آخر الأخبار

هل تحولت قوة إسرائيل الغاشمة عبئا دبلوماسيا عليها؟

شارك

منذ عام 2007، تحوّل الحصار الإسرائيلي الممتد على غزة من إجراء أمني إلى أداة عقاب جماعي وشكل من أشكال السيطرة الكاملة على السكان، واعتمدت إسرائيل على سياسة ممنهجة لعزل قطاع غزة اقتصاديًّا وإنسانيًّا.

واعتبرت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش الحصار عقابًا جماعيًّا ينتهك القانون الدولي الإنساني.

ولم يكن هذا الحصار مؤقتًا، بل إستراتيجية طويلة الأمد هدفها كسر إرادة المقاومة وتفكيك الجبهة الداخلية.

وكما ورد في تقرير لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا، 2024) "أدى الحصار إلى انهيار البنى الأساسية في القطاع، بما في ذلك القطاع الصحي والمياه والكهرباء، مما تسبب بأزمة إنسانية مزمنة".

ومنذ اندلاع حرب غزة 2023-2025، انقلب المشهد الإستراتيجي رأسًا على عقب، فإسرائيل التي اعتادت لعب دور المحاصِر، باتت تواجه موجات غير مسبوقة من العزلة السياسية والدبلوماسية، كما سيبينه هذا التقرير.

مصدر الصورة فلسطينيون استشهدوا في قصف إسرائيلي على منطقة المواصي غرب خان يونس جنوبي قطاع غزة (قناة الأقصى)

تطور أدوات الحصار الإسرائيلي

تحوّل "الاحتواء" من مفهوم أمني إلى ممارسة سياسية شاملة، تستند إلى سيطرة على تدفق السلع والوقود والدواء، وفرض قيود على الحركة حتى في الحالات الطارئة.

وتشير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) إلى أن كلفة الحصار على الاقتصاد الفلسطيني تجاوزت 16 مليار دولار منذ عام 2007، مما يعكس بوضوح أن الهدف لم يكن الردع فقط، بل الخنق المنهجي والهيمنة الشاملة على الحياة اليومية.

لم يقتصر الحصار الإسرائيلي على الإجراءات العسكرية والقيود الجغرافية، بل تطوّر ليشمل أدوات تكنولوجية متقدمة، أبرزها الرقابة الرقمية والتجسس السيبراني، ونتيجة لذلك بات الحصار يشمل التحكم في المعابر الرقمية والمالية، بل حتى في المحتوى الإلكتروني.

فقد أشار تقرير " أمنستي إنترناشيونال" (2023) إلى أن إسرائيل استخدمت أنظمة مراقبة متطورة لتتبع تحركات السكان الفلسطينيين، بما في ذلك استخدام برامج تجسس مثل "بيغاسوس" لتعقّب الناشطين والصحفيين.

تحوّل الحصار الإسرائيلي أيضا إلى شكل مركّب يتجاوز إغلاق المعابر وتجفيف الموارد، فإسرائيل تخوض معركة على الرواية، تسعى فيها لتطويق السردية الفلسطينية داخل الحدود الجغرافية والرقمية، معتمدةً على أدوات إعلامية وسيبرانية وحملات تشويه مستمرة.

إعلان

ووفقًا لمقال نشره مركز "مدى الإعلامي" (2024)، فإن المنصات الغربية الكبرى خضعت لضغوط إسرائيلية لحظر المحتوى الفلسطيني وتجريم السرديات المقاومة بوصفها "تحريضًا".

وبهذا الشكل، اتسع نطاق الحصار ليشمل الوعي والإدراك، فبات الفلسطينيون محاصَرين حتى في قدرتهم على التعبير عن واقعهم.

الردع بالمقاومة قلب موازين التأثير والوعي

في مواجهة ذلك، لم تعد المقاومة الفلسطينية مجرد صاروخ وبيان، بل غدت منظومة ذكية توزّع صور المعاناة وتعيد بناء سرديتها وإيصالها إلى العالم، فانقلبت معادلة الخوف والردع الإسرائيلية، وباتت معاناة غزة تصحح وعي العواصم الغربية والشباب.

ومع تصاعد استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي ، دخلت الرواية الفلسطينية مرحلة جديدة من التأثير، فالمحتوى الرقمي المقاوم لم يَعُد عفويًّا أو مشتتًا، بل بات يستند إلى خوارزميات ذكية لتحسين الانتشار، واستهداف الرأي العام الغربي بلغته وأساليبه.

يقول الباحث الأميركي مايكل ترافيرس في دراسته عن "حرب السرديات الرقمية في الشرق الأوسط" ( جامعة ستانفورد ، 2024) "إن إسرائيل فشلت في الحفاظ على صورتها كضحية في ظل تصاعد محتوى مرئي مؤثر من غزة يَفضح جرائم القصف، وينتج وعيًا عالميًّا جديدًا".

لقد أسهم الذكاء الاصطناعي في كسر احتكار الرواية الإسرائيلية التي كانت تُحكم السيطرة على منصات الإعلام الغربية، وحوّل الفلسطيني من "عنصر غائب" إلى فاعلٍ رقمي يصوغ خطابًا مغايرًا للنسق السائد.

كانت الغارات الإسرائيلية على غزة تهدف تقليديًا إلى إخماد المقاومة وفرض الردع بالقوة، لكن مع توالي المجازر، بدأ هذا "الردع" يرتد على إسرائيل في ساحات الدبلوماسية والشارع العالمي. تقول المحللة السياسية داليا شنايدرلين في صحيفة هآرتس (يونيو/حزيران 2025) "إن ما تعتبره إسرائيل ضربة إستراتيجية في غزة يتحوّل إلى هزيمة دبلوماسية في نيويورك وجنيف ولندن ".

فالاحتجاجات الطلابية في جامعات أميركية، وتعليق اتفاقيات جامعية وتجارية، واستدعاء السفراء، وحتى الدعوات العلنية لفرض عقوبات، كلها مؤشرات على انتقال الحصار من الجغرافيا إلى الدبلوماسية، وذلك ما جعل إسرائيل تدفع ثمنًا سياسيًّا باهظًا لكل طلعة جوية.

مصدر الصورة القنابل الإسرائيلية تحوّل مدرسة مصطفى حافظ التي تؤوي نازحين في غزة إلى "محرقة" (البيان الإماراتية)

الحصانة الإسرائيلية في مهبّ المقاومة والأسئلة الأخلاقية

طورت المقاومة الفلسطينية أدواتها من البنى التحتية الميدانية إلى المنصات الرقمية والميدانية المدمجة، فكما استطاعت بناء شبكة أنفاق تقوض التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، طوّرت أيضًا شبكات إعلامية ومجتمعية تخترق وعي الجمهور العربي والعالمي.

فوفقا لتقرير معهد "تشاتام هاوس" البريطاني (مايو/أيار 2025) "لم تعد المقاومة الفلسطينية مجرد ظاهرة عسكرية بل مشروع وطني متعدد الأبعاد، قادر على التأثير في الرأي العام وصياغة رمزية جديدة للردع".

هذه التحولات أجبرت إسرائيل على التعامل مع أشكال جديدة من التهديد، تتجاوز الصواريخ والأنفاق، لتصل إلى قنوات التليغرام، وصنّاع المحتوى، وشبكات التأثير المتنوعة التي باتت تُربك النخب الحاكمة في تل أبيب .

إعلان

وتحت ركام المستشفيات المدمرة تتلاشى الأساطير القديمة، فالدعم الغربي لم يعد شيكًا مفتوحًا بلا مساءلة، إذ ينهض الشارع والبرلمانات ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان لتواجه حكوماتها بأسئلة أخلاقية تهز الحصانة الإسرائيلية حتى في واشنطن .

ولطالما شكّل الدعم الأميركي لإسرائيل ركيزة إستراتيجية في السياسة الخارجية لواشنطن، لكن سند هذا الدعم بات يتآكل أخلاقيًّا وشعبيًّا داخل الولايات المتحدة .

وفي استطلاع رأي أجراه معهد بيو للأبحاث في مارس/آذار 2025، أبدى 62% من الشباب الأميركيين (تحت 30 عامًا) رفضهم للدعم العسكري غير المشروط لإسرائيل، معتبرين أن "القصف في غزة لا يمثل القيم الأميركية".

ورغم استمرار إدارة دونالد ترامب الثانية في إمداد إسرائيل بالسلاح، فإن الأصوات المعارضة داخل الكونغرس والحزب الديمقراطي وحتى في الجامعات والأوساط الأكاديمية بدأت تُشكّل ضغطًا ملموسًا.

وكتب توماس فريدمان في نيويورك تايمز (أبريل/نيسان 2025) "لم تعد العلاقة بإسرائيل قابلة للاستمرار في صورتها القديمة، ما لم تواكبها مساءلة حقيقية عن سلوكها العسكري".

الاتحاد الأوروبي من الشراكة إلى المراجعة

كان الاتحاد الأوروبي دومًا شريكًا اقتصاديًّا وسياسيًّا لإسرائيل، لكن حرب غزة الأخيرة وضعت هذه العلاقة على محك المراجعة. فقد جُمّدت اتفاقيات علمية مع جامعات إسرائيلية، ودعا البرلمان الأوروبي في جلسة خلال أبريل/نيسان 2025 إلى "إجراء تحقيق دولي مستقل في جرائم الحرب بغزة".

ورغم الحذر الذي تتسم به سياسات العواصم الأوروبية الكبرى، فإن موجة الضغوط الشعبية داخل دول مثل أيرلندا وإسبانيا وبلجيكا دفعت إلى مواقف أكثر جرأة. نقلت الغارديان في مايو/أيار 2025 عن مسؤول أوروبي قوله "لم نعد قادرين على التغطية على ما يحدث في غزة من دون فقدان مصداقيتنا الحقوقية عالميا". هذا التحول لا يعني، بحسب مراقبين، القطيعة مع إسرائيل، بل بداية انكفاء ناعم، عنوانه المصلحة الأوروبية أولًا، لا الحصانة الإسرائيلية المطلقة.

كذلك شهدت المؤسسات الحقوقية الغربية تحوّلًا واضحًا في خطابها، فقد انتقلت من "القلق" إلى "الإدانة" الصريحة، وذلك ما أعاد سؤال المساءلة الدولية إلى الواجهة. ففي مايو/أيار 2025، أصدرت هيومن رايتس ووتش تقريرًا بعنوان "غزة تحت النار -سياسة العقاب الجماعي الإسرائيلية"، وصنّف القصف جريمة محتملة ضد الإنسانية.

وأعلنت المحكمة الجنائية الدولية أنها تنظر في ملفات مرتبطة بالقصف المتعمد على المستشفيات ومخيمات النزوح. ووفق دراسة صادرة عن منظمة العفو الدولية ، فإن "نظام الحصانة الذي تمتعت به إسرائيل طوال عقود بات مهددًا أمام حجم الانتهاكات المسجلة".

هذه الأصوات لا تغير السياسة الدولية فورًا، لكنها تُعيد تشكيل الإطار الأخلاقي والقانوني الذي كانت إسرائيل تتحرك ضمنه بحرية شبه مطلقة.

مصدر الصورة مسيرة حاشدة في برلين حملت شعار "معا من أجل غزة" (الأناضول)

المفارقة الإسرائيلية.. دولة تقصِف وتخشى العزلة

رغم الضربات القاسية التي وُجّهت إلى غزة، يعيش الداخل الإسرائيلي حالة من التوتر النفسي والانقسام المجتمعي العميق. فكل صاروخ يسقط على غزة ينفجر صداه في تل أبيب مخاوف وانقسامات؛ تتصدع الثقة بالجيش ويتهامس الشارع: هل انتصرنا حقًا، أم علقنا في فخ عزلة دولية آخذة بالاتساع تلتهم الشرعية؟

ووفق استطلاع نشره معهد الديمقراطية الإسرائيلي في يونيو/حزيران 2025، فإن 48% من الإسرائيليين يرون أن "انتصار غزة المعنوي والإعلامي بات خطرًا على صورة إسرائيل أكثر من الصواريخ نفسها".

ولم يعد القلق فقط من الأنفاق، بل من مشاهد الشهداء الأطفال على شاشات العالم، ومن تغيّر الرواية العالمية التي طالما أعطت إسرائيل تفوّقًا أخلاقيًّا.

وكتب المحلل الإسرائيلي نحميا شتراسر في صحيفة هآرتس "نقصف ونُعاقَب دوليا. نرد بقوة لكننا نُحاكم أخلاقيًّا. هذا ثمن لم نكن نعرفه".

إعلان

وهكذا، أصبحت القوة العسكرية الإسرائيلية في حالات كثيرة عبئًا سياسيًّا وإعلاميًّا على القيادة. يقول الباحث عاموس هارئيل في هآرتس (يونيو/حزيران 2025) "القوة الزائدة بلا غطاء شرعي تُنتج عزلة، لا ردعًا".

وقد انعكس ذلك على صانع القرار الإسرائيلي الذي بات حائرًا بين الإصرار على الحسم العسكري والخوف من الكلفة الأخلاقية والاقتصادية والسياسية، كما ظهرت داخل المؤسسة العسكرية مواقف تدعو إلى إعادة تقييم جدوى استمرار العمليات، في ظل شلل سياسي وإخفاق في إحداث تأثير إستراتيجي حاسم.

نقد الرواية الإسرائيلية

لطالما استفادت إسرائيل من خطاب "الدولة الصغيرة المهددة"، لكن هذا الخطاب بدأ يتهاوى تحت ثقل الصور الآتية من غزة.

فقد أظهر تقرير "مرصد انحياز الإعلام" الصادر في مايو/أيار الماضي أن نسبة التغطية النقدية للسياسات الإسرائيلية في الإعلام الغربي تضاعفت مقارنة بعامي 2021 و2022.

في حين وصفت قناة 4 البريطانية ما يحدث في غزة بأنه "قصف انتقامي بلا حدود"، وكتبت لوموند الفرنسية "إسرائيل تواجه غزة بالسلاح وتواجه العالم بالتبرير".

هذه التحولات في التغطية الإعلامية تعكس تبدلًا في موقع إسرائيل من كونها ضحية إلى مَن يُحمَّل المسؤولية، ويعمق هذا الانزياح في الوعي الإعلامي عزلة إسرائيل، ويفقدها أوراقها الأكثر حساسية في المعارك غير التقليدية: الصورة والرواية والمظلومية.

سيناريوهات المستقبل والمقارنة بالأبارتهايد

تفكّك اتفاقيات التطبيع ، وتصاعد حملات المقاطعة، وتهديد المحاكم الدولية، وتحوّل الفضاء السيبراني إلى جبهة مشتعلة، كلها صور ترسم لوحة مستقبلية مفتوحة لإسرائيل.

بدأ بعض المحللين يقارنون بين إسرائيل في حقبة ما بعد حرب غزة 2023–2025 ونظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا . وهذه المقارنة لم تعد حكرًا على الناشطين الفلسطينيين، بل تتردد في أروقة مراكز بحث غربية.

فقد نشر معهد كارنيغي في يونيو/حزيران الماضي تقريرًا بعنوان "إسرائيل ما بعد غزة: خطر العزلة الأخلاقية"، حذّر فيه من تقويض مكانة إسرائيل في المؤسسات الدولية، واحتمال فرض عقوبات رمزية أو حتى اقتصادية على المدى المتوسط.

ومع دعوات في الأمم المتحدة لتعليق عضوية إسرائيل في بعض الوكالات الأممية، وتهديدات بإصدار مذكرات توقيف ضد مسؤولين عسكريين، يبدو سيناريو العزلة أقرب من أي وقت مضى. وإذا تزايدت المقارنات مع نظام الأبارتهايد، فإن إسرائيل ستدخل مرحلة جديدة من الضغط السياسي المشابه لما عاشته بريتوريا في الثمانينيات.

ورغم أن إسرائيل راهنت على مشروع التطبيع كمدخل للاندماج الإقليمي، فإن حرب غزة الأخيرة أعادت خلط الأوراق.

ففي الوقت الذي حافظت فيه بعض الدول العربية على علاقاتها الرسمية مع تل أبيب، شهد الشارع العربي تصعيدًا في الرفض الشعبي، وخرجت مظاهرات عارمة في عمّان والرباط والمنامة والقاهرة .

وأشار تقرير صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (مايو/أيار 2025) إلى "تصاعد التوتر بين الأنظمة والشارع العربي، وذلك ما يضع مشاريع التطبيع أمام معضلة أخلاقية وأمنية".

ومع استمرار الحرب، تتهاوى رواية إسرائيل كدولة ضحية أمام صور الأطفال تحت الأنقاض، ولا ينذر استمرار هذا المسار فقط بتآكل شرعيتها، بل يرسم مشهدًا جيوسياسيًّا جديدًا تتبدّل فيه مواقع القوة والردع داخل الإقليم وعلى مستوى المسرح الدولي.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة


الأكثر تداولا اسرائيل سوريا دمشق

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا