تتجه أنظار العالم نحو مدينة غزة، إحدى أقدم المدن الفلسطينية، وسط حديث عن مخطط إسرائيلي لاحتلال المدينة وتهجير سكانها إلى مخيمات في الجنوب.
هذه المدينة التي يرى أهلها في طائر العنقاء رمزاً "للنهوض مجدداً رغم الدمار، كما ينبعث الطائر الأسطوري من رماده"، وهو الشعار الذي تبنّته بلدية المدينة رسمياً.
تُعد مدينة غزة من بين أقدم مدن العالم، وتقع في موقع استراتيجي عند ملتقى قارتي آسيا وأفريقيا، مما جعلها ملتقى صراعات الإمبراطوريات القديمة، ومن بينها الفرعونية والآشورية والفارسية، وفق مصادر تاريخية.
ويذكرالمؤرخ الفلسطيني عارف العارف في كتاب "تاريخ غزة" أنه جرى ذكر المدينة في سفر التكوين باعتبارها من أقدم مدن العالم، حيث سكنها الكنعاني من نسل حام بن نوح، وفي رواية أخرى أنها كانت قائمة عندما احتلها الكنعانيون وأخذوها من العموريين.
ففي كتاب صدر عام 1907 للحاخام الأمريكي مارتن ماير عن غزة، وصفها المستشرق الأمريكي ريتشارد غوتهيل في مقدمته قائلاً بأنها "مدينة مثيرة للمهتم بدراسة التاريخ".
وأوضح غوتهيل أهميتها الاستراتيجية قائلاً إنها "نقطة التقاء للقوافل التي كانت تنقل بضائع جنوب الجزيرة العربية والشرق الأقصى إلى البحر الأبيض المتوسط، ومركز توزيع هذه البضائع إلى سوريا وآسيا الصغرى وأوروبا، وهي كذلك همزة الوصل بين فلسطين ومصر".
وتقول موسوعة القرى الفلسطينية إن المدينة حملت عبر التاريخ أسماء متعددة من الحضارات التي تعاقبت عليها، حيث أطلق عليها الآشوريون اسم "عزاتي"، المشتق من العزّة، الذي يعكس "قوتها وصمودها أمام الغزاة".
ويشير صفرونيوس صاحب قاموس العهد الجديد الذي صدر عام 1910، إلى أن "غازا" كلمة فارسية تعني الكنز الملكي، وهو معنى لا يبتعد كثيراً عمن يقول إن "غزة" كلمة يونانية تعني الثروة أو الخزينة.
وعرفت أيضاً بـ"غزة هاشم" نسبة إلى هاشم بن عبد مناف، جد النبي محمد، الذي توفي ودُفن فيها، مما منحها مكانة دينية وتاريخية لدى المسلمين.
ومن أبرز المعالم الأثرية التي تمتاز بها المدينة، المسجد العمري ومسجد السيد هاشم وكنيسة برفيريوس، التي تعد من أقدم الكنائس الأثرية التي يعود بناؤها إلى أوائل القرن الخامس الميلادي.
واُحتلت المدينة من قبل إسرائيل في عام 1967 بعد الحرب التي أصبحت توصف لاحقاً بـ"النكسة"، وظلت تحت الإدارة العسكرية الإسرائيلية حتى عام 1994، عندما بدأ النقل التدريجي للسلطة الحكومية إلى الفلسطينيين.
وفي عام 2005 أكملت إسرائيل انسحابها من قطاع غزة تحت ما سمي خطة "فك الارتباط" وسلمت السيطرة على المنطقة للفلسطينيين، بهدف "تقليل حجم الاحتكاك بين الإسرائيليين والفلسطينيين وتعزيز أمن مواطني إسرائيل"، وفق ما أورده نص الخطة.
لكن إسرائيل حافظت على سيطرتها على المعابر والحدود، بالإضافة إلى المجالين الجوي والبحري.
أما اليوم فمدينة غزة أكبر مدن قطاع غزة، وتمتد على مساحة تقارب 56 كيلومتراً مربعاً، ويبلغ عدد سكانها نحو 900 ألف نسمة وفق إحصائيات نهاية عام 2022.
أقر مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي المصغر، فجر 8 أغسطس/آب، الخطة التي اقترحها رئيس الحكومة الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لفرض "سيطرة عسكرية كاملة" على قطاع غزة، وهو القرار الذي قوبل بإدانات شديدة دولياً وأممياً.
ووافقت وزارة الدفاع الإسرائيلية، في 19 أغسطس/ آب، على خطة الجيش للسيطرة على مدينة غزة، وأذنت باستدعاء نحو 60 ألف جندي احتياطي.
الإعلان الإسرائيلي عن خطة السيطرة على المدينة تضمّن هدف "القضاء على حركة حماس".
الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني يشير إلى أن سكان قطاع غزة تعرضوا مراراً لـ"التهجير القسري"، حيث فقد العديد منهم منازلهم وأصبحوا مشردين في الخيام والمدارس، محاصرين بين ظروف الفقر والحرب.
وقد نزح نحو مليونَي فلسطيني من أصل نحو 2.2 مليون كانوا يعيشون في القطاع منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، علماً أن حوالي 66 في المئة من سكان القطاع لاجئون إليه، بينما لا توجد أرقام رسمية تؤكد عدد من نزحوا من المدينة ذاتها.
رصدت بي بي سي آراء سكان مدينة غزة حول نظرتهم لما ينتظر المدينة في الأيام المقبلة. أحدهم يقول: "نتنياهو سبق أن اجتاح غزة، لكن هذه المرة يبدو أنه ينوي تنفيذ اجتياح شامل ويفعل ما يشاء دون رادع".
أما السيد محمد فعبّر عن استيائه من الأوضاع الإنسانية المتدهورة، قائلاً إن السكان لم يعودوا قادرين على احتمال المزيد من التهجير أو الاجتياح، مؤكداً على تمسكه بالبقاء في منزله، ومضيفاً بأنه "رغم كل شيء، أفضل الموت في منزلي، لن أرحل".
مواطن آخر يقول إن محاولات النزوح المستمرة تنبع من خوفه على عائلته وقلقه من احتمال احتلال المدينة بالكامل. ويضيف: "رأينا التدمير والغارات المتتالية والاستهدافات المباشرة، إذ تكاد تكون فرص النجاة معدومة، إما أن تنزح مبكراً أو تخرج وسط نيران مستمرة، وتشاهد أحبّاءك مصابين وتشعر بالعجز عن مساعدتهم. هذا هو السبب الذي دفعنا للنزوح، لكن، النزوح يشبه خروج الروح والموت البطيء".
السيدة صابرين عبّرت كذلك عن مخاوفها في حديثها لبرنامج "نقطة حوار" عبر شاشة بي بي سي، وتقول إن سكان غزة سبق وأن جربوا النزوح نحو الجنوب بناءً على وعود الجيش الإسرائيلي بمناطق آمنة، لكن السيناريو يتكرر اليوم، خاصة في رفح، مؤكدة أن هذه المناطق ليست آمنة كما يُدعى.
ويشاركها الرأي السيد توفيق، مشيراً إلى أن أحياء الزيتون والشجاعية – أكبر أحياء مدينة غزة – تتعرض لقصف مستمر. ويضيف: "أحاول تهدئة أطفالي، لكنهم فقدوا الثقة بما أقول بعد أن أصبح النزوح واقعاً".
السيدة حكمت تقول: "أنا نازحة من شمال قطاع غزة، هُدم بيتي وفقدت كل ما أملك بسبب الدمار الإسرائيلي، عندما أفكر في العودة لرؤية منزلي المهدم، بالتأكيد لن أعود على قيد الحياة".
وأضافت، "في شمال قطاع غزة، أكثر من 80 في المئة من منطقة بيت لاهيا التي كنت أسكنها مدمرة، وكذلك 100 في المئة من منطقة بيت حانون."
بدورها حذرت الأمم المتحدة من أن السيطرة العسكرية الكاملة على مدينة غزة قد تؤدي إلى "عواقب كارثية" على المدنيين الفلسطينيين والرهائن الإسرائيليين المحتجزين.
وكانت قد أعربت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، في 28 آذار/مارس، عن قلقها العميق حيال تقلّص المساحة المتاحة للمدنيين في غزة، "إذ يتعرضون للتهجير القسري من قبل الجيش الإسرائيلي من مساحات واسعة من القطاع"، وشددت على أن عمليات الإخلاء الإسرائيلية "لا تتوافق مع متطلبات القانون الدولي الإنساني".
ووفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أسفر القصف الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة عن دمار واسع في البنية التحتية التعليمية، حيث تم تدمير 178 مدرسة ومبنى جامعي بالكامل، من بينها 25 مدرسة دُمّرت بشكل كلي. كما لحقت أضرار جزئية بـ436 مدرسة ومبنى جامعي آخر.
ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، توقفت جميع المدارس والجامعات في القطاع عن العمل بشكل تام. ويُشار إلى أنه لا تتوفر حتى الآن أرقام رسمية دقيقة تصف حجم الدمار الذي لحق بمدينة غزة نفسها.