رغم هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية قبل ست سنوات على يد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والتحالف الدولي، فإن أيديولوجيته المتشددة و قدراته العملياتية وآلاف الأعضاء المحتجزين في مخيم الهول في محافظة الحسكة، كل ذلك لا يزال يشكل تهديدًا كبيرًا ليس على السوريين فحسب، بل على الدول المجاورة والغرب أيضاً.
ويتفاقم هذا التحدي في ظل الإدارة السورية الجديدة، في خضم الجهود الرامية إلى تشكيل جيش وطني موحد، إذ تواجه الإدارة انقسامات عميقة بين الفصائل السورية المسلحة ومصالح متنافسة من القوى الإقليمية والغربية، ما يزيد من تعقيد الطريق نحو الاستقرار، وربما يمهد الطريق أمام تنظيم الدولة للظهور من جديد.
وهنا يبرز سؤال مهم: هل يتحدى تنظيم الدولة الإسلامية سلطة هيئة تحرير الشام على الرغم من منشأهما الواحد وهو تنظيم القاعدة كما يقال؟ وهل هناك نقاط ضعف محتملة يمكن للتنظيم استغلالها من أجل معاودة نشاطها؟
سألت بي بي سي بعض الخبراء بقضايا مكافحة الإرهاب وشؤون الشرق الأوسط لتوضيح ما يجري الآن في المنطقة.
البروفسور بروس هوفمان، وهو زميل أول في مكافحة الإرهاب والأمن الداخلي في منظمة مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن، وأستاذ في كلية إدموند أ والش، للخدمة الخارجية في جامعة جورج تاون، والذي كان مفوض في اللجنة المستقلة لمراجعة استجابة مكتب التحقيقات الفيدرالي للإرهاب والتطرف بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، يقول لبي بي سي عربي: "إن التنافس بين تنظيم الدولة والجماعات السلفية الجهادية الأخرى سواء في سوريا أو في أماكن أخرى، يعود إلى زمن طويل ويستعصى على الحل. والسبب هو استياء تنظيم الدولة من هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) بسبب تحالف مؤسسها وزعيمها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) مع زعيم القاعدة آنذاك أيمن الظواهري، بدلاً من تنظيم الدولة الإسلامية وزعيمها آنذاك أبو بكر البغدادي".
تمكن تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014 من بسط نفوذه على ما يقرب من مساحة 88 ألف كيلومتر مربع و 8 ملايين شخص، في سوريا والعراق، كما استطاع جني مليارات الدولارات من عائدات النفط والسرقات وعمليات الخطف التي كانت تطالب بالفدية.
وعلى مدى السنوات الخمس التالية، تمكن التنظيم من استقطاب الآلاف من الجهاديين من جميع أنحاء العالم إلى ما كان يقول حينها إنها "المدينة الفاضلة في دولة الخلافة الإسلامية" لكن الواقع على الأرض كان عبارة عن حياة يهيمن عليها العنف الشديد.
ومن خلال التصريحات التي صرح بها أحمد الشرع، يبين أن الإدارة في دمشق تعمل في الوقت الحالي، على الحفاظ على الأمن ومنع ظهور تنظيم الدولة والجماعات المسلحة الأخرى وإعادة بناء المؤسسات الحكومية في المناطق التي مزقتها الحرب، وتأمين الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم وتطوير البنى التحتية. وكذلك، يقول إنه يعمل على توحيد القوى العسكرية لبناء جيش سوري موحد تندمج فيه كافة الفصائل المسلحة في البلاد.
لكن هيئة تحرير الشام، تضم المئات من الجهاديين الأجانب في صفوفها ومنحت بعضاً منهم جنسيات سورية ومناصب في الدولة، مما عرضها لانتقادات.
وقد حذر مبعوثون أمريكيون وفرنسيون وألمان، الحكام الإسلاميين الجدد في سوريا، من أن تعيينهم لجهاديين أجانب في مناصب عسكرية عليا يمثل مصدر قلق أمني وسيئا لصورتهم في الوقت الذي يحاولون فيه إقامة علاقات مع دول أجنبية بحسب رويترز.
ومن ضمن أكبر التحديات التي تواجهها الإدارة المؤقتة، هي إعادة بناء الاقتصاد المدمر وتحديات إعادة الإعمار بموارد محدودة في ظل العقوبات الدولية المفروضة على البلاد.
ستحتاج الإدارة الجديدة من أجل شرعنة سلطتها، إلى الاعتراف والدعم من الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية لتعزيز السلطة والحصول على المساعدات والاستثمار. إلا أن الغرب لا يزال يتعامل مع السلطة الجديدة بحذر، ولا تزال هيئة تحرير الشام على قائمة الإرهاب الأمريكية.
وعلى الرغم من أن تنظيم الدولة هزم قبل ستة أعوام في آخر معاقله في الباغوز، إلا أنه لا يزال يمثل تهديدا أمنيا كبيرا، إذ إنه قادر على شن هجمات في المنطقة ما أن تتسنى له الفرصة وخاصة كما يقول هوفمان لبي بي سي "في حال فشلت السلطة المتمثلة بهيئة تحرير الشام في الحكم وتوفير الأمن في تلك الأجزاء من سوريا التي حافظ فيها تنظيم الدولة الإسلامية على وجوده لأكثر من عقد من الزمان".
ولا يزال "تنظيم الدولة" يحرض على شن الهجمات عبر منبره في مواقع التواصل الاجتماعي تلغرام، لسببين رئيسيين هما: الدعوات للانتقام من الهجوم الإسرائيلي على غزة وسجن نساء وأطفال عناصر تنظيم الدولة في مخيم الهول المعزول في شمال شرقي سوريا.
تريشا بيكن، أستاذة في كلية الشؤون العامة في الجامعة الأمريكية، ومؤلفة كتابَي "لماذا تشكل الجماعات الإرهابية تحالفات دولية" و"الإرهاب في مرحلة انتقالية: القيادة والخلافة في المنظمات الإرهابية"، تقول لبي بي سي عربي: "من غير المرجح أن تردع سيطرة هيئة تحرير الشام عودة تنظيم الدولة، نظراً للتنافس العميق بين المجموعتين، لذلك، سيعيق تنظيم الدولة قدرة هيئة تحرير الشام على تعزيز قوتها وسيستهدفها بشكل مباشر . وبما أن التنظيم لا يمتلك القوة الكافية حالياً لمواجهة هيئة تحرير الشام بشكل مباشر، سيعتمد أسلوب نصب الكمائن لها ويقوم بهجمات مباغتة ضد أهداف أخرى سهلة لإثبات أن هيئة تحرير الشام لا تستطيع توفير الأمن في البلاد".
وتضيف: "سيكون بمقدور تنظيم الدولة تحقيق تقدم في المناطق المتنازع عليها فقط إذا استطاع تقديم نفسه على أنه أفضل من البديل أو قام بترهيب وإرغام السكان على الرضوخ".
وعدا عن تهديدات تنظيم الدولة، لا تزال هيئة تحرير الشام تواجه أعمالاً عدائية مستمرة من قبل جماعات المعارضة للهيئة، ما يعقّد من جهود الاستقرار ويؤخرها.
إن معارضة أنقرة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي يقودها الأكراد في شمال وشمال شرقي سوريا، تشكل تحدياً مباشراً لاستقرار البلاد، فضلاً عن وجود التحالفات الدولية والجهات الفاعلة المتنافسة، مثل الولايات المتحدة. حيث تعتبر أنقرة، قوات قسد امتدادا لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، وترفض بشدة مشاركتها في سوريا الجديدة، مطالبة إياها بتفكيك قواتها وإلقاء سلاحها وإخراج الأكراد غير السوريين (أعضاء بحزب العمال الكردستاني) من ضمن صفوفها، بيد أن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة يرى في قسد حليفاً أساسياً له في سوريا و يؤيد ضرورة مشاركتها في الإدارة الجديدة.
كما أكد كل من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ووزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بيربوك، على ضرورة إشراك الأكراد في الإدارة الجديدة وحماية حقوق الأقليات كشرط لدعم الإدارة الجديدة.
وتقول تريشا بيكن لبي بي سي: "إن دعوات تركيا سابقة لأوانها. فمن السابق لأوانه دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري المخطط له. ونظراً للدور الحاسم الذي تلعبه قسد في احتواء تنظيم الدولة، فإنها تحتاج إلى الاستمرار كقوة مستقلة خلال فترة الانتقال مع المفاوضات المستقبلية حول دورها في الجيش السوري المخطط له بمجرد أن يصبح الجيش أكثر رسوخاً. وإذا بدأت قسد في الاندماج الآن، فهذا من شأنه أن يخلق فرصاً قد يستغلها تنظيم الدولة".
وترغب الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، الجناح السياسي لقسد، في دولة لامركزية، في حين تصر الإدارة المؤقتة في دمشق وحليفها الأساسي تركيا على مركزيتها.
وحتى الآن، يرفض الفيلق الخامس بقيادة أحمد العودة في درعا، وكذلك الدروز في جنوبي البلاد تسليم أسلحتهم، ما لم يتأكدوا من شكل الدولة القادمة الذي سيقره الدستور السوري الجديد المرتقب، ناهيك عما يسمى "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا، والذي لا يزال يخوض معارك عنيفة ضد قسد في محيط سد تشرين في منبج، شمالي البلاد.
فهل يستغل تنظيم الدولة كل هذه الخلافات وينشط من جديد في المناطق التي يتواجدون فيها؟
ترى تريشا بيكن، أن "قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي سيلعبان دوراً أساسياً في احتواء تنظيم الدولة خلال هذه الفترة الانتقالية الهشة لمنع استغلال التنظيم لأي فرصة متاحة، ونظراً لضخامة المهام التي تنتظر الحكومة الجديدة، فإن قسد والتحالف الدولي بحاجة إلى البقاء يقظين ونشطين في جهودهم لمواجهة تنظيم الدولة".
البروفسور جوردي تيجيل، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة نوشاتيل بسويسرا، كتب عدة مؤلفات عن الأقليات والأكراد والحدود في الشرق الأوسط، من ضمنها: (المسألة الكردية: الماضي والحاضر) و (أكراد سوريا: التاريخ والسياسة والمجتمع).
يقول تيجيل لبي بي سي عربي: "إن الإدارة المؤقتة تحتاج إلى أن تدرك أن أسسها هشة؛ فهي نابعة من قطاع واحد من المجتمع السوري، والذي على الرغم من أنه يمثل كتلة كبيرة من السوريين ويتمتع حالياً ببعض الشرعية بفضل مقاومته المسلحة، إلا أنه لا يستطيع أن يمحو التنوع الاجتماعي والسياسي والعرقي والديني السوري. وبالنسبة للعديد من السوريين من أقليات دينية ويساريين وليبراليين، فإن الدولة العلمانية هي الضمانة الأفضل لنجاح بناء سوريا الجديدة".
إذاً، هل تستطيع الإدارة المؤقتة في دمشق بقيادة الشرع ذي الباع الطويل في الحركات الجهادية الإسلامية، بناء سوريا تعددية تضمن حقوق كافة المكونات العرقية والدينية والسياسية وبالتالي تحقيق المساواة للجميع؟
يرى تيجيل أن الحذر لا بد منه.
ويقول: "في ظل التقاليد الإسلامية في عهد العثمانيين كانت المجتمعات المسيحية واليهودية "محمية"، ولكنها لم تكن مساوية للمسلمين السنة. وعندما تزعم السلطات السورية الجديدة أن حقوق الأقليات ستكون محمية، ماذا تعني بذلك؟ هل سيتم اعتبارهم مرة أخرى أهل ذمة كما كان الحال في العهد العثماني أم أنهم سيكونون متساوين؟ والإجابة على هذا السؤال ليست واضحة بعد. أما بالنسبة للمجموعات العرقية مثل الأكراد، فليس من الواضح أيضاً ما إذا كان سيُسمح بتدريس اللغة الكردية في المدارس إذا تولت الحكومة في دمشق التعليم في شمال سوريا. وحتى الآن، تميل التصريحات العامة إلى جعلنا نعتقد أنها ليست حريصة على منح الأكراد حقوقاً ثقافية كبيرة".
وخلاصة الأمر، تواجه الإدارة الجديدة في دمشق مزيجاً هائلاً من التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في سعيها لإعادة بناء البلاد. وسيعتمد نجاحها بدرجة كبيرة على مدى قدرتها على تحقيق التوازن بين هذه المطالب المتنافسة مع تعزيز الشراكات مع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع ومنع استغلال تنظيم الدولة الاسلامية والجماعات الجهادية الأخرى للثغرات التي قد تتخذها كنقطة لانطلاقة جديدة في البلاد.