تبرأ وجهاء عشيرة الجعبري بمدينة الخليل من دعوة أحد المنتسبين إليها إلى إقامة إمارة مستقلة عن السلطة الفلسطينية وتعترف بإسرائيل دولة يهودية، في مقابلات له أمس السبت مع صحيفة جيروزاليم بوست، وتناولتها وول ستريت جورنال الأميركية.
وكان الإعلام الإسرائيلي قد احتفل بتقرير للصحيفة ينسب إلى عدد من شيوخ مدينة الخليل طلبهم الانفصال عن السلطة الفلسطينية وإقامة إمارة مستقلة، وأعلنت الصحيفة هوية شخص واحد منهم هو وديع الجعبري، في حين امتنع غيره بدعوى الخوف على السلامة.
وقال بيان العشيرة "إننا كعشيرة آل الجعبري نعلن براءتنا التامة واستنكارنا واستهجاننا لما أقدم عليه أحد أفراد العائلة غير المعروف لدى العشيرة وليس من سكان خليل الرحمن" مؤكدا التزام العشيرة بـ"الثوابت الإسلامية والوطنية وحقوق شعبنا في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة".
ووفقا للصحيفة فقد وقع وديع الجعبري و4 ممن وصفتهم بأنهم من شيوخ الخليل البارزين رسالة موجهة إلى وزير الاقتصاد الإسرائيلي نير بركات، يتعهدون فيها بالسلام والاعتراف الكامل بإسرائيل دولة يهودية، ويطالبون بإنشاء إمارة خاصة بمحافظة الخليل، تنضم بدورها إلى اتفاقات التطبيع المعروفة باسم اتفاقات أبراهام.
وتضيف الرسالة "تعترف إمارة الخليل بدولة إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، وتعترف دولة إسرائيل بإمارة الخليل ممثلة للسكان العرب في قضاء الخليل".
كما تقترح وضع جدول زمني للمفاوضات للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام و"ترتيب عادل ولائق يحل محل اتفاقيات أوسلو التي لم تجلب سوى الدمار والموت والكوارث الاقتصادية والدمار" وجلبت "السلطة الفلسطينية الفاسدة، بدلًا من الاعتراف بالقيادة المحلية التقليدية الأصيلة".
وفي الجانب الاقتصادي تطالب الرسالة، وفقا لما تنقله وول ستريت جورنال، بأن تسمح إسرائيل بإدخال ألف عامل من الخليل لفترة تجريبية، ثم 5 آلاف آخرين.
وتتعهد الرسالة بـ"عدم التسامح مطلقًا مع إرهاب العمال، على عكس الوضع الحالي الذي تُشيد فيه السلطة الفلسطينية بالإرهابيين".
ويرتبط الجعبري والعديد من نظرائه بعلاقة وثيقة بالوزير بركات الذي استضافهم في منزله مرات عديدة منذ فبراير/شباط الماضي -وفقا للصحيفة- والذي توسط لدى رئيس كريات أربع لمد خط مياه من المستوطنة إلى الخليل.
كما يرتبطون بعلاقات مع قادة المستوطنين في الضفة، مثل يوسي داغان الذي يدعم خطة الجعبري ويعمل عليها.
وتعود أصول فكرة المشروع -الذي تطرحه الرسالة- إلى مردخاي كيدار الباحث في الثقافة العربية بجامعة بار إيلان الإسرائيلية، الذي يروج منذ 20 عاما لفكرة "الإمارات الفلسطينية".
وتقول الفكرة إن المدن الفلسطينية السبع في الضفة الغربية متمايزة ثقافيا، وتدار تاريخيا من قبل العشائر الرئيسية فيها، وفي سبيل إنجاح فكرة تفكيك الضفة التي يطرحها، التقى كيدار بوالد "وديع الجعبري" قبل 11 عاما.
ويراهن كيدار وبركات على أن يكون نجاح المشروع في الخليل مقدمة لتعميمه على بقية مدن الضفة، والتي قد يكون في مقدمتها بيت لحم .
ومقابل طموحات بركات وكيدار، تنقل وول ستريت جورنال عن مصادر سياسية وأمنية أن جهاز الأمن العام الإسرائيلي " الشاباك " يعتبر السلطةَ الفلسطينية أساسيةً في مكافحة أعمال المقاومة الفلسطينية بالضفة، وقد عارض "خطة الشيوخ" داخليًا.
وتتزايد المخاوف من احتمال اندلاع عنف أو فوضى في مدن أخرى بالضفة، كما أعرب جيش الاحتلال عن مخاوفه، إذ يعتقد الكثيرون في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن عشائر الضفة مجزأة للغاية بحيث لا يمكنها الحكم أو مكافحة المقاومة الفلسطينية.
وتنقل الصحيفة عن اللواء المتقاعد غادي شامني، الذي قاد القيادة المركزية لجيش الاحتلال من عام 2007 إلى 2009، قوله "كيف تتعامل مع عشرات العائلات المختلفة، كل منها مسلحة؟ وسيجد الجيش الإسرائيلي نفسه في مرمى النيران، وستكون فوضى عارمة وكارثة".
ويرفض شامني فكرة أن "التطلعات الوطنية للفلسطينيين ستتلاشى ويمكنك التعامل مع كل عشيرة على حدة" وحسب رأيه "لا توجد طريقة للسيطرة على الضفة الغربية وإدارة الحياة هناك دون السلطة المركزية".
ويأتي الإعلان عن المشروع في توقيت يستبق لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويوفر بديلا نظريا عن حل الدولتين الذي لم يعد مقبولا لدى أي منهما.
في حين تسعى دول أوروبية -في مقدمتها فرنسا- إلى إحياء مسار التفاوض بشأن حل الدولتين، وكانت باريس والسعودية قد أجلتا مؤتمرا مخصصا لهذه الغاية من موعده المقرر منتصف يونيو/حزيران الماضي إلى أجل غير مسمى بسبب اندلاع المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران.
وتسعى إسرائيل إلى فرض بدائل عشائرية محلية في غزة منذ أشهر عديدة، من أبرزها مليشيا ياسر أبو شباب التي دعمتها في رفح، وزج الإعلام الإسرائيلي بأسماء عائلتي بربخ وحلس في سياق مشاريع مشابهة، وهو ما تبرأت منه العائلتان في بيانات وتصريحات صادرة عنها متهمة الاحتلال بالسعي للوقيعة والفتنة بين مكونات الشعب الفلسطيني.
وفي خلفية إخراج هذه الفكرة إلى العلن، تبرز الظروف الأمنية والاقتصادية التي يفرضها الاحتلال على الضفة منذ احتلالها، والتي تزايدت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ويفصل جيش الاحتلال المدن الفلسطينية عن بعضها، مما يقوض مختلف أشكال الخدمات والنشاط الاقتصادي، ويمنع العمال الفلسطينيين من العمل بالأراضي المحتلة عام 1948.
وفي هذه البيئة تعاني الخليل وكبقية مدن الضفة من الفراغ الأمني، ونقص المياه وارتفاع نسب البطالة بين الشباب، وهو ما يعتمد عليه مشروع كيدار بركات لاستقطاب تأييد بعض الفلسطينيين لمشروع شبيه بمشروع "روابط القرى" العميلة للاحتلال في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي.
تعود فكرة "الروابط القروية" -وفقا لما تذكره الموسوعة الفلسطينية- إلى العام 1976، حين طرحها الحاكم العسكري لمدينة الخليل الجنرال يغئال كرمول، فالتقطها مناحيم ملسون مستشار الشؤون العربية بالحاكمية العسكرية للضفة وبدأ يدرسها إلى أن شرع ينفذها عملياً بعد التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، وما نصت عليه من إجراء مفاوضات لإقامة الحكم الذاتي الإداري بالضفة وقطاع غزة .
وبالفعل تم الإعلان رسميا عن قيام "رابطة قرى محافظة الخليل" عام 1978، وحدد نظامها الأساسي غاياتها المعلنة في "حل المنازعات والخلافات بين السكان وتشجيع تنظيم الجمعيات التعاونية لمساعدة المزارعين لتحسين أوضاعهم الاقتصادية وتطوير أساليب الزراعة وتحديثها" وغير ذلك.
لكن الغايات الحقيقية لهذه الرابطة والروابط التي تلتها كانت محاولة لإيجاد قيادة فلسطينية بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية تكون مستعدة لتأييد "كامب ديفيد" وقادرة على المشاركة في مفاوضات الحكم الذاتي وتنفيذ مخطط إسرائيل للإدارة المدنية وتولي المناصب أو المهام التي توكل إليها بهذا السياق.
ويضاف إلى ذلك أن روابط القرى، اعتماداً على التجربة السابقة لسلطات الانتداب البريطانية، يمكن أن تحقق للاحتلال أهدافاً أخرى هامة من بينها تفتيت الوحدة الوطنية بالضفة بين الفلاحين والمدنيين وإحياء النعرات القديمة بين أبناء المدن والأرياف.
وقد تعمدت سلطات الاحتلال وهي تعلن إنشاء أول رابطة للقرويين بمحافظة الخليل المجاهرة بإثارة هذه النعرات، إلا أن إعراض المواطنين من أبناء القرى عن هذه الرابطة وإحجامهم عن الانخراط فيها دفعا سلطات الاحتلال إلى سياسة الترهيب والترغيب مع القرويين لإنجاح الرابطة وإخراجها إلى حيز الوجود.
وبالفعل قامت بالتلويح بتقديم فيض من التسهيلات للفلاحين ابتداء من جمع شمل العائلات وقضايا التسويق الزراعي والحصول على البدار بأسعار معتدلة، وانتهاء بتقديم المساعدات المادية لتنفيذ بعض مشاريع القرى والمجالس القروية، وقد أعطيت رابطة قرى الخليل دور الوسيط بين القرى وسلطات الحكم العسكري.
غير أن مشاريع روابط القرى واجهت رفضا شعبيا واسعا، تمثل في المظاهرات واغتيال بعض المنخرطين فيها.
ولما تم اغتيال يوسف الخطيب رئيس رابطة قرى رام الله أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1981، عمدت سلطات الاحتلال إلى تسليح رؤساء وأعضاء روابط القرى ووفرت الحماية الأمنية لهم وزودتهم بالبنادق وعربات النقل وعربات الجيب العسكرية وأجهزة الاتصال تمهيداً لتحويلهم إلى عصابات ومليشيات مسلحة تنفذ الدور المنوط بها في مواجهة الشعب الفلسطيني.
وبالفعل تحولت روابط القرى إلى مليشيات محلية تساعد قوات الاحتلال في أعمال العنف والقمع والتصدي للجماهير الفلسطينية، وعمدت إلى نصب الحواجز للسيارات واعتقال الوطنيين وإطلاق النار عليهم.
وبالمقابل، استمرت المقاومة الشعبية القوية، وصولا إلى العام 1984، حين وصل قادة الاحتلال وفي مقدمتهم رئيس الوزراء إسحاق شامير ووزير الدفاع موشيه آرينز إلى قناعة بأن هذه الروابط فاشلة ولا يمكن أن تحقق مساعي إسرائيل، فتم الإعلان عن إنهاء التجربة بشكل رسمي في 10 مارس/آذار 1984.
في ظل الرفض الشعبي والسياسي الفلسطيني المتوقع لمشروع إحياء روابط القرى، فإن فرص نجاحها تعد محدودة، إذ يظهر رفض أهل الخليل ارتباط اسمهم بمشروع من هذا القبيل، إضافة لتعارض المشروع مع مواقف مختلف الفصائل الفلسطينية على تباين أيديولوجياتها واصطفافاتها السياسية.
غير أن هذا قد يشكل بالون اختبار وذخيرة سياسية لرئيس الوزراء الإسرائيلي في سياق مساعيه لتفادي أي ضغوط سياسية بشأن التعاطي مع حل الدولتين .
كما يشكل وسيلة ضغط إضافية على السلطة الفلسطينية لإبداء المزيد من التعاون بشأن المطالب السياسية والأمنية الإسرائيلية في الحاضر والمستقبل.