في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
لطالما شكَّلت ذاكرة الفايكينغ جزءا لا يتجزأ من الهوية التاريخية السويدية، فهؤلاء المحاربون والمستكشفون الذين انطلقوا من سهول وشواطئ إسكندنافيا نحو شرق ووسط أوروبا لم يكونوا مجرد غزاة، بل كانوا تجارا ودبلوماسيين وأصحاب طموح بحري واسع امتد إلى بيزنطة وبلاد العرب.
في شرق أوروبا توسَّع الفايكينغ في القرن التاسع للميلاد، وتحالفوا مع الجماعات السلافية ودشَّنوا كيان "كييف روس"، وهو كيان هيمن على مساحات شاسعة من روسيا وأوكرانيا اليوم، وتمخَّضت عنه الحضارة الروسية والسلافية على مرِّ القرون، حتى إن السويديين بالتحديد عُرفِوا في تلك الفترة باسم "الروس"، قبل أن يتحوَّل المصطلح مع الوقت إلى تعريف ثقافي واسع لمنطقة روسيا وشرق أوروبا.
لم يكُن غريبا إذن مع صعود الكبار في القرنين الماضيين، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا، أن تلتزم السويد بسياسة حياد عسكري في خضم الصراعات العنيفة التي عصفت بالقارة، إيمانا منها بعلاقاتها التاريخية والثقافية المُتشعِّبة مع الروس والألمان على حدٍّ سواء. ولذلك، ترسَّخ تصوُّر شائع عن المنطقة الإسكندنافية بأنها هادئة وبعيدة عن الصراعات الساخنة في أوروبا في العقود الأخيرة.
بيد أن الدولة الأكبر والأثقل وزنا في المنطقة، وهي السويد، لم تكن يوما على هامش الموازين العسكرية والاقتصادية كما يبدو لأول وهلة، ولم يقتصر تاريخها العسكري على حملات الفايكينغ القديمة فحسب.
فقبل أن تتدثَّر ستوكهولم بالحياد في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتمتنع عن الانخراط في الحربين العالميتين أو الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) أثناء الحرب الباردة ، كانت السويد إمبراطورية ضاربة من بحر البلطيق حتى قلب أوروبا، ويقودها ملوكٌ محاربون مثل غوستاف أدولف، الذي دشَّنت حملاته العسكرية ما يُعرف بالحقبة الإمبراطورية للسويد طيلة القرن السابع عشر، وبَسَطت هيمنة بلاده على فنلندا والبلطيق ومناطق من النرويج وشمال أوروبا.
وحتى في زمن الحياد، لم تكن السويد مُنكَمِشة، بل حافظت الدولة على مُجمَّع عسكري صناعي قوي تحمي به حيادها في وجه الضغط السوفياتي وعدم الرغبة في الانضمام إلى الناتو في الوقت نفسه، وعلى رأس الصناعات العسكرية السويدية تربَّعت شركة "ساب" (SAAB) الشهيرة، وكذلك شركة "بوفورس" (Bofors)، التي امتلكها في يوم من الأيام مُخترع الديناميت المعروف ألفرد نوبل، قبل أن تشتري "ساب" جزءا منها عام 1999، وتشتري شركة "بي إيه إي سيستمز" البريطانية الجزء الآخر عام 2005.
على مدار القرن العشرين، امتلكت السويد صناعات ثقيلة أنتجت أسماء مثل "فولفو" و"سكانيا" و"إريكسون"، وطوَّرت البلاد طائراتها ودباباتها وسفنها، وبقيت تراقب محيطها الأوروبي، حتى بدأت التحوُّلات الأخيرة بانحسار الدور الأميركي وتوجُّهه إلى آسيا لموازنة الصين، وعدم كفاية الإنفاق العسكري الأوروبي لحماية القارة، ثم الثغرة التي انفتحت في شرق أوروبا وغزت منها روسيا أوكرانيا وبدأت بالضغط على دول البلطيق، ومن ثمَّ كتبت الأعوام القليلة الماضية ما يمكن وصفه بنهاية الحياد السويدي بعد قرنين تقريبا.
في مارس/آذار الماضي، أعلن رئيس الوزراء السويدي "أولف كريستِرسون" خطة شاملة لتطوير القوات المسلحة السويدية هي الأكبر منذ نهاية الحرب الباردة، حيث تعتزم السويد إنفاق أكثر من 200 مليار يورو على تحديث قدراتها الدفاعية في السنوات الخمس المقبلة، وقد سبق ذلك انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) العام الماضي بعد أن التزمت سابقا بسياسة الحياد تجاه روسيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
بدأت ستوكهولم خطة مُوسَّعة للانخراط في سياسة أوروبا الأمنية الجديدة، في الوقت نفسه الذي توسَّعت فيه علاقاتها مع واشنطن، فما ملامح التغيير الحاصل في إستراتيجية السويد؟ وما أسباب رغبتها في استعادة حضورها العسكري؟
اعتمدت السويد سياسة الحياد في الحربين العالميتين، فلم تسمح بعبور القوات الألمانية من أراضيها، لكنها استمرت في التجارة مع الألمان وإمدادهم بالحديد، ولم تتضرَّر كثيرا من الحربين في النهاية.
وظلت السويد على سياسة الحياد بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945، وهو الحال الذي استمر طيلة الحرب الباردة، لكنها ظلت تحتفظ بعلاقات وثيقة مع كبرى الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. وكانت السويد من ضمن الدول التي قبلت مشروع مارشال الأميركي لإعادة الإعمار في أوروبا، كما اتَّسمت سياستها بالعداء للشيوعية. أما العلاقات العسكرية مع شركائها في حلف الناتو فظلَّت طي الكتمان مع رفضها الانضمام إلى الحلف الأطلسي.
كان التمسُّك بالحياد المُعلَن سببا في إغضاب واشنطن التي أرادت اصطفافا واضحا في مواجهة الخطر السوفياتي، كما جلب على ستوكهولم النقد اللاذع من رئيس الوزراء البريطاني حينها وِنستون تشرشل .
ولكن السويد برَّرت حيادها آنذاك بأنها تخشى استفزاز روسيا بعضوية الناتو وما يُمكن أن يجرَّه من غزو سوفياتي لفنلندا، التي ترتبط بها السويد ارتباطا وثيقا، ولدى فنلندا حدود يصل طولها إلى 1300 كيلومتر مع روسيا، لا سيَّما وقد حاول السوفيات غزوها فعلا في الثلاثينيات فيما عُرف بحرب الشتاء.
كانت السويد في خط المواجهة مع الاتحاد السوفياتي أيضا، لأن دول البلطيق الثلاث إستونيا ولاتفيا وليتوانيا كانت جزءا من الاتحاد، ولم يفصلها عن السويد إلا بحر البلطيق الذي لا يزيد عرضه على 200 كيلومتر.
ولذلك توجَّست ستوكهولم طوال الحرب الباردة من الانحياز للناتو صراحة، وقرَّرت اتقاء شر موسكو بالحياد، بالتزامن مع امتلاك قوات دفاعية قوية على سواحلها الشرقية المُواجِهة للسوفيات، وتعاونها الضمني مع الغرب، ولذلك يعتبر بعض المحللين أن حياد السويد الكامل لم يكن حيادا كاملا.
وما زالت روسيا تمتلك سواحل على بحر البلطيق حتى بعد استقلال دول البلطيق الثلاث، سواء في خليج فنلندا أو عبر مقاطعة كالينينغراد التي تقطنها أغلبية روسية وتقع بين بولندا وليتوانيا.
دفع الحياد المعلن بالبلاد إلى تصنيع سلاحها الخاص، فنشأت لديها صناعة أسلحة متطورة، وكانت القوة الجوية الرابعة في العالم من حيث حجم أسطولها، وصاحبة واحدة من كبرى شركات تصنيع الطائرات في العالم، وهي شركة "ساب "، التي تُعَد لاعبا رئيسيا في الصناعات الدفاعية السويدية حتى اليوم.
وبعد انتهاء الحرب الباردة، بدأت السويد تكثيف علاقاتها مع الناتو، حيث انضمت مع فنلندا إلى برنامج الشراكة من أجل السلام التابع للحلف عام 1994، وشاركت في التحالف الدولي بالعراق وأفغانستان، واستضافت عام 2017 "أورورا 17″، وهو تدريب عسكري تمحور حول الدفاع عن جزيرة "غوتلاند" (Gotland) السويدية التي تقع في البلطيق وتبعد نحو 90 كيلومترا عن البر السويدي، ولا شك أنه تعاون عسكري تمَّ على خلفية غزو روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية قبلها بثلاثة أعوام.
طرحت الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022 مسألة انضمام السويد لحلف الناتو على الطاولة، بعدما كانت فكرة تراود السويديين منذ انضمامهم إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995، وتخليهم شيئا فشيئا عن الحياد المُعلَن، خاصة مع زيادة نسبة تأييد الانضمام إلى الناتو في استطلاعات الرأي منذ دخول روسيا إلى القرم عام 2014.
وبعد أقل من ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تقدَّمت السويد بطلب الانضمام إلى الناتو بالفعل مع فنلندا، ولقي الطلب معارضة من جانب تركيا والمجر، اللتين عطَّلتا التصديق الكامل على عضوية السويد حتى مارس/آذار 2024.
بعد انضمامها إلى الناتو، تجد السويد نفسها مستوفية بالفعل المتطلبات الدفاعية التي يجب على الدول الأعضاء الالتزام بها، وأبرزها زيادة نسبة الإنفاق العسكري من الناتج القومي كي تصل إلى 2%، إذ إن السويد تُنفق بالفعل 2.4% من ناتجها القومي على الجيش.
ورغم ذلك، تطمح ستوكهولم لإنفاق المزيد، حيث تشمل الخطة الحكومية الجديدة زيادة الإنفاق إلى 3.5% من الناتج القومي بحلول عام 2030. وسيُخصَّص جزء من هذه الأموال لشراء الأسلحة مثل الدبابات والمُدرَّعات والمُسيَّرات، وجزء آخر لأغراض التدريب العسكري، وجزء ثالث لتوسيع الصناعة العسكرية، كما يشمل أيضا الدعم العسكري لأوكرانيا التي تساندها ستوكهولم بقوة منذ عام 2022.
وتنوي السويد زيادة عدد قواتها المسلحة من 88 ألف جندي إلى 115 ألفا بحلول عام 2032، وإلى 127 ألفا بحلول عام 2035، بزيادة قدرها نحو 40 ألف جندي، ومن المفترض أن تشمل تلك الزيادة عددا من الضباط المحترفين والمجندين. وتعتزم الحكومة إلى جانب ذلك تشكيل فوجَيْن للمشاة في المحافظات الشمالية التسعة المُسمَّاة "نورلاند" (Norland).
في يونيو/حزيران 2024، أعلنت السويد عن تبنّيها لأول مرة إستراتيجية للأمن والدفاع الفضائي. وبحسب البيان الرسمي، تستهدف هذه الإستراتيجية ضمان المصالح الأمنية والدفاعية للسويد في مجال الفضاء بوصفه مجالا جديدا للأمن، وتستند تلك الإستراتيجية إلى أربعة أركان: ضمان حرية العمل في الفضاء، وتطوير وتعزيز قدرات السويد الفضائية، وضمان القدرة على التعاون الدولي في مجال الفضاء، وتقديم نموذج قائم على المعرفة.
وتمتلك السويد إمكانيات متقدمة بالفعل مقارنة بباقي دول أوروبا في مجال الفضاء، وينظُر إليها البعض على أنها المفتاح الذي تنطلق منه جهود أوروبا لتطوير قدرات حلف الأطلسي في مجال الفضاء.
مثلا لدى السويد مركز "إسرانج" الفضائي الذي كان تابعا في الأصل لوكالة الفضاء الأوروبية، ثم انتقلت ملكيته إلى شركة الفضاء السويدية، وهو مركز للأبحاث والخدمات الفضائية، ويُعَد القاعدة التي ستنطلق منها جهود السويد في هذا المجال، الذي أصبح ساحة للتنافس العسكري إلى جانب أهميته العلمية.
ولا شك أن السويد تهتم بهذا المجال أكثر من ذي قبل، بالتزامن مع تطوير الروس صواريخ نووية جو-جو، بالإضافة إلى ملاحظة التطور الكبير في استخدام شبكة "ستارلينك" المملوكة لرجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك بكثافة في الحرب الروسية الأوكرانية، كما أن السويد كانت قد اشتكت مسبقا من أعمال تشويش روسية تؤثر على الأقمار الصناعية الخاصة بها.
كل هذه التهديدات دفعت السويد إلى البدء في تطوير إستراتيجية دفاعية فضائية خاصة، وقد بدأت فورا خطوات عملية حين أطلقت أول قمر صناعي لأغراض عسكرية في أغسطس/آب 2024، من قاعدة "فاندِنْبِرغ" الفضائية العسكرية في كاليفورنيا، وهو قمر صناعي أُطلِق عليه اسم "إن إيه 3″، وصُمِّم للاتصالات العسكرية تحت إشراف القوات الجوية السويدية، كما تدرس السويد إمكانية تجهيز الطائرة المقاتلة الخاصة بها من طراز "جريبِن" بقدرات لإطلاق الأقمار الصناعية، وهي تقنية ليست جديدة لكنها لا تزال قيد الدراسة.
يأتي هذا التطوير في سياق تنامي التهديدات الهجينة، وهي أنشطة يستهدف فيها طرف دولة أو مؤسسة بغرض تقويض قدراتها، مُستخدِما أدوات منها ما هو عسكري ومنها ما هو مدني، ويصعب تصنيفها أو اكتشافها بسبب تداخلها مع أنشطة الناس العادية، مثل الهجمات السيبرانية ومهاجمة شبكات الطاقة وأنظمة الملاحة الجوية، والتلاعب بالرأي العام عن طريق موجات مُوجَّهة من الدعاية، وأحد أبرز الأمثلة على الحروب الهجينة هو الاتهام الأميركي لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.
وضمن خطة السويد لتحديث بنيتها الأمنية، خصَّصت الحكومة 5 ملايين دولار لدعم خفر السواحل وأنظمة المراقبة، ومليونَيْ دولار لوكالة الطوارئ المدنية لتعزيز التعاون مع الناتو والاتحاد الأوروبي في أنظمة ملاحة الأقمار الصناعية، ومبلغا آخر لوكالة الدفاع النفسي مع وكالة الطوارئ الوطنية لمنع تهديد السلم الاجتماعي، علاوة على مركز الأمن السيبراني الوطني للتصدي للهجمات السيبرانية.
إلى جانب زيادة عدد القوات وتوفير تدريب ملائم لعدد أكبر من الجنود، تعتزم السويد تزويد قواتها بعدد من الأسلحة وتطوير السلاح الموجود لديها. ومن هذه التجهيزات شراء المزيد من المدرعة "سي في 90" سويدية الصنع، وهي مركبة قتال صممتها وزارة الدفاع في ثمانينيات القرن الماضي للبيئة الجليدية، ودخلت الخدمة في منتصف التسعينيات، وهي متعددة الأغراض ويمكن استخدامها ضد أهداف جوية وأرضية.
بالإضافة إلى ذلك، قرَّرت السويد شراء 44 دبابة ألمانية من الجيل الثالث "ليوبارد 2″، وتحديث 66 دبابة من الطراز نفسه. وكانت السويد قد منحت أوكرانيا عددا من هذه الدبابات، وتُعَد "ليوبارد 2" واحدة من أقوى الدبابات في العالم، حيث يمكنها إصابة هدف بحجم ثلاجة على مسافة 3 كيلومترات، وقد أُنتجت سنة 1979، وهي أكثر الأسلحة إنتاجا في أوروبا.
تمتلك السويد كذلك قوات جوية متطورة، حيث تنتج شركة "ساب" عددا من الطائرات ذات السمعة العالمية مثل المقاتلة "جاس-39 جريبِن" (JAS-39)، وتُعد نظيرا للمقاتلة الأميركية "إف-16″، وتحتوي النسخ الأحدث منها على رادار متقدم يستخدم تقنية مصفوفة المسح الإلكتروني النشط (AESA)، التي تسمح بتوجيه أشعة الرادار المختصة بمسح المنطقة المحيطة في اتجاهات مختلفة دون الاضطرار إلى تحريك هوائي الرادار ميكانيكيا، مما يُسهِّل عملية العثور على الأهداف المعادية ورؤيتها بسرعة.
إلى جانب ذلك، انضمت السويد سابقا إلى جهود كلٍّ من بريطانيا واليابان وإيطاليا لتطوير مقاتلة من الجيل السادس، لكنها تسعى الآن منفردة لتصنيع طائرتها الخاصة كي تحل محل "جاس-39". وقد أعلنت شركة "ساب" التعاقد مع الحكومة السويدية لدراسة تصنيع الطائرة، وأُعلِن عن برنامج للطائرة بالفعل، ومع ذلك ثمَّة غموض يحيط بالمشروع، وما إن كانت السويد ستمضي فيه أم ستنضم إلى أحد البرامج الأوروبية.
أخيرا، في الشهر الماضي، تعاقدت السويد مع البرازيل لشراء أربع طائرات نقل عسكري من طراز " س ي- 390 ميلينيوم"، وهي طائرة متعددة المهام من إنتاج شركة "إمبراير" البرازيلية، ودخلت الخدمة لأول مرة عام 2023، ويمكنها أن تحمل 26 طنا، وتسير بسرعة 870 كيلومترا في الساعة، ويمكنها أن تتلقى الوقود أو تمد غيرها من الطائرات بالوقود جوا. وتُعد الطائرة تحديثا ضروريا للقوات الجوية السويدية، لأن الطائرة الموجودة حاليا في الخدمة من إنتاج شركة "لوكهيد مارتن" ومن طراز "كيه سي 130".
يُمثِّل الأمن في بحر البلطيق مسألة حيوية للسويد بالنظر إلى أنه البحر الذي يفصلها عن روسيا، كما أنه البحر الذي تشاركها فيه فنلندا ودول البلطيق والدنمارك، وبه الكثير من البنى التحتية المتعلقة بالاتصالات ونقل الغاز، مثل خط الغاز الروسي المتجه نحو ألمانيا.
من هنا أعلنت السويد زيادة وجودها العسكري في البلطيق، لا سيَّما بعد الاشتباه بأن الكابلات تتعرَّض للتخريب، كما أن خط الغاز "نورد ستريم 2" الروسي كان قد تعرَّض للتخريب مرتين في السنوات القليلة الماضية.
من أجل حماية تلك البنى التحتية في البلطيق، تعتزم السويد تحديث أسطول الفرقيطات من طراز "فيسبي" ودعمها بنظام دفاع جوي، بالإضافة إلى العمل على فرقيطة أكبر حجما من طراز "لوليا" لا تزال قيد التطوير. وتُعد الفرقيطات مناسبة للعمل في البحار الصغيرة نظرا لحجمها الصغير وتكلفتها القليلة مقارنة بالفرقاطات والمُدمِّرات الأكبر حجما.
سفينة هجومية سريعة من طراز CB90 خلال عرض عسكري في قاعدة بيرغا البحرية، التابعة للقوات المسلحة السويدية، جنوب ستوكهولم (الفرنسية)إلى جانب العمل على تحديث الغواصات الثلاث من طراز "غوتلاند" الموجودة حاليا، التي من المفترض أن ينتهي العمل عليها قريبا، يجري العمل منذ عام 2014 على بناء غواصة جديدة عن طريق شركة "ساب" من طراز "بليكينغَه"، ويجري بناء قطعتين منها، ومن المتوقع أن تكون جاهزة بحلول عام 2028، بما يرفع عدد الغواصات السويدية إلى خمس غواصات. ولا بد أن تكون الغواصات قادرة على الرُّسُوّ في قاع البحر بأمان، لا سيَّما أن بحر البلطيق مليء بالألغام البحرية.
وتُعد السويد من الدول الرائدة في تقنية "الدفع المستقل عن الهواء"، وهي تقنية تُمكِّن الغواصة من البقاء تحت الماء لمدة طويلة دون حاجة المُحرِّك إلى إعادة التزود بالأكسجين من السطح، ومن ثمَّ من الممكن أن تتمتع بمزايا الغواصات النووية نفسها، مع زيادة قدرتها على التخفي، لأن المحرك الكهربائي يمد الغواصة بالكهرباء دون حاجة إلى الأكسجين مثل الغواصات التي تعتمد محرك الديزل التقليدي، وهو تطوُّر مهم لتأمين بحر البلطيق وتحقيق قدر من التوازن مع البحرية الروسية.
في المُجمَل، تُعد جهود السويد العسكرية لافتة بالنظر إلى كونها بلدا صغيرا يبلغ تعداده نحو عشرة ملايين نسمة، ومع ذلك فإنها تمتلك تكنولوجيا عسكرية متقدمة. وأحد العوامل التي لعبت دورا في ذلك هو الحياد الذي أجبرها على تطوير قدراتها العسكرية والصناعية منفردة، فقد سَعَت منذ وقت مُبكِّر لتطوير صناعة عسكرية متقدمة، وتزعَّمت تلك الجهود شركات مثل "ساب" و"بوفورس" وغيرهما.
تريد السويد أن تُثبت لحلفائها في الناتو أنها حليف موثوق يمكن الاعتماد عليه (الفرنسية)كما أن السويد من أوائل الدول الصناعية في العالم التي امتلكت صناعة ثقيلة، واشتهرت بكونها من أبرز مُصدِّري خام الحديد، وهي كلها أمور سهَّلت دخولها التصنيع العسكري وتبوُّء مكانة مرموقة في أوروبا حتى اليوم.
رغم باعها الطويل، لا تزال الخطة السويدية الجديدة بمنزلة انقلاب في سياسة البلاد المحايدة سابقا. لقد أنهى انضمام السويد إلى الناتو قرنين من الحياد الذي التزمت به السويد في أحلك وأصعب الظروف، منها بينما كانت فنلندا تقاتل السوفيات، ومنها أيضا حين كانت النرويج والدنمارك مُحتلتيْن من النظام النازي. ولذلك تُعد الحرب الروسية على أوكرانيا نقطة تحوُّل جذرية في الإستراتيجية السويدية، جنبا إلى جنب مع تراجع الالتزام الأميركي بالأمن الأوروبي.
بالنظر إلى أن السويد تقف على خط المواجهة مع روسيا، ولا يفصلها عنها سوى بحر البلطيق الصغير، كما أنها تحتفظ بعلاقات أخوية قوية مع فنلندا المتاخمة لروسيا، وكذلك مع دول البلطيق الثلاث، التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي؛ تتوجَّس السويد من أن تقع تلك المناطق تحت النفوذ الروسي في المستقبل، وتدعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، وتُكثِّف من المساعدات العسكرية لها، التي تُمثِّل جزءا معتبرا من الخطة الدفاعية الجديدة. وقد بلغ إجمالي المساعدات العسكرية السويدية لأوكرانيا في مارس/آذار الماضي بحسب الحكومة السويدية 9.6 مليارات دولار أميركي.
تريد السويد أن تُثبت لحلفائها في الناتو أنها حليف موثوق يمكن الاعتماد عليه، وأن انضمامها إلى الحلف ليس لفائدتها وحدها، بل لمصلحة الحلف أيضا.
في الوقت نفسه، هناك ضغوط أميركية منذ ولاية ترامب الأولى على الأوروبيين لزيادة إنفاقهم العسكري، والتقليل من الاعتماد على واشنطن في ضمان الأمن الأوروبي، لارتفاع تكاليف تلك الحماية على واشنطن، وتغيُّر البيئة الأمنية العالمية بصعود الصين في آسيا، وحاجة واشنطن إلى التركيز على المحيط الهادي. ولذلك فإن جهود السويد جزء من جهود دول أوروبا الغربية لتعزيز الأمن المشترك دون الاعتماد على واشنطن، وهو أمر بات ضروريا في ظل تغيُّر البيئة الأمنية في شرق أوروبا.
لا شك أن الدول الغربية تنظر بعين الرضى لذلك التبدُّل في السياسة السويدية، فقد كسبت أوروبا الغربية والناتو عضوا جديدا نشطا في السياسات الأمنية، ومُطوِّرا بارعا للأسلحة المتطورة له باع طويل في الحقيقة كقوة عسكرية تقليدية داخل أوروبا.
أما روسيا فهي الخاسر الأكبر من هذا التبدُّل، الذي حفَّزه غزو موسكو لأوكرانيا، وهي تنظر إلى انضمام السويد إلى الناتو وتغيُّر سياستها الحيادية ونمو قوتها العسكرية على أنه عبء إضافي في خضم حربها مع أوكرانيا، فقد كان أهم أهداف تلك الحرب الحيلولة دون توسُّع الناتو شرقا، وهو هدف يبدو في طريقه للتحقُّق، غير أنه أفضى للمفارقة إلى توسُّع الناتو شمالا، وعودة السويد إلى درجة من الفعالية غير مسبوقة قد تُجبر ستوكهولم على الانخراط بصورة لم تعرفها منذ بدايات القرن التاسع عشر.