تشهد ألمانيا تحولاً استراتيجياً غير مسبوق في سياستها الدفاعية، بعد عقود من الحذر العسكري الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، لتضع نفسها اليوم في موقع الطليعة نحو قيادة مشروع تسليح أوروبي متنام.
ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، أعلن المستشار الألماني آنذاك أولاف شولتس عن إنشاء "صندوق خاص" بقيمة 100 مليار يورو (116 مليار دولار) لتحديث الجيش الألماني (Bundeswehr)، في أكبر استثمار عسكري منذ عقود. وقد سمح البرلمان الألماني بخطط تمويل إضافية وصلت قيمتها إلى 500 مليار يورو (584 مليار دولار)، وشملت البنية التحتية والإنفاق الدفاعي. هذا الإنفاق قد يعيد رسم ملامح ميزان القوى داخل الاتحاد الأوروبي، وفق تقرير نشر في صحيفة "ذا تايمز" البريطانية.
وأشارت الصحيفة إلى أن القوة الحقيقية لألمانيا تكمن في قدراتها الصناعية الضخمة. فشركات مثل Rheinmetall وKrauss-Maffei Wegmann وThyssenKrupp Marine Systems بدأت بالفعل في توسيع خطوط إنتاجها لتلبية الطلب المتزايد على الدبابات والمدرعات والغواصات. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر في قدرة هذه الشركات على مضاعفة الإنتاج بسرعة كافية لمجاراة احتياجات أوروبا الدفاعية، خصوصاً في ظل الاستهلاك الكبير للأسلحة في أوكرانيا.
لكن هذه الطفرة العسكرية لا تخلو من توترات أوروبية. فقد حذّر دبلوماسي أوروبي من أن "المبالغ الضخمة التي تنفقها ألمانيا على التسليح باتت على وشك تغيير ميزان القوى داخل الاتحاد الأوروبي"، معتبراً أن برلين باتت القوة الاقتصادية وراء الدفاع عن القارة، بينما ظلت فرنسا لسنوات رمز الأمان التقليدي في أوروبا. هذا الموقف يعكس قلقاً ضمنياً من أن تتحول ألمانيا إلى "اللاعب الأوحد" في قيادة المشروع الدفاعي بأوروبا، وهو ما قد يثير حساسيات مع باريس ولندن.
كما لا تزال الذاكرة التاريخية تلقي بظلالها على هذه التحولات، فبينما تنظر دول شرق أوروبا إلى ألمانيا كحليف لا غنى عنه في مواجهة روسيا، فإنها في الوقت نفسه تُبدي حذراً من عودة النفوذ العسكري الألماني إلى الواجهة. أما في أوروبا الغربية، فتطرح تساؤلات حول ما إذا كان صعود برلين العسكري سيهمش دور فرنسا وبريطانيا في قيادة الدفاع الأوروبي، وفقاً لتقرير الصحيفة.
ورغم التحديات البيروقراطية والاعتراضات داخل الائتلاف الحاكم في برلين، يرى التقرير أن التحولات الجارية تعيد تعريف الدور الألماني في القارة. فإذا تمكنت برلين من تجاوز العقبات، فإنها ستتحول إلى العمود الفقري لمنظومة الدفاع الأوروبية، خصوصاً مع تنامي الحاجة إلى بديل مستقل عن الدعم العسكري الأميركي.
وبحسب صحيفة "ذا تايمز"، تقف أوروبا الآن أمام لحظة فارقة، فإما أن تكون ألمانيا حجر الزاوية في مشروع التسلح القاري، أو أن تخسر القارة فرصة تاريخية لإعادة صياغة أمنها بعيداً عن الهيمنة الخارجية.