بعد عقود من السماح للشركات الصينية بالاستحواذ على أصول صناعية في أوروبا وأميركا، بدأ صانعو السياسات في الغرب إعادة النظر في تلك القرارات، وسط تصاعد المخاوف من فقدان السيطرة على ما تُعرف بـ"وسائل الإنتاج"، وفق تحليل لبلومبيرغ.
وبحسب تقرير بلومبيرغ، فإن مسألة ملكية وسائل الإنتاج، التي طالما ارتبطت بالنقاشات الأيديولوجية خلال الحرب الباردة، عادت اليوم لتتصدر أولويات صناع القرار في الاقتصادات الغربية، ولكن هذه المرة في سياق المنافسة الجيوسياسية مع الصين .
وتشير بلومبيرغ إلى أن قادة الحزب الشيوعي الصيني ، حتى في ذروة سياسة "الإصلاح والانفتاح" خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ظلوا حريصين على مسألة الملكية، حيث فُرضت الشراكات المشتركة على الشركات الأجنبية الراغبة في دخول السوق الصينية.
كما تم اعتماد هياكل قانونية معقدة مثل نموذج "كيانات المصالح المتغيرة"، الذي يترك المستثمرين الأجانب بحصص في شركات واجهة بدلًا من ملكية مباشرة في الشركات الصينية.
في المقابل، لم تفرض الدول الغربية قيودًا مماثلة عندما سعت الشركات الصينية للاستحواذ على أصول وأسهم في أميركا الشمالية وأوروبا، مما سمح بانتقال ملكية شركات وتقنيات إستراتيجية إلى جهات تخضع في نهاية المطاف لإشراف بكين، وفق ما أوردته بلومبيرغ.
وتبرز التوترات الأخيرة بين الصين وهولندا بشأن شركة "نيكسبيريا" لصناعة الرقائق كمثال واضح على ما وصفته بلومبيرغ بـ"ندم البائع" في العواصم الغربية، ومحاولة استعادة بعض الأصول التي تمّ التفريط فيها.
وقالت ريفا غوجون مديرة الأبحاث في مجموعة "روديوم" لبلومبيرغ إن الصين باتت "في حالة تأهب قصوى" تجاه أي محاولات غربية لاستعادة هذه الأصول، محذرة من أن "هناك ثمنا باهظا سيتم دفعه إذا حاولوا استهداف هذه الممتلكات".
وتوضح بلومبيرغ أن رقائق نيكسبيريا، رغم كونها أقل تقدمًا تقنيا، تُعد مكونًا أساسيا في سلاسل توريد صناعة السيارات. وكانت الشركة جزءًا من مجموعة "فيليبس" الهولندية، التي كانت في مطلع الألفية تمتلك نحو 20% من أسهم شركة "تي إس إم سي"، أكبر مصنع للرقائق في العالم حاليا.
وبعد فصل نيكسبيريا عن فيليبس، تمّ بيعها لمستثمرين صينيين عام 2016، في إطار سعي الصين آنذاك لامتلاك قدرات تصنيع رقائق محلية لتقليص واردات تكلفها ما يقارب فاتورة النفط، بحسب ما نقلته بلومبيرغ في حينه. وبعد عامين، استحوذت شركة "وينغتك تكنولوجي" الصينية على نيكسبيريا.
وأشارت بلومبيرغ إلى أن الحكومة الهولندية لجأت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى قانون يعود إلى حقبة الحرب الباردة للسيطرة على وحدة نيكسبيريا، في خطوة جاءت بعد قرار أميركي بتوسيع قائمة العقوبات لتشمل فروعًا أجنبية لشركات صينية مدرجة على القوائم السوداء.
غير أن القلق الرئيسي في لاهاي ، وفق بلومبيرغ، تمثل في احتمال نقل الملكية الفكرية وخطوط الإنتاج إلى الصين. وردًا على ذلك، منعت بكين تصدير رقائق معبأة من مصنع نيكسبيريا في الصين، مما هدد بتعطيل إنتاج السيارات في أوروبا وخارجها.
وفي أعقاب هذا التصعيد، تراجعت أميركا عن قرارها المتعلق بالعقوبات، في حين علّقت هولندا إجراءها، مما أدى إلى احتواء الأزمة مؤقتا، رغم أن "وينغتك" لا تزال، حتى هذا الشهر، تسعى لاستعادة سيطرتها السابقة على الشركة.
وقالت أليثيا غارسيا هيريرو كبيرة اقتصاديي آسيا و المحيط الهادي في "ناتيكسيس"، في مذكرة نقلتها بلومبيرغ، إن "قضية نيكسبيريا يجب أن تقضي على أي أوهام متبقية بشأن طبيعة الاستثمارات الصينية الإستراتيجية في أوروبا"، مؤكدة أنها "ليست معاملات تجارية خالصة خاضعة لمنطق السوق، بل أدوات لسياسة الدولة، مشروطة بالظروف الجيوسياسية".
وأضافت أن الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة إلى تطوير أدواته للتعامل مع الاستثمارات الصينية الواردة، وكذلك مراقبة ما يخرج من أصول وتقنيات، داعية إلى إنشاء آلية مماثلة للجنة الاستثمار الأجنبي في أميركا.
ولفتت بلومبيرغ إلى أن أوروبا ليست وحدها في هذا المسار، إذ سمحت أميركا نفسها بصفقات استحواذ باتت اليوم محل ندم. ففي عام 2020، استكملت مجموعة صينية الاستحواذ على شركة "جوبيتر سيستمز" الأميركية، قبل أن تُبطل إدارة ترامب الصفقة لاحقًا بدعوى استخدام منتجات الشركة في "البيئات العسكرية والبنى التحتية الحساسة".
كما أشارت بلومبيرغ إلى صفقة محتملة جديدة، مع إعلان شركة "آي روبوت" إفلاسها وسعيها لنقل السيطرة إلى موردها الصيني الرئيسي، وسط غموض بشأن موقف الجهات الرقابية الأميركية.
وخلصت بلومبيرغ إلى أن محاولات "استرداد" الأصول الإستراتيجية ستزداد كلما أدركت الحكومات الغربية مخاطر استخدام الصين للإمدادات الحيوية كسلاح، وصعوبة بناء سلاسل توريد بديلة من الصفر.
وفي حين قد ترد الصين بتقييد صادرات أساسية، ترى بلومبيرغ أن ذلك قد يعزز القناعة في أوروبا وأميركا بضرورة تقليص اعتمادها على بكين، واستعادة السيطرة على "وسائل الإنتاج" التي تمّ التفريط بها خلال عقود العولمة.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة