"هل تريد أن تموت؟ لقد قُتل صحفي بالأمس وهو يسلك هذا الطريق، فالقناصة الأكراد يسيطرون على هذا المدخل لحلب"
قال لي سائق التاكسي الذي أخذني من معبر باب السلامة على الحدود التركية-السورية بنبرة غاضبة بعد أن اتجه يمينا وترك الطريق الرئيسة المؤدية إلى مدخل حلب الشمالي.
كنتُ أنظر إلى هاتفي الذي تعطل فيه تطبيق الخرائط منذ دخولي لسوريا، فكان يشير بأن حلب قريبة، ولم أفهم التفاف السائق المفاجئ، سوى أنها حيلة من حيل سائقي التاكسي، لإطالة الطريق. فخاطبته بلهجة حادة أن يلتزم بالطريق.
"لو واصلنا السير في الطريق الرئيسة سنصل إلى حلب خلال 10 دقائق، ولكن المدخل الشمالي الذي يؤدي إلى أحياء الأشرفية والشيخ مقصود تسيطر عليه ميليشيات كرديّة، وقد وضعوا قناصة على هذه الطريق، فنحتاج إلى أن نلتف من طريق فرعية لندخل حلب من الجهة الغربية، وسنصلها بعد 40 دقيقة" قالها بنبرة هادئة بعد صمت قصير.
كان هذا في يوم 21 ديسمبر/كانون الأول عام 2024، وحتى اليوم لا يزال حيّا الأشرفية والشيخ مقصود في مدينة حلب خارج سيطرة إدارة هيئة تحرير الشام، ويخضعان لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
قبل هذا الحديث بيومين، وصلتني رسالة بإنجليزيّة غير سليمة: "السيد عبد القدوس، هل ستعبر اليوم من المعبر؟".
"من المرسل؟" سألته.
"مكتب التنسيق الإعلامي بالرئاسة التركية، لقد صدر إذن عبور للصحفيين إلى سوريا الذي قدمت عليه، وهو صالحٌ لمدة 6 أيام".
"أنا في إسطنبول، سأبحث عن أقرب رحلة إلى غازي عنتاب وأتواصل معكم من هناك" أرسلت إليه، وأنا أفكر كيف سأخبر السيدة الأولى بأني سأفسد عليها إجازتنا.
"يبدو أنني سأذهب إلى سوريا للعمل بضعة أيام" قلت لها.
"ألست في إجازة؟". أجابت متفاجئة
"بلى، ولكن هل تعرفين كم استغرق الفرس من الوقت ليأخذوا الشام من الروم؟ وكم استغرق الروم لاستعادتها؟ وكم عاما قضى المسلمون الأوائل لفتحها؟ لقد فعلها أصحاب إدلب في 11 يوما! لقد قرأت كثيرا عن التاريخ، أريد أن أعيش فصلا منه لو سمحتِ".
"احجز تذكرتك، سأعدّ لك الحقيبة" قالت بتذمر.
بعد 12 ساعة أنزلني التاكسي أمام معبر كلّس التركي، صف طويل من العوائل يبدأ داخل أحد المباني ويمتد لعشرات الأمتار خارجه. اقتربت من رجل ينظم السير يلبس بزّة الدفاع المدني السوري، وقلت له: أريد العبور إلى سوريا. نظر إليّ وقال لي: كل هؤلاء يريدونه، لكن عليك أن تصطف معهم، لتسلم "الكملك" (بطاقة الحماية المؤقتة التركية) قبل العبور.
"لستُ سوريّا، أنا صحفي!".
"عفوا، يمكنك الذهاب مباشرة إلى ذلك المبنى، لحظة سأصحبك لأساعدك بالترجمة".
بعد بضع دقائق، كنتُ أقطع الحدود التركية-السوريّة على قدمَيّ، وأنا أحمل فوق ظهري حقيبة وزنها 12 كيلوغراما. أخرجتُ هاتفي لتصفية الأجواء في إسطنبول وكتبت: "لقد دخلت إلى سوريا من باب الهوى مرتين: حين عرفتك، واليوم!".
جاء الرد سريعا: "محاولة جيّدة! لكن ما دمت في معبر كلّس وليس في الريحانيّة فإن المعبر السوري الذي يقابلك ليس باب الهوى، وإنما باب السلامة. صحبتك السلامة".
لم تستقر بي الحال في حلب، فقد كدّرته عليّ ثلاثة مشاهد. أولها تعثر لقائي بمحافظ حلب الجديد بعد ترتيب سابق. ومشهد الشيخ الأنيق في أحد مطاعمها الذي أغراني مشهده الرصين بفتح حديث معه عن أوضاع الأمن في حلب بعد التحرير، فتحول إلى طفلٍ خائف، يقول لي "أنا ما بعرف، وما دخّلني". ومشهد سائق التاكسي الحلبي الذي سألته عن أبي الطيب المتنبي فقال لي: مين هاد بلا زِغره (=من غير تحقير لشأنه)؟ فصرفت وجهي إلى الشام.
رجلان يملكان فائضا في الوقت: السجين، والمقاتل بعد انتصاره في المعركة.
هل تعرف كيف يُصنع التاريخ؟ تتسلسل الأحداث، وتتناسل، فتتراكم، ثم يأتي السياسيُّ أو المؤرخ أو الدارس فينظمها في سياق فتكون شيئا آخر. تماما كما تنبت الثمار على الأشجار وفي بطن الأرض وعلى سطحها، ثم تُحصد، فتمتدّ يد المرء إلى ما تريده منها، فتجمعه، وتؤلف بينه وتقدّمه على المائدة. مذاق شريحة الخيار في طبق السلطة الذي تصنعه السيدة والدتك، لا يشبه مذاق شريحة الخيار على قطعة السوشي في مطعم ياباني، والخيار الذي قطفه المزارع واحد. ولكنه يتأثّر بفعل التأليف وجهد الطاهي وما يضمّه إليه من أشياء، وكذلك الحدث في رواية السياسي.كنت في سباق مع السياسي على الرواية وفهم الحدث، متجنبًا الاصطدام بسرديات جاهزة.
حين وصلت إلى دمشق، كان طابور الإعلاميين على القصر الرئاسي طويلا. كثيرون حرصوا على سماع ما يريد أن يقوله القائد أحمد الشرع، وكنت مقبلا على ما يريد أن يقوله الجنود، فرتبت برنامجي اليومي على ذلك.
على شارع ميسلون بجانب سوق الصالحية ينتصب فندق الشام العريق، بداخل بهوه الأنيق، الذي يضجُّ بفنِّ العمارة الدمشقية، ورائحة الياسمين، جلس ثلاثة شباب من قيادات العمل العسكري في معركة ردع العدوان، مع صحفي يسألهم عن يوميات المعركة التي نقلت سوريا من عهد إلى عهد.
"لم تكن مغامرة، كانت مقامرة"
قال لي قياديّ في هيئة تحرير الشام واصفا اتخاذ قرار ردع العدوان.
شكلت معارك شرق السكة 2018 تحولا فكريا لدى فصائل الثورة السورية في إدلب، خلاصتها: "متفرقون نهلك، ومجتمعون قد ننجوا". لن يوقف نزيف الأراضي وتقلص المحرر سوى توحيد الجهود. كان على الذين صوبوا أسلحتهم تجاه بعضهم لسنوات طويلة أن يجلسوا ليتفقوا على قِبلة حصريّة لفوّهات بنادقهم. كانت الطريقة الوحيدة إلى كسر النظام تمر على مطمور من الأحقاد والثارات وحظوظ النفوس التي تشبعت بها أرواح المقاتلين.
"أصبح لدى الجميع اعتقاد بضرورة الغرفة الموحدة، على خلافنا في التوجهات، عقدنا لجانا لدراسة المعركة الأخيرة في عام 2019، فخرجت لنا بخلاصات عن أسباب سقوط المناطق، وما احتياجات المعركة القادمة مع النظام. ومن هنا جاءت فكرة الألوية وتخصيص المناطق، واستغرقنا العمل عليها 5 سنوات" قال لي أبو المنذر، قيادي عسكري وعضو في غرفة الفتح المبين.
بدأ الإعداد لعملية ردع العدوان من شهر السابع من 2020، بوضع خططا سنويّة، تقوّم فيها القيادة العسكرية ما أنجزوه، ويضعون أهدافا لتلبية احتياجات الجنود. ومن ذلك ما أدركه المقاتلون بأن التقدم الذي يحرزه النظام على حسابهم مرده في بعض أسبابه إلى عدم التنظيم العملياتي، فاتجهوا إلى أَكدَمة القوات بإنشاء الأكاديمية العسكرية، وأصبح التعليم إلزاميا لكل من يريد المشاركة في المعارك.
كان أبو محمد مقبلا تمام الإقبال على تطوير العسكرة، وتبني الثغرات الموجودة للحاجة للعمل، فصار يستدين من المبالغ والإمكانيات ليغطي الاحتياج الصفري للمعركة، فكل ما نطلبه للعمل يوفره لنا في اليوم الثاني، بالاستعانة بالتجار"
ماذا عن المسيرات؟ سمعنا عن تعاون أوكراني وتركي مع إدارة إدلب.
"كل ما قيل أن الاوكران وغيرهم أسهم في صناعة الشاهين، هو محض افتراء. كان شباب الهيئة يحدثوننا بيوميات تطورهم في التصنيع، فيذكرون لنا أنهم صنعوا الباشق (إحدى النسخ الأولية للشاهين)، وتطورت من عشرين كيلومترا إلى أربعين كيلومترا، وقد صنعوا منها كميات صالحة، ويحدثون المعلومات أول بأول، وعملهم يقوم على مقدرات ذاتية، ودخول القطع من عدة معابر متفرقة، وبركة القيادة الواحدة. الإمكانيات كانت قليلة، لكنها كانت مرشّدة" قال أبو صهيب، قائد فرقة أحرار الشام، بحماسة ولغة جازمة. ثم استأنف من حيث توقف أبو المنذر وقال:
"بعد حرب لبنان تداولنا -نحن العسكريين- على الجبهات الأفضل للمحرر، وانعقد إجماعنا على حلب. وقع ذلك قبل المعركة بثلاثة أشهر تماما. وتم تقسيم العمل بين الفرق المشاركة، فرق الهيئة وفرق الأحرار. وبدأ العمل على تجهيز المرابض وتسيير الاستطلاع. رصد العدو أن الجبهة المستعدة للعمل هي كفر نوران، فأخذ بتحشيد قواته على كفر نوران، واستعان بقوات من الحرس الجمهوري ومن الفرقة 25. وقد استفرغ غاية جهده في التحشيد. جاءت الفصائل الراغبة في المشاركة، فتم توزيعها على الفرق الست والمحاور التي تعمل عليها، بحيث تعمل تحت إشرافها. وكان محور الأحرار بسرطون. فجهز العدو خطة دفاعية ووضع الألغام مقدرًا أنها ستكون هي نقطة الاشتباك، وكان الاستطلاع يخبرنا بأن العدو قد جهّز تجهيزا كاملا لامتصاص الهجوم. لم تكن لدى العدو نقطة عمياء سوى ساعة الصفر، وما عدا ذلك فقد كان يظن أنه محيط به".
حين دنا وقت المعركة كانت الهيكلة الإدارية قد نضجت، بيد أن الاحتياجات والإمكانات لم تقترب من سقف الكفاية. "كنا نرى -بوصفنا عسكريين- أن الإمكانيات التي بين أيدينا لن توصلنا إلى حلب! لا تستغرب، خذ مثلا: لقد كنا بحاجة إلى عدد معيّن من المسيّرات، لكن ما توفر لدينا كان 10% منها. وكنا بحاجة إلى عدد معيّن من قذائف المدفعية، ولم يكن لدينا سوى 30% من الاحتياج.
فكان رأينا -بصفتنا عسكريين- أن نؤجل العملية لوقت يكون لدينا الإمكانيات الكافية، فقدرتك على بدء المعركة لا تعني أنك قادر على إنهائها متى أردت" قال أبو المنذر.
"كان سقف طموحنا حلب فحسب، بل كنا نتحدث هل سنأخذ بسرطون أم تستعصي علينا. قبل ثلاثة أيام من المعركة، صدر قرار جديد أن نعمل من منطقتين صغيرتين، بفرقة الأحرار وفرقة الهيئة وبأعداد صغيرة. إذا نجح العمل نكمل، وإن لم ينجح نعلن عن عملية انغماسية وننسحب" أجاب أبو المنذر.
قبل العملية بثلاثة أيام، استدعى القائد الشرع أبا صهيب لجلسة خاصة، كانت الجلسة مختصة بالمشاركين في المحور الذي سيتغير وليس على مستوى الفرق. حضر الاجتماع قائد فرقة الهيئة وقائد فرقة الأحرار، ومسؤول كتائب خالد. وتم إبلاغهم بطريقة سرية بأن محوركم تغير أثناء الحشد، لأن العدو مستعد لمواجهتكم وينبغي الالتفاف عليه لإيجاد نقطة هجوم يمكن التقدم فيها وتطوير العمل بشكل أسرع.
"كان الخبر ثقيلا علينا جدا، فبعد الحشد الذي حشدناه صار مطلوبا منا الانتقال وبدء العمل من الصفر في محور آخر خلال 48 ساعة"، قبل أن ينتهي الاجتماع قال أبو محمد: "ممنوع يا أبا صهيب أن يطلع أحد على الخطة من غير الصف الأول، فهي خاصة بقادة الألوية فحسب".
"باشرنا العمل واستدعينا المعنيين وسحبنا منهم الهواتف وسلمناهم الخرائط الجديدة، ولم يكن قادة الكتائب يعرفون بقرار تغيير المحاور. كان نقل المعدات في آخر يومين عملا شاقا ولم تغمض لنا عين. تشنّج قادة الألوية من القرار".
كان التوتر سائدا على مستوى القيادات والجنود في الأسبوع الأخير قبل المعركة، أصيب القائد الشرع بوعكة صحية شديدة ألزمته الفراش ليومين، بسبب قلة النوم والتوتر. وقبل يوم العملية عاد له شيء من عافيته.
كما أن تعمية المعلومات عن الجنود وانعزالهم عن العالم الخارج لستة أيام أشاع جوا كئيبا للغاية وأخذ يأكل من معنويّاتهم، "كان الشباب يسألوني: نسألك بالله هل نتجه للالتحام مع العدو، أم هو مجرد تمويه، ومحاكاة لمعركة، كما حصل من قبل؟" يقول أبو عمر، أحد شرعيي أحرار الشام. "تحت ضغط السؤال والمعنويات المتدنيّة، خطر لي أن أوظف الحالة لطاقة شحن معنويّ: أعرف أنكم تشعرون بمشاعر سيئة لبقائكم في هذا المكان وقد أغلق عليكم وبدون تواصل مع العالم الخارجيّ، لكن لم تمضِ سوى 6 أيام، فما بالكم بما يشعر به المعتقلون من إخواننا وأخواتنا المسلمات في سجون النظام، والذين ينتظرونكم لتحريرهم. فجأة لمعت عيون الشباب ونسوا ما كانوا فيه، وتحفزوا للالتحام. ومن الجيد أن الأمر لم يطل حتى جاءت الأوامر ببدء العملية".
قرر أبو محمد يوم العملية، فطلبت القيادة العسكرية تأجيل يومين لأحوال الطقس، حيث المطر على التربة الحمراء يعيق تقدم المعدات.
"قال لنا أبو محمد: لدينا خياران: انتظار إلى فصل الربيع وتطور إمكانياتنا بنسبة معقولة، أو العمل الآن لوجود الفرصة والجاهزية أخف. فقلنا له: الفرصة تتغلّب على الجاهزية العسكرية، حيث الروس منشغلون، والإيرانيون منشغلون" قال أبو صهيب.
دخل الجنود المعركة وخيال معارك 2020 لم يفارقهم. "خذها مني: هذه أول خطة في الثورة تطبق بنسبة تزيد عن 90%. فالتزام الشباب بما وضعناه لهم في التوقيت ومحاور التقدم والآليات المتقدمة كان انضباطا كاملا. سارت خطة اليوم الأول كما يجب، وبدأنا بالتطوير.
كانت الصدمة كبيرة في صفوف العدو. وأثر تقدمنا على المحاور الأخرى التي كان يرابط فيها العدو لشهور بعد سماعه بانهيار تحصيناته بعد التفافنا عليه. وحين نفذنا عملية اغتيال القيادة التي كنا نستهدف فيها غرفة العمليات التابعة للنظام، فوجئنا بوجود قائد إيراني".
كانت حركة قوات المعارضة السريعة عنصرا حاسما في المعركة، فالانتقال من حلب إلى حماة تم في يوم. "عقدنا غرفة عمليات في حماة، وانتقل إليها أبو محمد ليتابع سير المعركة، ومنها أصدر قرار التقدم إلى حمص. كانت سرعة حركتنا كبيرة حتى إن رسم الخرائط ما بقي يلحّق علينا".
"بعد حلب صرنا نذخّر من غنائمنا من مخازن العدو. التذخير لحلب كان من التصنيع، وفوجئنا بتصنيع الشباب لطلقات الكلاشنكوف، فـ96% من الرصاص كان من تصنيعنا! وهنا تعرف أن الله اطلع على استفراغ المجاهدين لجهدهم، فقال لهم: خذوا هذا النصر! أعرف قصصا خاصة في الفرقة يذهب فيها المقاتلون ليستدينوا ليوفروا حاجيات العمل!"
ماهي الخطة المتقنة؟ هي مغامرة ناجحة، كما أن كل خطة محكمة هي مغامرة غير محسوبة إذا لم تنجح.
الثورة حالة مرضيّة؛ ليس طبيعيًا أن تنعدم وسائل التواصل بين الشعب ونظام الحكم في دولة من الدول حتى يضطر الناس للخروج إلى الشارع وحمل السلاح ليطالبوا بأساسيات الحق الإنساني، من حرية وكرامة ومعيشة.
هذا يعني أن منطق الحكم قد تعطّل، وعجز عن التفاهم والتعقّل، ولذلك وجب اقتلاعه بالقوّة. حالة الهياج الثوري تقوم أول شيء على الرفض؛ "الشعب يريد إسقاط النظام". يجتمع الناس على ما لا يريدونه "استمرار الوضع الحالي"، ثم تمتدّ الفترة فتتعدد الإرادات، ويحصل الانقسام، ويحدث من التشظي بقدر ما يعرض للناس من إرادات. "كان 90% من الحالة السورية درس تعبير." قال لي قياديّ في هيئة تحرير الشام. واصفًا حالة الفوضى وانعدام التنظيم الذي صادفهم في العمل الثوري.
عندما ألجأ النظام الثورة إلى العسكرة، بزغت شمس التيار الجهادي. "لقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه عبر التجربة والخطأ. هذه ثورة ريف، و70% من شبابنا الذين شاركوا في التحرير لم يحصلوا على تعليم كافٍ. حين بدأت الثورة تحركت الأرياف، وسكنت المدن، وحين رجحت كفة النظام وحلفاؤه رحل المتعلمون، وبقي نموذج القتال الذي كانت تمثله السلفية الجهاديّة.
لم يراكم المجتمع خبرة قتالية من قبل وكان النموذج الجاهز هو النموذج السلفي. نقص التعليم كان تحديًا كبيرًا بالنسبة لنا، لأنك تحتاج أن تنقل الثائر إلى عنصر منضبط، وهذا يحتاج إلى موارد وجهد هائل" قال لي أحمد الدالاتي القيادي في أحرار الشام في ليلة سمر في غرفتي في فندق الشيراتون المطلّ على ساحة الأمويين بدمشق.
عندما تقلّصت الجغرافيا السورية تحت أرجل الثوار، انحازوا إلى إدلب، التي صارت مطبخ الوعيّ الثوري. وفيها ستنضج نار التجربة والإدارة حالة العسكرة الفطيرة. ويلمع نجم أبي محمد الجولاني. قبل عدة سنوات سألتُ صحفيًا بريطانيًا كان التقى بالجولاني عام 2015 عن انطباعه عن الرجل. فقال لي: "كانت لغته مختلفة، كان أول جهادي ألتقي به لا يتحدث عن الشهادة. كل السيناريوهات التي ناقشناها عن مستقبل سوريا كان يرى نفسه حاضرًا فيها، بدا لي أنه يرى نفسه رئيس سوريا القادم"
في إدلب رأى الناس أبا محمد الجولاني، وهو يطعم الناس في محلات الفلافل. لكن ما لم يره الناس أنه قبل أن يضع الفلافل في الزيت المغلي كان يلقي معها تعدد الإرادات التي عصفت بالصف الثوري، ويجمعها خلف إرادة واحدة، تقضي بتوحيد العمل تحت راية جامعة. "حالة التشظي في الفصائل، لا تعود إلى خلاف فكري. بل لأسباب وحظوظ نفسية حين ينتقل المرء من خبّاز وفلّاح ونجّار قبل الثورة إلى قائد فصيل بعدها، يعتاد على الشعور، ولا يعرف العودة إلى حاله الأولى." أخبرني قياديّ شرعي في هيئة تحرير الشام
لقد بدت صورة الجهاديّ الحاكم صورة جديدة في أعين الناس. "يقولون إن الجهاديين لبسوا البدلة، وماذا عساه يلبس من كان في الميدان؟ هل جرب هؤلاء أن يقاتلوا وهم يرتدون ربطة عنق؟ أوه تذكرت هؤلاء لا يقاتلون!. للبيئة منطقها. ولها أثرها في تصنيف أفكارك وتفنيدها. يلبس المجاهد الملابس التي تناسب بيئته، وحين ينتقل إلى بيئة جديدة، سيلبس لباس أهلها. مشكلتهم أنهم لم يروا مجاهدًا منتصرًا، ولا يحبون أن يروه." قال لي أبو خالد، أحد المهاجرين.
في الوقت الذي كان الجولاني يقنع الثوار أو يكرههم على أنه الحلّ الوحيد لديهم لاقتلاع النظام. كان يعمل على إقناع الخارج بأنه نموذج جهاديّ مختلف تمام الاختلاف عن نموذج تنظيم الدولة الذي لم يكن يقتصد في استعداء الجميع. "أظن أننا استقبلنا 500 وفد في العام الماضي للاطلاع على تجربة إدلب" قال لي قياديّ في الهيئة.
في قبو أحد المباني الحكومية في إدلب جلست مع قاضي ومفتي الهيئة وهما من العقول الشرعية المقربة من أبي محمد لاستطلع رحلة التحوّل الفكري الذي حصل للهيئة.
"صحبت الجولاني منذ البداية، أريد أن تحكي لي قصة التحولات الفكرية بالنسبة لكم. منذ كنتم على اتصال بتنظيم الدولة الإسلامية إلى مرحلة إدلب؟" سألت المفتي
"حين جاء الشيخ أبو محمد إلى سوريا، كتب تقريرًا مفصلًا عن مشروع جبهة النصرة وأرسله إلى البغدادي. وجاء رد البغدادي بأنه موافق على كل ما ورد في التقرير. وبدأ بتمويل العمل. ونجح الجولاني أن يقدّم رؤية مقنعة لمن يعمل معه، فاجتمع حوله كثيرون.
بعد فترة أرسل أبو بكر البغدادي أبا محمد العدناني ليلتحق بالعمل مع الجولاني في سوريا، فعيّنه الجولاني مسؤولًا عن العمل في المنطقة الشمالية، ثم لم يلبث أن عزله بسبب قلة كفاءته، ثم عيّنه على معسكرات التدريب، فلم يرضَ عن أدائه فعزله. كتبَ بعدها العدناني تقريرًا كيديًا للبغدادي عن الجولاني. لقد حسد العدناني الجولاني!.
في مطلع عام 2013 جاء البغدادي إلى سوريا واجتمع بنا على مدى ثلاثة أيام من 10/1- 13/1 2013. كان أول ما أثار ملاحظته التفاف الناس حول الجولاني ومحبتهم له، حتى أني سمعته مرة يقول بلهجته العراقية "أكو شيء عجيب، بعض الشباب يقدّر أميره ولا يقدّر أميرَ أميره!"
"أبدًا لم يكن للبغدادي علاقة بالغلو. أذكر أنه أرسل لنا في البدايات يقول: إياكم والذبح، فقد آذانا كثيرًا في العراق. لكن حرصه على السلطة، أخذه بعيدًا."
"كان تنظيم الدولة، يُقاد من الأسفل إلى الأعلى، حيث تحرّكه قاعدتُه. يغلو الجنود من الشباب المتحمّس، فيخشى القائد أن ينفضوا عنه، أو يحيّدوه، فيضطر لاستيعاب غلوهم، وموافقتهم عليه، واستمرّت هذه الصيرورة إلى أن انتهت في الخطاب وبشاعة الأفعال إلى ما تعرفه وسمعت به.
كان ملف المهاجرين من أول أسباب الخلاف بيننا وبينهم. فقد كنا نحرص على فرز المقاتلين القادمين إلينا في مضافات نعدها لاستقبالهم، حتى نختبر سلوكهم وفكرهم وجاهزيّتهم. وكان فريق أبي محمد العدناني وأبي علي الأنباري، حريصين على التحشيد السريع وكيفما اتفق.
ثم اختلفنا في مسألة القُطرية، وتصدير العمل. وكان الجولاني حريصًا كل الحرص على التركيز على سوريا فحسب. كما اختلفنا على مسألة تغيير اسم الجبهة. لكن خلافنا الأساسي كان بسبب التطور الفكري، وتكيّف الجولاني مع الواقع. بينما ظل التصلّب السمة الغالبة عليهم.
وصل الأمر إلى حد لا يمكن السكوت عليه حين اقترح أبو علي الأنباري إرسال شاب بحزام ناسف إلى مقر الائتلاف السوري في اسطنبول ليصفي خلافنا معهم. وقتها أدركنا أن الفجوة عميقة" قال المفتي.
في التاسع من أبريل عام 2013 أعلن أبو بكر البغدادي عن تأسيس دولة العراق والشام، وعن اندماج جبهة النصرة في تنظيم واحد.
وفي اليوم التالي، 10 من أبريل 2013، سجّل الجولاني رسالة صوتيّة يرفض فيها قرار الاندماج، وأنه لم يُستشر فيه. وفك الإرتباط مع البغدادي ملعنًا مبايعته لأمير القاعدة أيمن الظواهري
حين استقلّ الجولاني عن الدولة الإسلاميّة، مال أكثر المقاتلين إلى تنظيم الدولة يبدو أن الشباب فضلوا الانضمام إلى من أعلن عن الدولة لا إلى من يعدهم بها. بقي الجولاني في عدد قليل نحو 300 مقاتل، حينها دعمه قائد الأحرار أبو عبدالله الحموي (حسان عبّود) بمبلغ مقداره مليون دولار، ليبقى الجولاني في المشهد. لم يعلم أبو عبد الله الذي توفي في ظروف غامضة مع عدد من قادة الأحرار في شهر سبتمبر/أيلول 2014، أنه قدم استثمارًا في القيادة التي ستنهي حكم عائلة الأسد لسوريا بعد عشرة أعوام.
واصل شرعيّ الهيئة كلامه عن مراحل التغير قائلًا: "بعد تجربة إدلب بدأت تنضج كثير من الأطروحات لدينا، وبدا لنا أن حمل الناس على أخشن المراكب، ليس سياسة شرعيّة سليمة."
"مرجعيتنا ليست السلفية، بل السلف الصالح" قال القاضي متدخلاً، وأضاف:
"سأجيبك عن الفارق بيننا، وليصححني الشيخ، ملتفتًا إلى زميله. "تتخذ الهيئة وحماس من الشريعة الإسلامية مرجعيّة نهائية لها. ونختلف عنها بمقدار ما تختلف فيه بيئة غزة عن بيئة إدلب في تنزيل الأحكام الشرعية."
ولكن هذا خطاب الإسلام السياسي، وليس خطاب السلفيّة الجهاديّة التي تقول بتطبيق الشريعة جملةً!
"سمِّه ما شئت!"
"في الثورات هناك رجال بناء ورجال هدم، وقد تكون الثورات محتاجة إليهما في البداية. لكن بعد فترة تبيّن لي أننا لا نملك رجال البناء، رأيت في أبي عائشة (أسعد الشيباني) وأبي أحمد حدود (أنس خطاب) وأبي محمد الجولاني (أحمد الشرع) رجال بناء، وأن نجاح الثورة سيكون مرتبطًا بهم. أبو محمد سياسيٌ بارع يعرف متى يتراجع ومتى يقدم، وكثيرًا ما حدثنا عن قهر الجغرافيا، وهو مصطلح يستخدمه أبو محمد عن إكراهات السياسة التي تلجئك إلى قرارات لا تفضلها"
"لم أكن مقتنعًا بالعملية، ذهبت إلى الجولاني وقلت له: اتقِ الله ولا تلقِ بالمسلمين إلى التهلكة، فنصف الفرصة مهلكة محققة".
"كنا نفكر بأنه ينبغي على الأتراك أن يروا فرصتهم معنا وليس مع النظام. إذا نجحنا في تحرير بعض الأراضي من سطوة النظام، وحللنا لهم مشكلة اللاجئين، سيقبلون علينا ويرون فينا حليفًا يعوّل عليه".
اكتفى المفتي بابتسامة عريضة، بينما نظر إليّ القاضي وقال بلغة حماسيّة
"أخطأنا كثيرًا وقصّرنا كثيرًا. لكننا كسرنا المشروع الصفوي، هذا هو أعظم منجز بالنسبة لي!"
ألم تندم على تركك لبلادك، وقدومك للقتال في سوريا؟ لقد بدا الأمر فوضويا. وحين خرج كثير من السوريين، بقيت.
"كيف أندم؟ هل تعرف معنى أن تكون مركز العالم؟ كل يوم أستيقظ فيه وأطالع الأخبار أشعر أن كل خبر يعنيني، لأنه إما أن يكون الحدث في صالحنا أو ضدنا. هذا الشعور الذي يمنحك إياه الجهاد. على أي شيء أندم؟ على روتين الوظيفة التي تركتها، أم على أصحابي الذين لم يكن العالم يعنيهم في شيء؟!"
أجابني أحد المقاتلين الذين جاء إلى سوريا منذ بداية الثورة.
في حي قدسيّا النائم على سفح جبل قاسيون بدمشق، توقفت السيارة وأنا مصابٌ بالدوار، كان السائق أحد المقاتلين الذين لم يغادرهم جو الاقتحامات بعد، فكان ينتقل بنا من مكان إلى آخر وكأنه ينفذ مناورة عسكرية. في المقعد الخلفي للسيارة التي تحمل لوحة إدلب، جلستُ رابع ثلاثة من المقاتلين، الذين دعوني لجلسة لتناول الشاي الأخضر في سكنهم الذي حصلوا عليه بعد دخولهم إلى دمشق محررين قبل أسبوعين.
بدا البيت نظيفا ومرتبا جدا مع أثاث عتيق، ولولا انقطاع التيار الكهربائي عن الحيّ باستمرار لكان المكان أشرح منظرا. همستُ لأبي أسامة، قائد سريّة ومهاجر قدم لسوريا قبل 12 عاما: "لمن هذه الشقة؟".
"كانت لأحد شبيحة النظام، واليوم يسكنها بعض المجاهدين".
اجتمع في المجلس عدد من المقاتلين المهاجرين وبعض السوريين. كان المهاجرون قد اندمجوا تماما في حياتهم الجديدة، فبجانب القتال والمشاركة في المعارك أخبرني أحد المهاجرين في ذلك المجلس بأنه تخصص في دراسة الطب، وحصل على شهادة تخرج من قريب وصار يعالج المصابين في المعارك.
كانت راية جبهة النصرة هي العنوان الرئيسي في سوريا الذي يقصده المهاجرون، لارتباطها بالقاعدة صاحبة المشروع الجهادي العالمي. ولكن حين بدأ اقتتال الفصائل ألقى كثير من المهاجرين سلاحهم، واعتزلوا القتال، وأسس بعضهم سرايا وكتائب مستقلّة، كانت تشارك في المعارك التي تستهدف النظام وحلفاءه.
نظر إليّ أبو أسامة وكأنه وجد في السؤال تحديا له، فقال: "حسنا، دعني أحاول". وأخذ يعقد أصابعه مع كل خطوة: "جمع الكادر البشري، توفير السلاح والعتاد، صياغة الفكرة التي تجمعنا، التمويل، هذه أربع، وليست خمسا" قالها رافعا يده بأربعة أصابع. ثم أكمل: "كان تركيزنا في هذه السرية على السلاح النوعي، فتخصصنا في القنص الحراري. اجتمعت في إدلب خلاصة الخبرة الجهادية، فقد جاءنا مدربون من أفغانستان والشيشان وضباط من العراق، وأخذنا دورات تدريبية عند جماعة تكتيكال الروسية، والتي كانت تركّز على المهارات الفريدة بالأسلحة وكانوا في غاية الإتقان".
"مجموع عتادنا بـ300 ألف دولار، تشمل المركبات والأسلحة، والقناصات المحلية والمناظير الليلية. لقد كانت بصمة الإتقان في هذه المعركة هو التصنيع".
ما آخر ما وصل إليه الثوّار في التصنيع؟
"وصلوا إلى الراجمات، وقذائف جهنم التي يصل مداها إلى 15 كلم، والقناصات التي تتولى المخارط والورش تصنيعها، بالإضافة إلى سيارة الكرار التي ساهمت مساهمة كبرى في المعارك الأخيرة.." رأى علامة الاستفهام على وجهي فواصل شارحا:
"الكرار سيارة اقتحامات، يتم تفكيك هيكل سيارة الشاص، ويُركّبون عليه مصفحة وزجاجا مضادا للرصاص، وتحمل بين 10-12 جنديا. هذا ما أعرفه واطلعت عليه في موضوع التصنيع، لكن بقية التصنيع يتم داخل الهيئة".
"هي عمل محلي، نعرف الأشخاص الذين كان يعملون عليها منذ 2020.
للدول المجاورة دور معاكس في التصنيع، فقد كانوا عقبة في سبيله، يعاني المهندسون الذين يعملون على التصنيع من منع المواد من الدخول عبر المعابر، ويصادرون كاميرات الكواد كابتر، واللبس العسكري، هل ترى هذه الجاكيت الذي ألبسه أنا ويلبسه أبو محمد بجانبك؟ هذه ملابس ممنوع دخولها من المعابر. نحن نشتغل بهيك مصلحة، فتحنا محلا لخياطة هذه الملابس في إدلب. كان التضييق شديدا جدا".
التقط أبو محمد، رجل هادئ الملامح كثير الابتسام، الذي هاجر إلى سوريا والتحق بالثورة منذ بداياتها، خيط الكلام، قائلا:
"مرحلة ردع العدوان سبقتها أسوأ المراحل النفسية والمعنوية. لقد كنا مثل بني إسرائيل قبل مجيء موسى. لما خرج قوم موسى هاربين معه قالوا إنا لمدركون. نحن كنا نقول إنا مدركون، بسبب الفقر والوحشة وانسداد الأفق السياسي.
مع تحشيد النظام قواته على حدود إدلب، كان الحديث بين المجاهدين عن خطة النزوح إلى الحدود حينما يبدأ النظام هجومه. كنا نفكر بعملية دفاعيّة نصد فيها تقدمه إلى أن نؤمّن لأهالينا ملاذا على الحدود التركية، أعرف من كان يبحث عن إيجارات المساكن على الحدود. ما حدث بعد ذلك كان صناعة إلهية".
"يتواصل صاحب السرية مع أحد الألوية مع الهيئة أو غيرها ويبدي استعداده للمشاركة في العمل" أجاب أبو أسامة
"لأني رأيت بعيني مفاصل حاسمة في هذه المعركة، كنت في معركة حلب، وشهدت اقتحام مقر سهيل الحسن في الفرقة 25، وهي استثمار روسي في الجيش السوري، مركز حصين ولديه أسلحة متطورة، بعد أن تعطلت كثير من المجنزرات المجهزة لاقتحامه، اقتحمته مصفحتان عبر عملية استشهادية. أصيبت مصفحة وقتل بعض من فيها، ووصل البقية. ودخلوا على الفرقة، لو ضربتهم الفرقة بالعصيّ لقتلتهم لفارق الكثرة العددية! لكنهم ركضوا كالفئران منهم.
يقول لي أحد المقتحمين، أصيب أحد الإخوة، فقال لصاحبه أعطني سلاحك واطلب سلاحا آخر، انفلت الشاب الفدائي، فصادف رجلين من العدو، فلما قابلهم وهو أعزل صرخ فيهم بلهجة علويّة: جاءتنا التعليمات بالانسحاب باتجاه الباب، فركضا وركض معهما، التفت عليه أحدهما وقال له احمل عني البيكا (سلاح رشاش) فقد تعبت، فالتقطها وأجهز على الأول، ولحق بالثاني فأرداه قتيلا ونجا.
أعظم بركات هذه العملية اختفاء النفس الفصائلي فيها، فهذه المعركة كانت معركة وجود، إما نكون أو لا نكون".
في الزاوية، على كرسيّ خشبيٍّ هزاز، جلس المقرئ محسن غصن، شابٌ بهيّ الطلعة، بلحية طويلة مهذّبة، انتشرت صورته وهو يؤم المصلين بلباسه العسكري في الجامعي الأموي بعد تحرير دمشق، بعد أن تداول ناشطون دعاءه في رمضان الماضي بأن يمنّ الله عليه بالصلاة في الجامع بدمشق".
صليت معه في مسجد زيد بن ثابت قبل ليلتين، حيث أمَّ الناس وألقى فيهم كلمة بعد الصلاة، ثم تحلّق حوله روّاد المسجد، وحين خرج استوقفه شاب دمشقيّ لم يبلغ العشرين من عمره، ومعه شقيقٌ له يقاربه في العمر، بعد السلام عليه، أخذ الشاب يبكي بين يديه ويقول له: سامحني يا شيخي لقد خذلناكم ولم نجاهد معكم! لقد ضحيتم من أجلنا بكل شيء" أخذ الشيخ وشقيقه يهدّئانه والشاب غارق في نوبة حادة من البكاء والاعتذار.
"كان دعاؤنا دائما: اللهم افتح بنا البلاد واهدِ بنا العباد. لم يفارقنا اليقين بأننا سننتصر، لم نكن ندري كيف ومتى، لكنه شيء انعقدت عليه قلوبنا طوال جهادنا الذي استمرّ 14 عاما. في الأشهر الأخيرة كان الاستعداد على أشده، وكان التكتم شديدا، جرى حديث عن سراقب وعن ريف إدلب، وقبل أسبوع من العملية تبيّن لنا أن حلب هي الهدف، كنت من صائدي الليل، حيث نعمل على القنص بالمنظار الحراريّ، وهذا السلاح أحدث فارقا في المعركة.
لم نشارك في حلب، وشاركنا في قلعة المضيق في سهل الغاب، وفي حماة وحمص. شاركت مع فصائل مختلفة، كان التنقل بين الفصائل سلسٌ والتنسيق عالٍ، بعد فتح حلب أقبلت كل الفصائل على المشاركة، رغبة في الغنائم. كنتُ مع سرية أبي أسامة، كانت سريتنا أكثر السرايا مشاركة (سرية سعد 40 جنديا) شاركنا في حلب مع الهيئة، ثم شاركنا في معركة سهل الغاب مع الجيش الحر، ثم في معركة حماة مع الجبهة الشامية والجيش الوطني، ثم في حمص مع الجبهة الشامية، وبعد حمص انكسر النظام وأصبح الطريق إلى الشام سالكا.
في اليوم الثاني من دخولنا لدمشق صليت في الأموي، بدون ترتيب، دخلنا متنزهين في الشام، فأدركتنا صلاة المغرب في الأموي، فلما حانت صلاة العشاء طلب منا المؤذنون أن أصلي بهم العشاء. كنت إماما حافظا للقرآن قبل جهادي، وأممت في حلب وإدلب.
عادة أصوّر الصلاة، وأبثها في قناتي، فطلبت من أحد الشباب تسجيل الصلاة، فلما نشرته طار كل مطير. في اليوم الثاني صارت الناس تستوقفني وتسلم عليّ حيث اتجهت".