لم يتمكن الكثير من السودانيين الذين غادروا بسبب الحرب من الانفصال عن بلادهم حتى وهم خارجها، خاصة مع اقتراب شهر رمضان.
فمن أم درمان غادرت أماني مبارك وبناتها الخمس إلى القاهرة قبل أكثر من عام فراراً من ويلات الحرب. وها هو رمضان الثاني الذي يمر عليهن بعيداً عن الوطن، لكنها تخبرنا أنها تحاول خلق أجواء رمضان الدافئة التي تفتقدها وهي بعيدة عن أحضان أسرتها في السودان.
وقالت أماني "خرجت من السودان في شهر يناير/ كانون ثاني 2024. كنت ربة منزل لا أعمل ولدي خمس بنات وهذا هو ثاني رمضان لي معهم في القاهرة. لا أستطيع القول بأن رمضان في القاهرة سيء، على العكس تمام، فالقاهرة من أفضل مدن العالم التي يمكن أن تقضي فيها رمضان. لكنه هنا بطعم مختلف لأننا نفتقد بلدنا ونفتقد أهلنا وكل أحبائنا ووطننا".
وأضافت: "رغم أنها أيام فرحة، أصبح رمضان بالنسبة لنا في القاهرة مؤلماً، ليس كرمضان في الماضي. بالطبع أتابع الأخبار في التلفزيون وأتفاعل مع أهلي في السودان عندما تتوافر هناك شبكات اتصال جيدة وعبر التواصل الاجتماعي".
"كنت أقيم في أم درمان التي أصبحت الآن شبه آمنة. الجيش يوفر الطعام للناس وهناك أيضاً مقرات يطهى فيها الطعام ويقدم للناس مجاناً".
بعدما عاد نحو عشرة آلاف شخصاً من سكان منطقة ود مدني إلى منازلهم منذ نحو شهرين بحسب مصادر محلية، والذين كانوا قد اضطروا إلي النزوح منها مع اشتداد الاشتباكات فيها، يستعيد الكثير منهم مشاعر مختلفة مع حلول شهر رمضان وهم يعودون إلى ديارهم.
التقت بي بي سي بعدد من المواطنين السودانيين في أحد أكبر الأسواق في الأبيض، أحدهم قال لبي بي سي: "كانت الأسعار بمدينة الأبيض مرتفعة جداً، لكنها انخفضت باقتراب شهر رمضان. نحن الآن في سوق ابن مسعود، المعروف باسم سوق أبو الجهل، الذي تتوافر فيه منتجات وخيرات كثيرة. شهر رمضان شهر خير وبركة والأسعار أصبحت في متناول اليد".
وقال محمد إسماعيل لبي بي سي: "الأسعار هادئة. فسعر العدس، على سبيل المثال، 16 جنيهاً، والكركديه 13 جنيهاً، واللوبيا بثمانية جنيهات".
تواصل بكري قالت لبي بي بي سي، إنها قدمت من مدينة مجاورة إلى مدينة الأبيض لشراء احتياجات شهر رمضان، و"الأسعار في متناول المواطن".
أما انتصار آدم، من مدينة الأبيض، فقالت إن "الأسعار جيدة"، مؤكدة أن المدينة يسودها "الأمن والاستقرار".
لكن في مدينة الفاشر، فالوضع مختلف تماماً. يقول محمد عبد الخالق صفاء الدين: "الظروف أصبحت صعبة، ليس لدينا أي شيء سوى الماء إن وجد. وليس لدينا سكر ولا زيت ليس لدينا أي شيء، ليس لدينا ما نأكله".
ويسيطر الجيش السوداني على ولايات البحر الأحمر وكسلا والقضارف والشمالية وسنار بالكامل وعلى نحو 90 في المئة من ولاية نهر النيل. في المقابل، تسيطر قوات الدعم السريع على نحو 6 ولايات، غالبيتها في إقليم دارفور. ويتقاسم الطرفان المتحاربان السيطرة على العاصمة الخرطوم وولايات الجزيرة والنيل الأبيض وكردفان.
وقال مواطن آخر من نفس المدينة: "نأكل الخبز مرة أو مرتين يومياً. أما الخضراوات والفاكهة فنسمع عنها فقط، وهي غير متوافرة على الإطلاق منذ حوالي ستة أشهر لم نأكل فيها فاكهة ولا خضروات، لكن الحمدلله. نتلقى صدمات شديدة لم يسبق لنا التعرض لها. كما أننا نعاني معاناة كبيرة جداً، فمن بين الأشياء التي نعاني منها سوء التغذية. فهناك الكثير من الأسر التي تعاني من الجوع ولا تجد ما تأكله وتحتاج إلى غذاء ودعم".
وأشار إلى نوع آخر من المعاناة، إذ لا تتوافر خدمات طبية ولا أطباء، وهي التي يعاني منها "المصابون بالأمراض المزمنة أكثر من غيرهم مع أن عددهم كبير جداً جداً بين النازحين".
وقالت فاطمة آدم أحمد، معلمة في مدرسة ابتدائية، لبي بي سي: "نقيم في مركز للإيواء، المركز يفتقر إلى الكثير من الأشياء، خاصة احتياجات الأطفال والأمهات والحوامل الذين يحتاجون إلى الكثير من الأشياء التي تنقصهم، من بينها الغذاء والإيواء والمراحيض".
وأضافت: "الوضع أليم .. أليم حقاً، وأتمنى أن تزورنا أي منظمة دولية أو قومية لمشاهدة أوضاعنا حتى يصدقوا الأوضاع التي نعيشها. لدينا أطفال، ومرضى، ومسنين طريحي الفراش لا يستطيعون الحركة وهناك أيضاً من تعرضوا لبتر أطرافهم جراء الحرب، وجميعهم ينتظرون الغذاء والدعم".
وأدى قرار تجميد الولايات المتحدة مساعداتها الإنسانية في فبراير/ شباط الماضي إلى إغلاق نحو 80 في المئة من مطابخ الإغاثة الجماعية التي أنشئت لمساعدة مَن شردتهم الحرب الأهلية في السودان.
وقال متطوعون إغاثيون إن القرار التنفيذي الذي اتخذه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لوقف المساعدات التي تقدّمها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لمدة 90 يوماً، أسفر عن إغلاق 1,100 من المطابخ الجماعية.
وتشير التقديرات إلى أن القرار أثّر بالفعل على حوالي مليونَي إنسان في السودان يكافحون أصلاً من أجل البقاء على قيد الحياة.
وقال محمد كمال الدين مدني، من مدينة ود مدني، لبي بي سي: "نزح الناس فراراً من الحرب بعد دخول قوات الدعم السريع إلى مدني. صمتُ رمضان خارج مدينتي، لكني الحمد لله رجعت إلى بلدي هذا العام أصوم هنا في بيتنا. الوضع مختلف كثيراً، رمضان في مدني أجمل أقيم في بيتي ولا أتكبد تكلفة إيجار. الوضع أفضل بكثير من فترة النزوح والسوق يتحرك والأسعار جيدة الحمدلله".
وقال علي فتحي، من سكان مدينة ود مدني كذلك: "صمت رمضان السنة الماضية خارج المدينة، لكننا عدنا إلى المدينة الحمدلله والحالة العامة مستقرة ونفسيتنا على ما يرام. وعادت الناس إلى الأسواق وتتوافر احتياجاتنا من السلع. والوضع أفضل بكثير مما كنا عليه عندما كنا نازحين".
وقالت آمنة بابكري: "رجعنا منازلنا في ود مدني بعد الحرب والمعاناة والنزوح بعد أن سرقت بيوتنا وتعرضنا للنهب. كل شيء متوافر في الأسواق، لكن لا تتوافر لدينا سيولة. الموصلات تعمل والأسواق عامرة، لكن البيوت نُهبت. رغم ذلك، الحمدلله، رمضان في بيوتنا أفضل والأمان يسود المدينة".
وأشار الجيش السوداني، في بيان رسمي، في11 من يناير/كانون الثاني، إلى أنه نجح في دخول المدينة من عدة محاور، كما أنه مشّط المدينة للتأكد من خلوها من عناصر قوات الدعم السريع.
وتعهد قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي باستعادة السيطرة على البلاد في ذلك الوقت، قائلاً: "عَهد القوات المسلحة السودانية لشعبها أن تسترد وتطهر كل شبر دنسته مليشيا آل دقلو ومرتزقتها".
تقول أماني: "لكن الأوضاع لم تعد كسابق عهدها. هناك كثيرون في المدينة لا يجدون عملاً وآخرون لا يتمكنون من التحرك بحرية، وبطبيعة الحال يُعد رمضان شهراً مميزاً يشهد الكثير من الحركة والخروج من المنزل والسودانيون معروفون بتناول طعام الإفطار في الشوارع".
وأضافت: "نحاول الخروج من هذه السلبية بتزيين البيوت للإحساس برمضان. ونطهو الأطعمة السودانية للإفطار ونحن في القاهرة" في محاولة لتذكر أجواء رمضان في بلادهم.
وفي أمدرمان، تزداد المخاوف في أوساط السكان من تفاقم الاوضاع مع استمرار العمليات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الأجزاء الجنوبية من المدينة التي تقع غرب العاصمة السودانية الخرطوم.
وأكدت الأمم المتحدة أن سكان المدينة يواجهون خطر انعدام الغذاء في ظل عدم وصول المساعدات الإنسانية الدولية.
ومع تفاقم أزمة الجوع داخل السودان، وفي ظل عدم وقف إطلاق النار، ومع إغلاق المطابخ الجماعية أبوابها، من المرجّح أن تزيد أعداد النازحين السودانيين عبر الحدود إلى الدول المجاورة.
وتجدر الإشارة إلى أن الوكالات الإغاثية الدولية تعاني استنزافاً بالأساس.
وتقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إنها تجد نفسها مضطرة إلى ترشيد تدخُّلاتها، مشيرة إلى أنها تعاني نقص التمويل.
ولم تحصل المفوضية سوى على 30% فقط من التمويلات التي توقعت الحصول عليها من المانحين.
وأدى الصراع، الذي اندلع في أبريل/نيسان 2023، بين قوات الجيش النظامي من ناحية وقوات الدعم السريع (شبه العسكرية) من ناحية أخرى إلى سقوط عشرات الآلاف من القتلى، كما أجبر الملايين على النزوح من ديارهم، تاركاً كثيرين في مواجهة الموت جوعاً.