ثم إلى علاقات علنية وثيقة مع إسرائيل.
ومع وصول شي جين بينغ إلى الحكم، تسارعت الاستثمارات الصينية، بما في ذلك في المستوطنات الإسرائيلية، في تناقض واضح مع تأكيد بكين المتكرر على حتمية قيام الدولة الفلسطينية.
وقد تعززت العلاقات الصينية الإسرائيلية بصورة لافتة، خصوصًا في قطاع التقنية. فبحسب دراسة لمؤسسة راند، استثمرت الشركات الصينية ما لا يقل عن 5.7 مليارات دولار بين عامي 2011 و2018 في هذا القطاع، لتصبح الصين لاحقًا الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل في آسيا ، وأكبر مصدر لها عالميًا بحلول عام 2024، بصادرات بلغت 19 مليار دولار، أي في خضم الإبادة.
هذا التقارب انعكس على خطاب بكين السياسي تجاه الصراع؛ إذ تراجعت حدة انتقاداتها لإسرائيل. فمع أن الصين اعتادت انتقاد الفيتو الأميركي في مجلس الأمن بشأن فلسطين، فإنها لم تُدن قط خط الإمداد العسكري الأميركي الضخم إلى إسرائيل. بل إن وثيقة "الهيمنة الأميركية وأخطارها" الصادرة عام 2023، التي تستعرض تدخلات واشنطن عالميًا، تجاهلت كليًا ذكر فلسطين، وهو التجاهل ذاته الذي تكرر في أبريل/نيسان 2024 مع صدور وثيقة "النفاق والحقائق حول المساعدات الخارجية الأميركية"، رغم أن الحرب على غزة كانت في ذروتها آنذاك.
الرئيس الصيني شي جين بينغ (يمين) ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (رويترز)وبدلاً من أي ضغط فعلي على إسرائيل، اتجهت الصين إلى ملف المصالحة الفلسطينية عبر ما سُمّي "إعلان بكين"، وهو تحرك رمزي لم يغير في جوهر الأزمة. وحتى اليوم، لم تصف بكين ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية"، رغم اعتماد هذا التوصيف من هيئات قانونية دولية ودول عديدة، مكتفية بلغة حذرة تصف المأساة بأنها "أزمة إنسانية".
تطرح هذه المسارات تساؤلات حول مستقبل الموقف الصيني: هل تواصل بكين مقاربتها البراغماتية التي توازن بين مصالحها الإستراتيجية وعلاقاتها مع إسرائيل، أم أن ضغوط الصراع ستدفعها إلى مراجعة سياساتها؟
تقع مقاطعة شنشي، مسقط رأسي، على مشارف طريق الحرير القديم. واليوم، وأنا أقف هنا وأسترجع تلك الحقبة من التاريخ، أكاد أسمع صدى أجراس الجمال في الجبال، وأرى دخانًا كثيفًا يتصاعد من الصحراء
بواسطة الرئيس الصيني في خطاب إطلاق مبادرة الحزام والطريق عام 2013
ربما يمكن فهم موقف الصين من إسرائيل بالنظر إلى أن بكين لا ترى شيئًا أكثر أهمية من مشروعها الكبير، الذي يمكن أن تؤدي فيه تل أبيب دورًا ما. ففي ظل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، تؤدي إسرائيل دورًا إستراتيجيًّا محوريًّا بوصفها بوابة بحرية وأرضية مهمة نحو أوروبا وأفريقيا. موقعها على البحر المتوسط يجعل منها عقدة وصل تربط بين آسيا والغرب، وتطوير بنية تحتية مثل مشروعات السكك الحديدية والموانئ يعزز من قدرتها على الربط بالشبكة اللوجستية العالمية التي تقودها الصين، ويدعم مشروع “ممر البحر الأحمر والمتوسط” لتجاوز قناة السويس وتقصير زمن الشحن.
ويأتي دور إسرائيل أيضًا في دعم الإستراتيجية الصينية للانتقال من منصب “ورشة تصنيع العالم” إلى دورٍ ريادي في الابتكار التكنولوجي. فقد استثمرت الشركات الصينية الكبرى في عدد من الشركات الإسرائيلية التقنية، مما يمكّن بكين من الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي والطاقة والزراعة المتقدمة، التي قد لا تستطيع الوصول إليها بطريقة مباشرة عن طريق الولايات المتحدة أو حتى أوروبا.
في مبادرة الحزام والطريق، لم يكن شي يطلق مشروعًا اقتصاديًّا فحسب، بل يصوغ امتدادًا لسردية شخصية حضارية تمتد من مسقط رأسه إلى كل أوراسيا. وقد يُرى هذا أيضا إعادة صياغة لمقولة صامويل هنتنغتون: "الغرب في مواجهة البقية" The West vs. the Rest إلى "البقية حول الصين" The Rest Around China بما فيها الغرب، ولكن ليس صراعًا، بل هو اندماج وتعاون.
بذلك، يُعيد شي بعث الذاكرة الإمبراطورية من قلب نشأته، وبإطلاق مشروع طريق الحرير الجديد لم يكن يُطلق خطة دولية، بل يبعث طريقًا من ذاكرة شخصية؛ وتصبح شنشي، مسقط رأس شي، نقطة البدء لـ"مشروع القرن". لقد كان ذلك اختيارًا مقصودًا يمنح المشروع بعدًا زمنيًّا وشخصيًّا في آن معًا. فإذا كان هذا هو "مشروع القرن"، فربما كان عنوان هذا القرن "قرن شي"، وأصبحت الصين تُختزل رمزيًّا في شخصه، لا العكس. وهكذا، وللتاريخ القادم، سيظل اسم شي ومسقط رأسه مركز كل سردية وإنجاز يتحقق على امتداد هذا الطريق، سردية أُعدت لتبقى… أبدية.
في لغة واشنطن، لم يكن طريق الحرير مجرد شبكة لوجستية، بل "حصان طروادة صيني" انطلق ولن يتوقف. ففي جلسة استماع في الكونغرس الأميركي عام 2019، وُصفت مبادرة الحزام والطريق بأنها "حجر الزاوية في السياسة الخارجية العدوانية التوسعية للحزب الشيوعي الصيني،" وأنها تُشكّل تهديدًا ثلاثيًّا لأميركا وحلفائها: تلاعب تجاري، واستغلال اقتصادي، وتآكل أمني.
شبّه المتحدثون المشروع بلعبة الشطرنج الصينية "غو"، التي لا تظهر فيها الإستراتيجية في بداياتها، بل تُحاط الرقعة بهدوء، ثم تُغلق اللعبة على الخصم، حين لا يعود في مقدوره الرد، وعندها تتم مواجهته "بلا هوادة".
وفي مواجهة طروادة، تناوب رجال العم سام على رجمه بالتصريحات، فقال باراك أوباما: "نفوذ شي… يشجع نزعة قومية شرسة"، وقال جو بايدن: طريق الحرير "مصدر للإزعاج" و"مقبرة للمشاريع الفاشلة"، ووصف شي بأنه "دكتاتور". أما دونالد ترامب، فقد رأى في جولات شي في آسيا "إزعاجًا للولايات المتحدة"، ووصف الصين بأنها "دولة تحريفية"، وطريق الحرير بأنه "فخ للديون". ومع ذلك، لم يُخفِ إعجابه بشخصية شي، وكرر أكثر من مرة: "أنا معجب بهذا الرجل… إنه رجل لامع".
راقبوا ذلك الرجل
بواسطة لي كوان يو، رئيس سنغافورة وصديق شي جين بينغ، تعقيبا على وصوله للحكم
في السنوات الأخيرة، برز شي جين بينغ أحد أكثر القادة المعاصرين تناولًا في الأدبيات الأكاديمية الدولية، متجاوزًا أحيانًا أسماء غربية كانت دائمًا في صدارة هذا النوع من الاهتمام. على سبيل المثال "الفكر السياسي لشي جين بينغ"، و"شي جين بينغ: حوكمة الصين" جنبًا إلى جنب مع تحليلات مثل "حزب الفرد الواحد: صعود شي جين بينغ ومستقبل الصين كقوة عظمى"، و"عن شي جين بينغ: كيف يُعيد شي تشكيل الصين والعالم من خلال الماركسية"، و"شي جين بينغ: المسيرة السياسية، الحوكمة والقيادة".
بل وُصف بـ"الإمبراطور الأحمر" في كتاب يحمل العنوان ذاته، وظهر باعتباره "أقوى رجل في العالم" كما في الكتاب الذي حمل هذا التوصيف صراحة، وخصصت له دراسات تحليلية مثل "أثر شي جين بينغ"، و"الثورة الثالثة: شي جين بينغ والدولة الصينية الجديدة".
حتى والده، شي تشونغ شيون، لم يغِب عن هذا التدويل، إذ كُرّست له أعمال مثل "مصالح الحزب أولًا: حياة والد شي جين بينغ"، في حين تناولت دراسات أوسع تاريخ الصين الحديث من خلال شخصه، مثل "بناء الصين الحديثة: من عهد أسرة تشينغ إلى شي جين بينغ"، و"صين شي جين بينغ: الشخصي والسياسي"، و"دع الزهور الحمراء وحدها تتفتح: الهوية والانتماء في صين شي جين بينغ".
أما طموحاته الدولية، فقد تناولتها مؤلفات مثل "الجرأة على النضال: طموحات الصين العالمية في عهد شي جين بينغ"، و"سعي شي جين بينغ إلى آسيا متمركزة حول الصين (2013–2024): فك شيفرة التفكير الإستراتيجي الصيني في فترة محورية".
في الغرب، لم تعد تُطرح الأسئلة عن "أجندات الصين،" بل عن "الأجندات الخفية لشي"، كما يظهر في كتاب "شي جين بينغ: الأجندات الخفية لحاكم الصين مدى الحياة"، بينما وُضعت العلاقة الصينية الأميركية في إطار التحذير الإستراتيجي كما في "الحرب الممكن تجنبها: أخطار صراع كارثي بين الولايات المتحدة وصين شي جين بينغ".
جانب من لقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ (يمين) مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فترته الأولى عام 2019 في قمة العشرين في أوساكا اليابانية (رويترز)حتى الأسئلة البسيطة مثل "من يكون هذا الرجل؟ أصبحت تصاغ في عناوين شبه بوليسية مثل "من هو شي جين بينغ؟ قصة زعيم الصين ورحلته نحو السلطة".
وهكذا، من صفحات البحث الأكاديمي إلى رفوف المكتبات السياسية والقراءات الشعبوية، أصبح اسم شي جين بينغ ظاهرة، ومدخلًا لفهم هذا العالم المتغيّر. ومن أراد أن يفهم أين يتجه العالم، فعليه أن يبدأ من هناك… من شي، حيث يُكتب الآن فصل جديد من المستقبل، يحمل توقيع "شي" كما في كتاب "كيف يرى شي جين بينغ العالم؟ ولماذا؟".
عن شي، يقول الباحث كيري براون في ورقة بحثية بعنوان "قوة شي جين بينغ": "إن الحزب هو من وجد شي، لا العكس. لقد كان بحاجة إلى شخص يحمل إيمانًا فطريًّا وبسيطًا بوظيفته وقدسيته". أما إليزابيث إيكونومي، فتقول في كتابها الثورة الثالثة: شي جين بينغ والدولة الصينية الجديدة: إن شي يتحدث عن "أعظم حلم في تاريخ الأمة الصينية الحديث" الذي أصبح يُعرف لاحقًا باسم "الحلم الصيني"، حلمٌ جماعي، على النقيض من النسخة الأميركية الفردية"، وتضيف أن هدف شي من طريق الحرير هو أن يجعل "كل الطرق تؤدي إلى بكين".
تفاديًا لمصير الاتحاد السوفياتي الذي عزاه شي إلى انعدام الشجاعة على المقاومة، حافظ الرجل على شجاعته في النقد الذاتي وتصويب مسار الحزب الشيوعي الصيني ليس بهدف تفادي المصير السوفياتي فحسب، بل الوصول إلى موقع قيادة العالم.
في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، سادت في الأوساط الفكرية والسياسية الصينية مخاوف عميقة من تغيير سردية "الصعود السلمي"، إذ إن أي تحوّل في نبرة الخطاب أو السلوك قد يدفع واشنطن إلى محاولة احتواء الصين، كما فعلت مع الاتحاد السوفياتي. ولذلك، اختير القادة بمنتهى الحذر، فكان هو جينتاو، سلف شي، "مفتقدًا للكاريزما" يوصف بـ"البيروقراطي الكئيب والعديم الذوق والباهت، والمُتقن لفن الخطب المنوّمة والمماطلة".
يقول المؤرخ الصيني تشانغ ليفان: "كان هو جينتاو إداريًّا خجولًا، يتحدث كأنه في غير مكانه. أما شي، فهو وريث عائلة ثورية، ويتحدث كما لو كان في بيته". وبعد زيارة لي كوان يو لبكين، وضعه في مصافّ الثوار الكبار، وقال: "لديه رأيه الخاص… أضعه في فئة نيلسون مانديلا".
فشي لا يحمل كاريزما فارغة، بل معبأة بالتاريخ الذي، من وجهة نظره، لا ينبغي أن يكرر إلا في حالة واحدة: استعادة عظمة الصين. لذلك فالتاريخ بالنسبة له، ليس ماضيًا، بل درس حيّ، وتحذير دائم.
يعيد شي دائما الإشارة إلى قرن الإذلال، ليس فقط لتذكير الصينيين، بل هي رسالة إلى الغرب: لن نسمح بأن يكرر التاريخ نفسه. حتى التجارب التاريخية للآخرين لها أهمية قصوى ومركزية، إذ ينظر شي إلى تاريخ انهيار الأحزاب الشيوعية في العالم على أنه دروس تحذيرية للحزب الشيوعي الصيني، وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوفياتي.
في هذا السياق، لا يبدو شي منشغلًا بتقويم أخطاء التاريخ، بل بالحفاظ عليه كأداة تعبئة وشرعية، ويرى أن مجرد التشكيك في رموزه هو مدخل محتمل للانهيار. وبذلك، فإن التمسك بالحزب والاستمرار في بنائه هو القاعدة الأساسية لاستكمال مشروع النهضة الصينية، التي وضع لها شي تاريخًا محددًا يتوافق مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية الشعبية الصينية، بحلول منتصف القرن الجاري.
ففي خطاب داخلي تساءل شي: "لماذا تفكك الاتحاد السوفياتي؟ لماذا انهار الحزب الشيوعي السوفياتي؟ ليجيب بأن السبب هو اهتزاز المُثُل والمعتقدات لدى الشيوعيين آنذاك. وأضاف: "إنه درسٌ عميق لنا! إن تجاهل تاريخ الاتحاد السوفياتي والحزب الشيوعي السوفياتي، ورفض لينين وستالين، ورفض كل شيء آخر، هو انخراط في العدمية التاريخية، وهو يُربك أفكارنا ويُقوّض منظمات الحزب على جميع المستويات".
في خطاب المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر/تشرين الأول 2017، وهو الخطاب الذي بدأنا به مقالنا وشهد تفاعلًا عاطفيًّا شديدًا من مندوبي الحزب، أعلن شي بداية "عصر جديد" للصين بوصفها قوة عظمى، وقال بفخر: "الشعب الصيني شعب عظيم، والأمة الصينية أمة عظيمة، والحضارة الصينية حضارة عظيمة… سنكتب فصلًا أكثر إشراقًا في رحلتنا الجديدة نحو… الحلم الصيني بالتجديد الوطني العظيم".
لقاء رئيس الوزراء الصيني تشو جونغ تاي (يمين) مع وزيرة الخارجية الأسترالية في يونيو/حزيران 2024 (غيتي)في رؤيته لعالم ما بعد الهيمنة الغربية ، يسعى شي إلى أن تحل الصين محل الولايات المتحدة في أدوار القيادة العالمية. فهو لا يوجّه خطابه إلى الداخل الصيني فحسب، بل يقدّم مشروعًا سياسيًّا واقتصاديًّا يُطرح كنموذج بديل لما مثّله العم سام لعقود.
وبالتالي، يحاول شي أن يجعل تجربة الصين نموذجًا قابلًا للتصدير. وقد عبّر عن ذلك صراحة حين قال: "إن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية تقدم خيارًا جديدًا للدول والأمم الأخرى التي تسعى إلى تسريع تنميتها مع الحفاظ على استقلالها؛ فهي تجسد الحكمة الصينية وتقدم نهجًا صينيًّا لمعالجة التحديات التي تواجه البشرية".
وكأن رسالته الضمنية تقول: بعدما أدّت مشاريع التحوّل الديمقراطي المدعومة من الغرب إلى جلب "كوارث عالمية"، جاء الوقت لطرح بديل صيني يعد بالاستقرار والنمو دون التفريط في السيادة الوطنية. وهو ما يطرح تساؤلًا جديًّا: هل يمكن أن يكون الاستقرار الذي يعد به هذا النموذج دليلًا على أن الحكم غير الديمقراطي، حين يكون فعّالًا، قد ينجح بالفعل؟
بعد خمس سنوات فقط، انتقل شي من الحديث عن صعود الصين وكونها قوة عظمى، كما جاء في خطابه لعام 2017، إلى الحديث عن قيادتها للعالم. في المؤتمر العشرين عام 2022، قال: "سنواصل العمل الجاد لبناء الصين لتصبح دولة اشتراكية حديثة عظيمة تقود العالم من حيث القوة الوطنية المركبة والنفوذ الدولي بحلول منتصف القرن".
في إطار رؤيته لـقيادة العالم، خلال عقد واحد، توسّع نفوذ الصين بشكل ملحوظ، توسعت منظمة شنغهاي للتعاون، وتعززت مكانة مجموعة البريكس دوليا. لكن شي، الذي وصف القيادة بأنها "عصا تتابع"، لم يكتفِ بالحفاظ على إرث من سبقوه، بل انطلق نحو مشاريع أوسع وأكثر طموحًا.
كسر شي نموذج الصعود الهادئ والمتدرج وأطلق مبادرة " الحزام والطريق " عام 2013، بهدف تحويل الصين إلى مركز رئيسي للتجارة العالمية: تبدأ منها حركة التجارة وتنتهي عندها. لكن الجانب الأكثر إثارة للجدل في هذه المبادرة كان حجم الاستثمارات في البنية التحتية التي تربط الصين بعشرات الدول.
ومع مرور الوقت، شملت هذه الاستثمارات موانئ ومطارات وطرقًا حيوية، مما أتاح للصين حضورًا فعليًّا في مواقع تُعد نقاط عبور مركزية في حركة التجارة الدولية. ويرى بعض المحللين أن هذه المواقع، التي تُشبه "مداخل ومخارج الدول"، قد تمنح بكين أشكالًا من التأثير تتجاوز الاقتصاد.
ولتعزيز الطريق، قام بتأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، الذي اعتبرته واشنطن تهديدًا مباشرًا لنفوذها المالي العالمي، لا سيما في ظل تداخله مع أدوار البنك الدولي ومنافسته لنظام بريتن وودز. ورغم الضغوط الأميركية، انضمت إلى البنك دول حليفة للولايات المتحدة مثل بريطانيا، وأستراليا، والهند، وفرنسا، وألمانيا، مما عزز شرعية الصين والمشروع على المستوى الدولي.
وفي جيبوتي، أنشأ شي أول قاعدة عسكرية صينية خارجية. وفي عام 2020 تم توقيع اتفاقية التجارة الحرة الأضخم في التاريخ بين دول الآسيان العشر، والصين، ونيوزيلندا، وأستراليا، واليابان، والهند، وكوريا الجنوبية. أطلق شي أيضًا "مبادرة التنمية العالمية"، و"مبادرة الأمن العالمي"، التي دعت الدول إلى التعاون مع الصين لمواجهة التحديات الأمنية، و "الكوارث العالمية"، التي نتجت من الهيمنة الأميركية، كما تقول الصين.
لم يكتفِ شي بإطلاق المبادرات وتوسيع النفوذ عبر الاستثمارات والاتفاقيات، بل مضى خطوة أبعد نحو مواجهة واشنطن مباشرة، متخليًا بذلك عن سياسة الابتعاد عن المواجهة المباشرة التي التزم بها كل من سبقه. ففي الآونة الأخيرة، بدأ الخطاب الصيني يتغير جذريًّا، فخلال السنوات الثلاث السابقة، نشرت بكين وثائق رسمية فيها عناوين تعتبر الولايات المتحدة "سبب انعدام الأمن العالمي" و"مصدر للكوارث الدولية".
الرئيسة التنزانية سامية سولوهو حسن (يمين) أثناء وصولها إلى مطار العاصمة بكين لحضور منتدى التعاون الصيني الأفريقي في سبتمبر/أيلول 2024 (غيتي)وفي سابقة لافتة، أصدرت الصين في فبراير/شباط 2023، خلال أربعة أيام فقط، سلسلة من الوثائق، أبرزها: " الهيمنة الأميركية ومخاطرها "، وهي أول وثيقة تُخصّص بالكامل لسردية رسمية تضع الولايات المتحدة في موقع التهديد المباشر لاستقرار العالم.
لكن التحوّل الأعمق لم يكن في انتقاد واشنطن بحد ذاته، بل في نبرة الوثيقة نفسها، التي حملت اعترافًا ضمنيًّا بأن الهيمنة ليست بالضرورة أمرًا مرفوضًا، بل إن المشكلة تكمن في إساءة استخدامها. الآن لا يبدو أن شي يرفض فكرة القيادة الدولية، بل يعيد صياغتها على طريقته: قيادة، كما يروّج لها، تُمارس بالمسؤولية لا بالاستغلال، وبالشراكة لا بالإكراه.
وفي هذا الإطار، يقدّم نفسه بوصفه صاحب مشروع جديد: الهيمنة الحميدة! وفي وثيقة أخرى بعنوان "النفاق والحقائق حول المساعدات الأميركية الخارجية"، تُفكك بكين السجل الأميركي في دعم الحروب والانقلابات، منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، لتقول ضمنًا: إن من يوزّع المساعدات لا يفعل ذلك من أجل التنمية، بل لتأبيد النفوذ.
في هذا النوع من الخطاب، لا يكتفي شي بتعظيم موقعه، بل يبنيه عبر استغلال نقاط ضعف الطرف الآخر. فالصعود هنا لا يقوم فقط على تطور الذات، بل على نزع شرعية من احتل الموقع من قبل.
كان واضحًا أن المسار الذي تقوده الصين لم يُصمَّم فقط للربح أو النفوذ، بل لحمل معنى أعمق: أن تُشهر أمةٌ نهوضها. شي جين بينغ لم يصعد وحده، كانت صينٌ كاملة تصعد معه، وهو ما يعكس التداخل بين الفرد والمرحلة. يمكن القول بأن رحلة شي إلى القمة كانت بمثابة مرآة لرحلة الصين: إذلال، طرد، صراع داخلي، ثم سلطة. أصبح زعيمًا "إلى الأبد"، كما تُريد الصين لنفسها أن تكون: صاعدة إلى الأبد، بلا رجعة، بلا إذلال. هكذا تتقاطع سيرة الرجل مع سيرة الأمة: كلاهما عاش الانكسار، وكلاهما قرر ألا يعود إليه.
في كتاب الصين، يبدو أن اسم شي لن يكون هامشيًّا؛ بل هو سطرٌ رئيسي، وربما عنوانٌ لمرحلة طويلة من تاريخها المقبل.
لكن السؤال الأهم يبقى مطروحًا أمام العرب: هل سيكون لهم دورٌ فاعل في هذا التاريخ الذي يتشكل أمام أعيننا، أم يستمر التيه السياسي بين قوة عظمى تصعد وأخرى مهيمنة بدأت في الانحدار؟