آخر الأخبار

التجويع كسلاح حرب: ماذا يعني ومتى استخدم في التاريخ؟

شارك
مصدر الصورة

في الحروب الحديثة، لم تعد المعارك تقتصر على استخدام السلاح والرصاص فقط، بل باتت الموارد الأساسية مثل الطعام والماء والدواء أدوات للقتل البطيء. يُستخدم التجويع كسلاح حرب لا يقل فتكاً عن الأعمال العسكرية، لكنه، في بعض الأحيان، أشد قسوة، إذ يستهدف الحياة اليومية للمدنيين، محوّلاً الحاجة الأساسية للبقاء إلى "وسيلة ضغط" و"إخضاع".

جوناثان ويتال، رئيس مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في الأراضي الفلسطينية قال: "ما تشهده غزة ليس مجرّد جوع، بل سياسة تجويع مدروسة".

شهادات من منظمات دولية، بينها أوتشا وأونروا وأوكسفام و"أنقذوا الأطفال"، أشارت إلى أن أكثر من 90 في المئة من سكان القطاع يعيشون في مواجهة حادة مع تأمين لقمة العيش، وتنبه التقارير نفسها إلى أن الآلاف من الأطفال عرضة للوفاة بسبب نقص الغذاء والدواء في وضع إنساني بات فعلياً "من صنع البشر".

يُوضح أليكس دي وال في كتابه "المجاعة الجماعية: تاريخها ومستقبلها المجاعة"، أن المجاعات المعاصرة غالباً ما تكون نتيجة قرارات سياسية وعسكرية متعمدة، لا نقصاً طبيعياً في الغذاء.

كما تؤكد تقارير مجلس الأمن الدولي، ومنظمة هيومن رايتس ووتش، وبرنامج الأغذية العالمي، أن الحصار والتجويع أصبحا استراتيجيات عسكرية "ممنهجة"، تُستخدم لإخضاع المجتمعات عبر تدمير منظومة حياتها اليومية، وليس مجرد آثار جانبية للحرب.

تقول إسرائيل إن هدفها ليس عقاب السكان المدنيين، بل منع حماس من استخدام الموارد (كالطعام والدواء) لأغراض عسكرية أو كغطاء لـ"النشاطات الإرهابية". اتهمت معاهد أبحاث إسرائيلية، مثل INSS وUN Watch، الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية بنشر "رواية مضللة" تستند إلى بيانات غير كاملة أو قديمة .

رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفى أن تكون هناك سياسة تجويع مقصودة ضد المدنيين، واعتبر الاتهامات بأنها "كذب وافتراء"، مؤكداً أن الهدف هو منع وصول الموارد لحماس وليس معاقبة السكان.

أما الجيش الإسرائيلي، فاعترف بوجود قيود مشددة على دخول المساعدات، وأكد أنه يتحقق من الاستخدام الأمني للمساعدات، كما نفى وجود أوامر بإطلاق النار على المدنيين الباحثين عن المساعدات.

في الأمم المتحدة، قرار مجلس الأمن رقم 2417 الصادر عام 2018 شكل اعترافاً دولياً بأن الجوع لم يعد أزمة إنسانية فقط، بل جريمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنزاع.

ومع ذلك، يقول المؤرخ والباحث الدكتور عصام خليفة، إن الإفلات من العقاب، وغياب الإرادة السياسية للمحاسبة، "يمنح الجناة غطاءً للاستمرار في استخدام هذا السلاح الصامت الذي يفتك بالأمل والحياة في المكان المنكوب".

التجويع، خاصة حين يكون منظماً، يُعد جريمة مدانة في القانون الدولي، ويُصنَّف ضمن أساليب الإبادة الجماعية بحسب الاتفاقيات الدولية.

"عبر التاريخ، استُخدم التجويع كسلاح لـ"إخضاع الشعوب"، كما حصل في جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى، وفي مجازر الأرمن والآشوريين، ولاحقاً في البوسنة والهرسك. وفي كل حالة، كان الهدف تفكيك النسيج المجتمعي، ودفع السكان إلى النزوح أو الخضوع القسري"، وفق المؤرّخ والأكاديمي عصام خليفة.

من منظور تاريخي، يشير د. خليفة إلى أن التجويع لا يُستخدم فقط كأداة قتل، بل كوسيلة لإعادة رسم الجغرافيا السكانية والسيطرة على القرار السياسي للسكان.

مصدر الصورة

"صراع يومي من أجل البقاء"

يُحدثُني الصحفي سامر الزعانين من خان يونس قائلاً إن "أي محاولة لتأمين المساعدات يُقابلها استخدام الناس كأداة للفوضى، حيث يُجبر السكان على التزاحم والتدافع لاستلام المساعدات من الشاحنات"، وغالباً ما تكون هذه الشاحنات في مناطق حمراء شديدة الخطورة.

ويكمل بالقول إن الوصول للشاحنات يتطلب "المجازفة بالحياة"، وكثيرون يُصابون أو يُقتلون من أجل كيس طحين أو معلبات.

"الوضع لا يُحتمل؛ مشاهد التدافع تفوق قسوتها مشاهد القصف. نساء وأطفال وشيوخ يخاطرون بحياتهم في صراع يومي من أجل البقاء. كل مرة تدخل فيها شاحنات مساعدات، يُسجل سقوط شهداء وإصابات بالعشرات، خاصة في المناطق التي حُددت كمراكز توزيع".

يضيف إن هذه سياسة ممنهجة وليست عشوائية، تُعيد إلى الأذهان مجازر تاريخية ارتبط فيها التجويع بأهداف "الإبادة والسيطرة".

والبعضُ، ممن تحدثت إليهم من قطاع غزة، اختصر القول بهذه الرسالة:

مصدر الصورة

ما المقصود بـ"التجويع"؟

"التجويع" في الحرب هو الاستخدام المتعمّد لحرمان السكان المدنيين من الغذاء والماء، بهدف الضغط على الجهات المسؤولة عنهم - سواء كانت منظمات أو دول - وإجبارها على الخضوع سياسياً أو عسكرياً.

تشمل ممارسات التجويع تدمير المحاصيل والمواشي، كما حدث في حرب السودان، وفي أوكرانيا السوفيتية (الهولودومور)، ومنع أو تأخير دخول المساعدات الإنسانية، كما وثّق مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في تقاريره عن غزة وتيغراي (2023–2024)، واستهداف البنية التحتية الزراعية ومصادر المياه، وفرض الحصار العسكري أو الاقتصادي، كما حلّل أليكس دي وال في كتابه "المجاعة الجماعية: تاريخها ومستقبلها"، وتهجير المزارعين أو السيطرة على أراضيهم بالقوة.

وهو أيضاً ما ناقشته نعومي هوسكينغ في كتابها "المجاعة كسلاح: سياسات الغذاء والحرب"، موضحةً كيف تتم السيطرة على الغذاء كأداة للسيطرة على الأرض والسكان.

ماذا يقول القانون الدولي؟

مصدر الصورة

تُشير دراسات اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن التجويع يصبح سلاحاً عندما يُستخدم لإحداث ضرر مباشر في المدنيين من خلال تعطيل منظومة الغذاء، وليس نتيجة عارضة للنزاع.

في إطار القانون الدولي، هناك عدة اتفاقيات تحظر استخدام التجويع كسلاح وتحذّر من وقوعه في أي حرب:


* اتفاقيات جنيف من عام 1949، والبروتوكول الإضافي الأول، عام 1977: تحظُر استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، وخاصة ضد المدنيين.
* نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، عام 1998: يعتبر "تجويع السكان المدنيين عمداً" جريمة حرب، إذا كان يتم عبر منع الإمدادات الضرورية لبقائهم.
* قرار مجلس الأمن 2417، عام 2018: يدين استخدام الجوع كسلاح، ويربط بين الصراعات المسلحة، وانعدام الأمن الغذائي، وخطر المجاعة.

المحامي حسن الحطاب مستشار لتمثيل الضحايا في المحكمة الجنائية الدولية تحدّث لبي بي سي قائلاً إن القانون الدولي يُجرّم استخدام التجويع كسلاح حرب ويعتبره جريمة ضد الإنسانية، خاصة عند حرمان المدنيين من الغذاء والدواء، كما يحدث في غزة اليوم من حصار وتجويع ممنهج. هذه الانتهاكات تُعدّ جرائم حرب بحسب اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

"رغم وضوح النصوص القانونية، فإن المحاسبة تبقى "نادرة"، وفقاً للمحامي المختص في القانون الدولي، "بسبب غياب الإرادة السياسية الدولية"، خاصةً حين يكون هناك دعم من قوى كبرى، مثل الولايات المتحدة، على سبيل المثال".

حتى الآن، لم تُحاسب أي جهة في التاريخ الحديث "بوضوح"، على استخدام التجويع، رغم وجود حالات سابقة في السودان، وسوريا، وتيغراي، وفق قوله.

مصدر الصورة

"وسيلة للضغط السياسي وتفكيك المجتمعات"

في كتابه، "محرقة أواخر العصر الفيكتوري، وظاهرة النينيو والمجاعات ونشأة دول العالم الثالث"، يظهر مايك ديفيس كيف استخدمت المجاعات، خصوصاً في الهند تحت الاستعمار البريطاني، لضعف المجتمعات المستعمَرة وفرض سياسات مدمّرة، رغم أن السبب الصحيح كان قرارات سياسية.

وفي بحثه "المجاعة والجرائم والسياسة وصناعة الإغاثة من الكوارث في أفريقيا"، يوضح أليكس دي وال أن التجويع يستخدم أحياناً في النزاعات المسلحة للضغط على المجتمعات ودفعها إلى الاستسلام أو قبول تسويات مجحفة.

تستعرض سوزان جورج في كتابها "سياسات المجاعة"، العملية التي تتم من خلالها تعطل وكالات الإغاثة في بعض البلدان، سواء يتم ذلك عن طريق منعها من الدخول أو استخدامها لخدمة أهداف سياسية، وتقول إن "الجوع يصبح في كثير من الأحيان نتيجة اختيارات بشرية وليس مجرد حادث كوني"، ما يؤدي لإعاقة العمل الإنساني وتحويل الإغاثة إلى أداة سياسية.

هل يُحاكَم الجاني؟

رغم أن القانون الدولي يُجرّم بوضوح استخدام التجويع كسلاح حرب، وفق المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، إلا أن الملاحقات القضائية للجناة تظل نادرة جداً لأسباب معقّدة، من أبرزها:

صعوبة إثبات "النية الجنائية": من التحديات الأساسية في هذا النوع من القضايا هي إثبات القصد المتعمد للتسبب بالمجاعة، خاصة في السياقات المعقدة التي تتداخل فيها العوامل العسكرية والاقتصادية والبيئية.

يشير الباحث أليكس دي وال في كتابه "المجاعة الجماعية: التاريخ والمستقبل"، إلى أن المجاعة غالباً ما تكون "جريمة بلا جناة ظاهرين"، يصعب تتبع المسؤولية القانونية المباشرة فيها، خصوصاً في ظل غياب الأوامر المعلنة أو الاعترافات الرسمية.

التعقيدات السياسية وغياب الرقابة الدولية: في كثير من الحالات، تكون الأطراف المسؤولة عن التجويع حليفة لقوى دولية كبرى أو جزءاً من توازنات سياسية دقيقة، ما يجعل محاسبتها أمراً سياسياً حساساً.

في كتابها "كيف يموت النصف الآخر"، تشرح الباحثة سوزان جورج كيف تسهم المنظومة السياسية العالمية أحياناً في التستر على "جرائم" التجويع أو التقليل من شأنها، ما يُضعف من آليات العدالة الدولية.

إعاقة العمل الإنساني وتحويل الإغاثة إلى أداة سياسية: تتناول سوزان جورج في كتابها "سياسات التجويع"، كيف تُمنع منظمات الإغاثة من الوصول إلى المناطق المتضررة أو تُستغل لأغراض سياسية، وتؤكد أن الجوع في كثير من الحالات هو "قرار سياسي"، وليس "كارثة طبيعية".

في حالة غزة، يُشير المستشار القانوني المشارك في ملفات أمام المحكمة الجنائية الدولية حسن الحطاب، إلى أن مذكرات توقيف أُصدرت بحق قادة إسرائيليين، منهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لكنها لم تُنفّذ "بسبب ضغوط سياسية".

وفي السياق الأفريقي، توضح الباحثة بريدجت كونيلي في كتابها "الحرب والمجاعة في أفريقيا"، العلاقة الوطيدة بين الحرب والمجاعة، حيث تُستخدم المساعدات كأوراق ضغط، ويُحرم المدنيون من الإغاثة ضمن استراتيجية الحرب.

استخدام المجاعة والتجويع كسلاح حرب: أبرز الأمثلة

يحكي المؤرخ الأمريكي تيموثي سنايدر في كتابه "أراضي الدم في أوروبا بين هتلر وستالين"، استخدمت المجاعات المصطنعة مثل "الهولودومور" في أوكرانيا (1932-1933) كوسيلة سياسية لخضوع السكان وتغيير توازنهم الديمغرافي، ومات فيها الملايين نتيجة سياسات ممنهجة وليس بسبب الكوارث الطبيعية.

وتؤكد المؤرخة آن ابلباوم في كتابها "المجاعة الحمراء: حرب ستالين على أوكرانيا"، أن التجويع هو "تطهير عرقي" كان بمثابة حرب سرية ضد الهوية الأوكرانية.

في ما يلي أبرز الأمثلة التاريخية والمعاصرة الأخرى لاستخدام التجويع كسلاح في الحرب:


* حصار لينينغراد، روسيا (1941–1944): النازيون حاصروا المدينة 870 يوماً، فمات قرابةُ مليون مدني جوعاً، في محاولة لإبادة السكان دون قتال.
* سراييفو، البوسنة (1992–1996): القوات الصربية حاصرت المدينة ومنعت الغذاء والكهرباء، ما أدى إلى مجاعة ومقتل الآلاف رغم الإغاثة الدولية.
* قطاع غزة (منذ 2007 – الآن): إسرائيل تفرض حصاراً شاملاً باستثناء معبر رفح قبل الحرب الحالية الذي يفتح ويغلق حسب الأوضاع الأمنية، يشتد الحصار في فترات الحرب، وتُتهم باستخدام التجويع كوسيلة عقاب جماعي، خاصة بعد أكتوبر تشرين الأول 2023.
* سوريا، الغوطة ومضايا (2013–2016): قوات النظام السابق فرضت حاصراً أدى إلى موت مدنيين جوعاً، وظهور صور مأساوية لأطفال يعانون من الهزال، وسط عجز دولي.
* اليمن (منذ 2015): تسببت الحرب الأهلية بحصار الموانئ والمنشآت الغذائية ما يؤدي إلى أزمة توصف بأنها "الأسوأ عالمياً"، مع أكثر من 17 مليون شخص يعانون من الجوع.
* تيغراي، إثيوبيا (2020–2022): تقارير تؤكد استخدام الحكومة الإثيوبية التجويع كأداة حرب، عبر منع الغذاء والدواء عن الإقليم المحاصر.
لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا