آخر الأخبار

الاستثمار الأجنبي في السودان بعد الحرب.. كيف نحول الركام إلى فرص؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في صباحٍ خانق على ساحل البحر الأحمر ، تلمع رافعات ميناء بورتسودان كعظامٍ معدنية ساكنة. حركة البضائع خفيفة، والهواء محمّل بأسئلةٍ أكثر من كونه محمّلًا برائحة الملح.

في مثل هذه اللحظات، تُستعاد مقولة تتردّد كثيرا في دوائر الاقتصاد: "رأس المال جبان… لكنه يعشق الوضوح". وبين خوف رأس المال واشتياقه للاتجاهات الآمنة، يقف السودان على مفترقٍ حاد: كيف ينتقل من مشهد الحرب إلى ساحة للاستثمار؟

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 النبوءة التي قادت عبد الفتاح البرهان ليصبح رجل السودان الأقوى
* list 2 of 2 من يشعل النار في سلة غذاء العالم؟ end of list

رغم الخراب الذي حوّل مدن السودان إلى أطلال، ما زالت البلاد تحتفظ بثروات تجعلها على موعد مع الغد: مساحات شاسعة للزراعة، ذهب يلمع في باطن الأرض، وموقع يربط قلب أفريقيا بممرات التجارة عبر البحر الأحمر.

غير أن الاستثمار يحتاج كي يتوسع إلى الثقة لا الشعارات، والثقة تُبنى على قوانين واضحة ومؤسسات قادرة على فرضها. فالاستثمار الأجنبي لا يتلخص في حقائب أموال تهبط فجأة، إنما هو دم جديد يضخ في شرايين الاقتصاد فرص عمل وتكنولوجيا وأسواقًا أوسع. ولهذا تراهن عليه الأمم كجسرٍ للخروج من ركام الأزمات إلى رحاب التنمية.

في قلب الأسئلة المعلّقة فوق سماء السودان، يطل سؤالان يطرقان بإلحاح: ما حجم الاستثمار الأجنبي في السودان تاريخيًّا وما الذي فعلته الحرب به؟ وكيف يمكن أن يعود ليصبح جسرًا للبناء بعيدا عن البقاء كلعنة ترسخ النهب والتبعية؟

لسنا هنا لنرثي الماضي، بل لنفكك المشهد قبل الانهيار، ونحسب كلفة الخراب، ثم نرسم خريطة طريق بخمس ركائز متينة:


* توفير أمن وإصلاح سياسي يعيد الاستقرار.
* إصلاح اقتصادي ومالي يعيد الثقة.
* تحديث القوانين وصون الملكية.
* قفزة في البنية التحتية والتمويل المبتكر.
* وأخيرًا شراكات دولية ذكية تفرّق بين رأس المال العابر والصبور.

ليست الوصفة أمنيات، بل خطة يُقاس أثرها بمشاريع تُقام، ووظائف تُخلق، وصادرات تتضاعف.

مصدر الصورة خريطة السودان (الجزيرة)

كيفَ تحوَّلَ الاستثمارُ الأجنبيُّ في السودانِ من الزراعة إلى النفطِ ثم الذهبِ؟

في عام 1956 صدر أول قانون استثماري في السودان، ثم تبعه صدور عدة قوانين استثمارية أخرى ومع ذلك لم يُجذب الاستثمار الأجنبي بشكل ملحوظ. في أوائل تسعينيات القرن الماضي، بدأت الحكومة السودانية تطبيق إصلاحات اقتصادية نيوليبرالية، مما أدى إلى انفتاح الاقتصاد السوداني بشكل متزايد على الاستثمار الأجنبي.

إعلان

وشمل ذلك قانون تشجيع الاستثمار (IEA) عام 1990 الذي عُدِّل لاحقًا عام 1996. ومع تنامي قطاع النفط طُبِّقت إصلاحات حكومية أخرى عام 1997 لتفتح أبوابها أمام القطاع الخاص لاستيراد وتوزيع المنتجات النفطية.

حتى عام 1997، لم يكن السودان يجذب أكثر من مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة. لكن مع تدفق الذهب الأسود تغيّر المشهد كليًّا، لتقفز التدفقات إلى قمة تاريخية بلغت 3.5 مليارات دولار في عام 2006.

غير أن الانفصال حمل معه الانكسار؛ فبذهاب معظم آبار النفط إلى جنوب السودان ، بدأت الاستثمارات تتراجع على نحوٍ مؤلم، لتتهاوى من 2.3 مليار دولار في 2011 إلى مجرد 1.1 مليار دولار في 2018، وكأن ازدهار الأمس كان مجرد ومضة عابرة.

وبعد الإطاحة بنظام البشير عام 2019، تولّت حكومة عبد الله حمدوك قيادة الفترة الانتقالية (2019-2021). لكنها ورثت خزانة فارغة وديونًا خارجية بلغت 51.2 مليار دولار بنسبة 145.8% من الناتج المحلي الإجمالي.

تشكلت حكومة الثورة ممن يعرفون بالتكنوقراط ممن لهم سوابق عمل في المؤسسات الدولية، وهو مما جعل تفكيرهم مقصورًا على الوصفات المتكررة لتلك المنظمات. فنفذوا برنامجا إصلاحيا جديدا يقوم على تحرير سعر الصرف ورفع الدعم وخفض الإنفاق العام. ورغم ذلك فشلت الإصلاحات في جذب الاستثمار الأجنبي الذي بلغ أدنى مستوى له مُنذ عقدين مسجلًا 523 مليون دولار فقط.

مصدر الصورة رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك (يسار) ورئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان يحضران مؤتمرا اقتصاديا في الخرطوم (الفرنسية)

سلة الغذاء السودانية: استثمارٌ يطعم الآخرين ويُجَوِّعُ أهله

في عام 2018، لم يبشر الحصادُ الأولُ لمشروعٍ زراعيٍّ ضخمٍ قرب الخرطوم بالخير، إذ أشعل شرارةً صراع مرير. فمجموعةٌ من أهالي القرى التي هُجّرت من أراضيها قررت الانتقام فهاجمت مستودع الشركة وأحرقت المحصول بأكمله.

لم يمرّ هذا الفعل الاحتجاجي دون عقاب من النظام، فبينما أُلقي القبض على قادة الحراك، فُرضت غرامات مالية قاسية على آخرين. لكن ردّ الشركات كان أكثر إثارةً للاهتمام، إذ بدلًا من تهدئة الأوضاع، كثّفت استثماراتها في بناء الأسوار الشاهقة وتعيين الحراس، في محاولة يائسة لتحصين أراضيها من غضبٍ قد يتجدد.

وفوق أرض السودان الخصبة، تزدهر حقولُ البرسيمِ كبساطٍ أخضرَ يمتدُّ على مرمى البصرِ، بينما تلوحُ سنابلُ الذرةِ كجنودٍ من ذهبٍ، تبشِّرُ بالخيرِ والرخاء. هذه صورة مناسبة للقب السودان باعتباره "سلة غذاء العالم العربي" نظرًا لإمكاناته الزراعية الهائلة.

يمتلك السودان 175 مليون فدان صالح للزراعة تمثل نحو 40% من الأراضي الصالحة للزراعة بالوطن العربي، فضلًا عن مصادر مياه متنوعة من أنهار وبحيرات وأمطار موسمية هائلة (تُقدّر بحوالي 440 مليار م3). هذا بالإضافة لامتلاكه ثروة حيوانية ضخمة قُدرت في عام 2022 بأكثر من 111 مليون رأس من الأبقار والأغنام والماعز والإبل، مما جعلها أداة جذب للاستثمارات الأجنبية.

حتى تسعينيات القرن الماضي استحوذ القطاع الزراعي على معظم تدفقات الاستثمار فبلغ في عام 1995 حوالي 85% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ولكن مع ازدهار إنتاج النفط أفل نجم الزراعة واتجهت الاستثمارات نحو باطن الأرض (النفط). فتراجعت نسبة الاستثمار الزراعي إلى 0.76% في عام 2006.

إعلان

تزامن هذا مع الأزمة العالمية في عام 2008 وارتفاع أسعار الغذاء مما جعل السودان ملاذًا آمنًا لدول الخليج التي اتجهت نحو الاستثمار الزراعي بالسودان لسد عجزها المائي والغذائي. وقد أشار الباحث في برنامج أفريقيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، كاميرون هيدسون، إلى أن الاستثمارات الخليجية بالسودان بلغت حوالي 24 مليار دولار.

ومع رحيل الجنوب، توقفت نبضات الاقتصاد السوداني التي كان يغذيها النفط، مما دفع حكومة البشير إلى العودة مجددًا إلى الزراعة، شريان الحياة الذي لم يجفّ قط. فسارعت بإنشاء قانون الاستثمار الوطني لعام 2013 لجذب مزيد من الاستثمارات الزراعية.

على الرغم من ارتفاع التدفقات الاستثمارية في قطاع الزراعة وارتفاع حصيلة الصادرات الزراعية إلى 46.6% من إجمالي الصادرات السودانية بين عامي 2011 و2021، فما زال الفقرُ كأرضٍ قاحلةٍ يُجفِّفُ عروقَ المجتمعِ الزراعي، تاركًا خلفَهُ سنابلَ أحلامٍ ذابلةٍ وخدماتٍ أساسيةٍ لا تُروى.

يعمل أكثر من ثلثي السكان في الزراعة والرعي أو يعتمدون عليها كنشاط اقتصادي رئيسي ومصدر دخل وغذاء. وقد تم الاستيلاء على كثير من الأراضي الزراعية لصالح المستثمرين دون مراعاة للحقوق التاريخية للمزارعين والرعويين. ومن هنا يتضح لنا أن الاستثمار الزراعي كان يروي عطش الخليج على حساب أبناء السودان.

الذهب الأسود يفجِّر أزمة الانفصال في السودانِ

كان النفط طوق النجاة لنظام البشير المُكبل بالعقوبات الاقتصادية الأميركية، فأصبح نقطة محورية لتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى السودان.

استحوذ قطاع النفط على 95% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة للسودان في عام 2000، بعد أن كان يمثل 3.6% من إجمالي التدفقات عام 1996، وهو ما أحدث نموًّا حقيقيًّا في الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع قيمة الصادرات وتوسعًا ملحوظًا في القطاع الصناعي والخدمي.

ولكن لم تعكس تلك المؤشرات الاقتصادية المحفزة الرؤية الحقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، فلم يستفد من السودانيين سوى النخبة السياسية وأصحاب رؤوس الأموال من تلك الاستثمارات النفطية.

شهدت الخرطوم عملية تجديد شاملة في شكل مبانٍ مكتبية جديدة ومناطق سكنية وفنادق، ورغم هذا أشار البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن ما بين 60 و75% من السكان في الشمال و90% في الجنوب يعيشون تحت خط الفقر.

ساعدت العائدات النفطية الحكومة السودانية في تمويل إنفاقها العسكري على حروبها مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وكذلك حربها في إقليم دارفور التي ابتلعت 23% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًّا، بينما أنفقت البلاد 1.3% و1.2% فقط من ميزانيتها على الصحة العامة والتعليم على التوالي لأكثر من عقدين.

يتمركز 75% من النفط السوداني في الجنوب الذي لم تتوقف به دقات طبول الحرب الأهلية الأطول في أفريقيا بين الجيش السوداني والحركة الشعبية لتحرير السودان المتمردة التي تسعى للانفصال عن الشمال.

وبالرغم من ذلك لم تُثنِ الحرب تدفقات الاستثمارات الصينية والهندية في قطاع النفط، فقام الجيش والمليشيات الموالية له بحملات تطهير عرقي وتهجير لسكان القرى والمناطق ذات الأهمية الإستراتيجية لقطاع النفط، مما أتاح للشركات الوصول إلى المناطق الغنية بالنفط، كذلك وفر الأمن وحماية أصول الشركات.

ففي تناقض صادم لمقولة رأس المال جبان، أصبح العنف لا يطرد الاستثمار، بل تحول إلى أداة للنمو واستقرار الشركات الأجنبية، فهذا "الاستقرار" الجديد غالبًا ما يُعزّز بإصلاحات اقتصادية مواتية للمستثمرين، وكأن العنف أصبح حصنًا يضمن نجاح تلك السياسات. وبهذه الطريقة، تحول الدمار إلى فرصة اقتصادية، ولكن بثمن باهظ دفعه المدنيون.

"الذهب الملعون: ملاذ الأمس ووقود حرب اليوم"

بعد أن ضاعت مواسم الخير في الزراعة وتبددت ثروة النفط مع انفصال الجنوب، تعلقت أنظار السودانيين ببريق الذهب باعتباره المورد الأخير القادر على إنقاذ الاقتصاد.

إعلان

لكن هذا المعدن سرعان ما تحوّل إلى لعنة جديدة، وإلى شرارة تُغذي الصراع وتُضاعف معاناة الناس؛ فبينما تُصدَّر أطنانه للخارج وتلمع في الأسواق العالمية، يبقى المواطن البسيط أسير الغبار السام ورصاص الحرب.

العقوبات الاقتصادية والأزمة العالمية وانفصال الجنوب النفطي، ثم حرب دارفور، أنهكت اقتصاد السودان وأضعفت حكم البشير.

ومع تراكم الفشل وشعوره بالخطر، ولضمان بقائه في سدة الحكم، سلّم البشير مفاتيح ثروة الذهب في البلاد للجيش والدعم السريع، مقابل حمايته وقمع التمردات في الأرياف والمدن السودانية. لكن هذا المورد، بدلًا من أن يصبح رافعة للتنمية، تحول إلى أداة للسيطرة والصراع.

خلال عام 2011 لم تتجاوز حصة الذهب 15% من الصادرات، لكنه قفز ليبلغ 54.3% عام 2021، ليصبح المصدر الدولاري الأهم، تشير التقديرات إلى أن 97% من إنتاج ذهب البلاد بين عامي 2012 و2018 لم يُصدر عبر قنواته الرسمية بفجوة مالية خسرتها السودان تقدر بـ4.1 مليارات دولار أميركي. وهُرّب الذهب عبر مطار الخرطوم في عمليات أشرفت عليها شخصيات نافذة.

مصدر الصورة خريطة انتشار الذهب في السودان (الجزيرة)

رأس المال الأجنبي يُزهق قبل الأرواح

من الزراعة إلى النفط ثم الذهب، كان الاستثمار الأجنبي في السودان قصة استغلال أكثر من كونه رافعة للتنمية. وحين تمددت أيادي الخارج على الثروة، جاءت الحرب لتقطع شريان الاقتصاد نفسه، تاركة وراءها نزوحًا واسعًا وأرقامًا قاتمة.

الحرب في السودان لم تكن مجرد صراع على الأرض، بل كانت معولًا للهدم ينهش في جسد الوطن؛ تهاوى معها الاقتصاد وتبخّرت الثروات كما يتبخر السراب في صحراء قاحلة.

لم تكتفِ الحرب بحصد الأرواح وتشريد 14 مليون إنسان منذ أبريل/نيسان 2023، بل امتدت لتخنق الأسواق، وتغلق المصانع، وتزرع الرعب في قلوب المستثمرين. قطاع الأغذية الزراعية نزف خسائر فادحة، كما أُغلق نحو 66% من المصانع كليًّا أو جزئيًّا، وتحولت الأسواق إلى ساحات دم ورعب، شهدت 236 هجومًا حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

ومع كل يوم يمر، تتساقط أعمدة الدولة؛ الاتصالات تنطفئ، المصارف تتهاوى، والمطارات والطرق تتحول إلى أهداف للقصف، لتسجل البلاد انكماشًا اقتصاديًّا بلغ 29% في 2023.

والأسوأ ما يلوح في الأفق: إذا طال أمد الحرب حتى نهاية 2025 فقد يتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 42%، وكأن الخراب لا يعرف حدًّا. في 2024، التهم التضخم 170% من قيمة الجنيه، وتهاوى الجنيه أمام الدولار بانهيار مدوٍّ بلغ 355% في السوق الموازي حتى ديسمبر/كانون الأول 2024.

أما البطالة فقد قفزت إلى 47%، لتترك أكثر من 71% من السودانيين في قبضة الفقر، وكأن الحرب تعيد صياغة السودان على هيئة مأساة جماعية، بلا أفق ولا خلاص.

رصاص الحرب لم يترك بيتًا إلا وشوّه ملامحه، طرق مقطوعة بأشجار متساقطة، أحياء غارقة في العتمة بعد انهيار شبكات الكهرباء والمياه.

لم تتوقف الكارثة عند العمران، بل طالت النظام الصحي؛ إذ خرجت 80% من المرافق عن الخدمة. التعليم منهار بإغلاق 10400 مدرسة، تاركًا ملايين الأطفال بلا مقاعد. وبينما قدّرت الأمم المتحدة كلفة إعادة تأهيل العاصمة بـ350 مليون دولار، تحدثت السلطات السودانية عن أرقام أضخم: 300 مليار دولار للخرطوم و700 مليار دولار لبقية البلاد. ورغم قتامة المشهد، ما زال الأمل يطل من نافذة الاستثمار كطريق لإحياء الخراب وتحويل الركام إلى فرصة للنهوض من جديد.

كيف نكسر قيود الماضي ونفتح أبواب الغد؟

إذا كان المال "جبانًا"، فإن طمأنته تحتاج إلى سياسة واضحة أكثر من حاجتها إلى الدعاية. السودان بعد الحرب لا يملك ترف إضاعة الوقت؛ بل يحتاج إلى خطة عملية تُعيد الثقة للمستثمرين وتُقنعهم بأن مخاطرتهم ستقابلها عوائد مضمونة. وتتطلب زيادة الاستثمار الأجنبي في السودان بعد الحرب خريطة طريق عملية من خمس خطوات مترابطة:


* أولًا، السلام والإصلاح السياسي، فأي حديث عن الاستثمار بلا استقرار سياسي وأمني هو وهم. على القوى السودانية أن تضع حدًّا للصراع وتبني مؤسسات حكم ذات شرعية. فالسلام هو الشرط الأول قبل أي معادلة اقتصادية.
* ثانيًا، إصلاح اقتصادي شجاع يُنهي الامتيازات غير الشفافة التي كانت تمنح لشركات بعينها، ويقوي القطاع الخاص المحلي كشريك حقيقي وليس مجرد تابع للاستثمار الأجنبي.
* ثالثًا، تحديث القوانين والمؤسسات عبر تعديل قانون الاستثمار، وإنشاء نافذة موحدة للتراخيص، وضمان الشفافية والرقابة في العقود الزراعية والتعدينية.
* رابعًا، إعادة إعمار البنية التحتية من طرق وموانئ وكهرباء، بالاعتماد على الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتخفيف العبء عن الدولة.
* خامسًا، بناء شراكات دولية متعددة الأطراف لتمويل أهدافه التنموية وتجنبه الانحياز لأي محور سياسي عالمي، مثل مجموعة البريكس والاستثمارات الخليجية بشروط عادلة، مع تعبئة مدخرات المغتربين عبر صناديق استثمار وطنية. بهذه الطبقات الخمس يمكن للسودان أن يستعيد ثقة المستثمرين، ويحوّل رؤوس الأموال الأجنبية إلى رافعة لإعادة الإعمار والتنمية الشاملة.

الخاتمة

في كل مرة تنطفئ فيها نيران الحروب، يأتي صندوق النقد الدولي مسرعًا، كعطّارٍ أعمى لا يعرف سوى وصفة واحدة يبيعها لكل داء. وقد تجرع السودان هذه الوصفات أربع مرات من عهد النميري إلى حمدوك، فلم تجلب سوى فقرٍ أعمق وهشاشةٍ أكبر.

إعلان

وهنا يظل صدى كلمات كينيث كوما، زعيم المعارضة وأكبر نقابة عمالية في بوتسوانا، حاضرًا بقوة: "الاقتصاد الذي يُسلَّم للأجانب يشبه رجلًا يتزوج امرأةً ثرية، سرعان ما يفقد السيطرة على بيته".

إنها صورة تختصر مأساة دولنا حين يُختزل الاستثمار الأجنبي في نهب الثروات وربط القرار الوطني بالممول الخارجي.

لذلك، إذا أراد السودان أن يحوّل رأس المال إلى أداة لإعمارٍ عادل، فعليه أن يجعل الشفافية والمساءلة خطًّا أحمر، وأن يربط الاستثمارات بالبنية التحتية والخدمات الأساسية، ويؤسس صندوقًا سياديًّا يصون العوائد من التبديد، ويضمن نصيبًا فعليًّا للمجتمعات المحلية. فبهذا يمكن للسودان أن يعيد تعريف علاقته برؤوس الأموال الأجنبية، لتصبح جسرًا نحو التنمية بدلًا من قيد جديد يرسخ التبعية.

فليس السؤال: هل سيعود الاستثمار الأجنبي إلى السودان؟ بل: بأي شروط سيعود؟ فهل نسمح بأن يُعاد إنتاج أزمات الماضي من تبعية ونهب للموارد، أم نصنع نموذجًا جديدًا يضع الإنسان قبل رأس المال؟ المستقبل لم يُكتب بعد، لكن قرار اليوم هو ما سيرسم ملامحه.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار