آخر الأخبار

وقف إطلاق النار: عائدون إلى جنوب لبنان "مشتاقون لرائحة الأرض"

شارك الخبر
مصدر الصورة

حين عاد أهل فاطمة فقيه إلى بيتهم المدمّر في صريفا جنوبي لبنان صباح الأربعاء، وجدوا القطّة تنتظرهم عند الباب.

غادرت فاطمة لبنان إلى إيطاليا في سبتمبر/ أيلول، قبل أيام من تصاعد حدّة الحرب، ونزوح عائلتها من القرية. بعد ساعات قليلة من سريان وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، وصلها تسجيل فيديو عبر الهاتف من ابنة عمها. "كانت واجي تنتظرهم، ولا تزال على قيد الحياة. رأيتها وسمعت صوتها، فلم أصدّق".

أمضت فاطمة النهار تحاول التواصل مع أهلها، لكن الكهرباء وشبكة الانترنت مقطوعتان عن القرية. "عرفتُ فقط أن زهرة القرنفل التي أحبها، ماتت. الحديقة، ومحيط المنزل كله مدمّر. لكن أهلي قالوا سنعود حتى لو كان البيت كومة تراب".

عائلة فاطمة واحدة من عشرات آلاف العائلات اللبنانية التي نزحت في 23 سبتمبر/ أيلول الماضي، مع وصول التصعيد العسكري بين إسرائيل وحزب الله إلى ذروته. وتقدّر الحكومة اللبنانية عدد النازحين بأكثر من 1.2 مليون شخص.

ماذا نعرف عن بنود الاتفاق بين حزب الله وإسرائيل؟

"بيننا وبين الجنون شعرة": مغتربات لبنانيات يشهدن الحرب من بعيد

مصدر الصورة

وكثّفت إسرائيل قصفها خلال الشهرين الماضيين على مناطق في الجنوب، والبقاع، والعاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية، وعدد من المناطق الأخرى على امتداد الأراضي اللبنانية، قائلة إنها تستهدف مواقع عسكرية لحزب الله، لتأمين عودة آلاف سكانها النازحين من مناطقها الشمالية، وتدمير الحزب عبر قتل عدد كبير من قادته، من بينهم الأمين العام السابق حسن نصرالله.

وكان التصعيد العسكري بين الجانبين بدأ في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حين أعلن حزب الله فتح جبهة إسناد لغزة في جنوب لبنان.

وبحسب وزارة الصحة اللبنانية بلغت حصيلة القتلى في لبنان 3823 شخصاً، منهم مدنيون ومقاتلون. وعلى الجانب الإسرائيلي، قتلت ضربات حزب الله 118 إسرائيلياً، بين مدنيين وعسكريين، وفق السلطات الإسرائيلية.

ما دور الجيش لبنان في تنفيذ الاتفاق بين إسرائيل وحزب الله؟

ومع إعلان سريان وقف إطلاق النار، شهدت الطرقات الرئيسية على امتداد الخط الساحلي باتجاه الجنوب زحمة سير، بعدما قرر الآلاف العودة إلى بيوتهم التي هجّروا منها، رغم تحذيرات من وجود مخلفات جراء القصف الإسرائيلي، ورغم الدمار الكثيف في العديد من القرى الجنوبية.

وانتشرت على مواقع التواصل صور وتسجيلات لسيارات محمّلة بالأمتعة الشخصية والفرش، تتوجه جنوباً، في مشهد يعيد إلى الذاكرة النزوح المعاكس المماثل فور سريان وقف إطلاق النار بعد حرب تموز 2006، وبعد إعلان انسحاب إسرائيل من المناطق التي كانت تحتلها في جنوب لبنان عام 2000.

ونشر العائدون إلى قراهم على مواقع التواصل صوراً وتسجيلات تظهر فرحتهم، وهم يطلقون أبواق سياراتهم، ويسمعون أغاني فيروز وأناشيد تتغنى بالجنوب وأرضه.

مصدر الصورة

من بين العائدات إلى الجنوب الأربعاء ريم بدوي، وهي من قرية عين بعال (قضاء صور - 89 كلم جنوب بيروت). تخبرني أن ابن اختها عمره أربع سنوات، أيقظها متحمّساً منذ الصباح الباكر لأنه عرف أنهم عائدون إلى البيت.

رغم أن المنزل مهدّم ومن الصعب الوصول إليه، لكن ريم وعائلتها قرروا خوض الرحلة الصباحية باتجاه الجنوب، بدون تردّد. "نريد أن نشمّ رائحة الأرض، ونلتقي بأهلنا وجيراننا. مشاهد الدمار تدمي القلب، لكننا صرنا نلتقي بالناس العائدين مثلنا على الطرقات، ونهنئ بعضنا البعض بالسلامة، مع أننا لا نعرفهم. سنحتاج إلى وقت لإعادة ترميم بيوتنا، ولكننا سعداء، تشعرين هنا أن كل حي، وكل شجرة، وكل قرية، هي لك أيضاً".

مع بداية الحرب، طال القصف قرية ريم ومحيط منزلها، ونزحت مع عائلتها إلى منزل آخر، قصف محطيه أيضاً. لكنها ترى في وقف إطلاق النار انتصاراً لأولئك الذين حاربوا إسرائيل طوال العام الماضي. وقالت: "النزوح كان صعباً للغاية. فقدنا أصدقاء وأفراداً من العائلة، لكن النصر يستحقّ كل تلك التضحيات".

مروة قصير، من قرية دير انطار (محافظة النبطية – 108 كلم جنوب بيروت)، كانت نازحةً إلى بلدة إهدن في الشمال، وحدثتي وهي تستعدّ للعودة إلى بيتها، بعد أكثر من شهرين. تقول: "المشاعر مختلطة، أشعر بالحزن لأننا فقدنا أعزاء على قلوبنا، ولكن لا نصر بدون تضحية".

تخبرني كيف بدأت الناس توضب أمتعتها وتستعدّ للعودة فور تأكيد أخبار وقف إطلاق النار، "رغم أن الطريق ستكون طويلة ومزدحمة، لكن الفرحة لم تسعنا. ربما لن نجد بيوتنا، وخسرنا الكثير، ولكن المهم أن الأرض لنا".

مصدر الصورة

القطط الجائعة تنتظر العائدين

في ضاحية بيروت الجنوبية، لم يختلف المشهد كثيراً. أُعلن وقف إطلاق النار عند الرابعة فجراً، وعند السابعة صباحاً، كان والد أمل فارس يستعدّ للعودة إلى بيته في حي الجامعة، وبدأ فوراً بتنظيفه من الركام.

نزحت العائلة خلال ستين يوماً أكثر من مرة، مع أنهم رفضوا في البداية مغادرة البيت. تصف أمل مشهد العودة: "كان الحيّ مليئاً بالسيارات والأعلام والأناشيد، والناس يحتفلون ويوزعون الحلوى. اطمئنينا على الجيران، وعلى البيت، حجم الدمار كبير في بيتنا، ولكن نشكر الله على نعمة العودة وعلى العزيمة".

من جهته، يخبرنا محمد، أنه لم ينم طيلة الليل، بانتظار الصباح، لكي يصطحب والدته إلى منزلها في برج البراجنة. يصف لنا المشهد فور دخوله إلى الضاحية بعد غياب أسابيع: "الدمار واضح على مداخل الضاحية، ويصير أوضح عند السير أكثر باتجاه الأحياء الداخلية، هناك أبنية مدمرة بالكامل، وأبنية محترقة. وجدت أن بيتنا لا يزال في مكانه، نظفنا الزجاج المتناثر والدتي وأنا، وسنبدأ من الغد بترميمه".

يخبرني محمد كيف شاهد أشخاصاً يحملون أمتعتهم وفرشهم، وأشخاصاً على شرفات منازلهم المدمرة يجمعون الركام، وينظفون أمام متاجرهم، وكل الناس تهنئ بعضها بالسلامة.

لكن أكثر ما استوقف محمد هو تجمعات القطط الجائعة التي بدأت تتجمهر حول العائدين بانتظار إطعامها.

مصدر الصورة

وقتٌ للحداد

عادت آية أبي حيدر أيضاً إلى برج البراجنة لزيارة قبر والدتها، ومنزل جدتها المدمّر. آية ممثلة وصانعة محتوى لبنانية، وكانت وثقت خلال الحرب دمار المنزل الذي كانت سترثه مع شقيقتها عن جدتها وعن أمها التي توفيت بأزمة قلبية العام الماضي في سن صغيرة.

تقول لي: "لا أعرف تحديد مشاعري. أشعر أن كل شيء حدث بسرعة، كأننا كنا في كابوس، وفجأة صرنا في عالم جديد. لم يكن لدينا وقت للحداد في الحرب، أو حتى فرصة لنفهم مشاعرنا. ما معنى أن نتعرض للتهديد كل يوم؟ ما معنى أن نُهَجَّر فجأة؟ وما معنى أن يتغير روتين حياتنا بشكل جذري بين ليلة وضحاها؟"

تخبرني: "بيت أمي انهار، مثل كثير من البيوت. ورغم أنني قضيت فيه 21 عاماً منذ ولادتي، لم أستطع أن أشعر بشيء عندما تدمر، لأن الخسائر الأكبر طغت على كل شيء. هناك صدمة عامة تخيم على الجميع. الآن فقط أشعر برغبة بالجلوس والتفكير بكل ما حدث خلال هذا العام الثقيل جداً".

تتابع: "هناك تعب وحزن، ولكن أيضاً فخر بأننا وقفنا في الجانب الصحيح من التاريخ. وسنبقى في بيروت، لأنها بوصلة كل شيء".

"لا نملك ترف الشعور"

هاشم هاشم، شاعر ومسرحي من الجنوب، أمضى كل حياته وطفولته في الضاحية، عاد صباح الأربعاء إليها على دراجته النارية، بعد غياب أسابيع.

يخبرني: "المشهد كان مختلطاً، هناك ترقب في عيون الناس، البعض يرفعون أعلاماً حزبية، والبعض يطلقون هتافات ومتحمسون، وأناس آخرون يتفرجون على حجم الدمار، نساء يتفقدن بيوتهن، رجال يكنسون".

يقول إن رائحة الدمار والدخان ومخلفات القصف مؤذية للغاية. الناس تغطي وجوهها وأنوفها لتجنب الرائحة، والردم هائل، وأكبر مما كان عليه في عام 2006. "لم أتمكن من الدخول إلى الكثير من الأحياء بسبب الركام، وبسبب إطلاق الرصاص احتفالاً. مبنى منزل أهلي لا يزال في مكانه، لكنهم سيتريثون بضعة أيام قبل تفقده، لأن وضعهم الصحي لا يسمح لهم بالتعرض لمخلفات القصف والدخان."

يقول هاشم إنه ما زال غير قادر على فهم مشاعره بالكامل. "حين مررت أمام مدرستي ومنزل عائلتي، شعرت بغصة. الدمار يفوق قدرتنا على الإدراك أو استيعاب حجم هذه المصيبة الجماعية. أظن أن مجتمعنا بأسره، بعد كل ما شهده وعاشه، لم يعد يمتلك ترف الشعور أو التفكير بما نشعر به؛ وذلك كله سيترك آثاراً عميقة علينا في المستقبل".

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك الخبر

أخبار ذات صلة



إقرأ أيضا