ألبرتا– بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية جديدة على الواردات الكندية بنسبة 35%، فوجئ الكنديون بإعلان مماثل بعد يومين استهدف كلا من الاتحاد الأوروبي والمكسيك، لكن بنسبة أقل بلغت 30%. وأثار هذا التفاوت في النسب جدلا واسعا واستياء في الأوساط الرسمية والشعبية داخل كندا، وفتح الباب أمام تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذا التمييز، رغم العلاقات الاقتصادية العميقة والممتدة التي تربط كندا بالولايات المتحدة.
وفي مواجهة القرار الأميركي، أعلن رئيس الوزراء الكندي مارك كارني عقد اجتماع طارئ مع حكومته الفدرالية اليوم الأربعاء، يعقبه لقاء في 22 يوليو/تموز مع رؤساء حكومات المقاطعات، لمناقشة التداعيات والتخطيط للرد. وأكد كارني أن حكومته "ستدافع بثبات عن العمال الكنديين والشركات المحلية"، مشددا على التزام الحكومة بمواصلة تنفيذ المشاريع الوطنية الكبرى وتوسيع الشراكات التجارية في الأسواق العالمية.
وأظهرت بيانات هيئة الإحصاء الكندية تراجعا تاريخيا في الصادرات الكندية نحو الولايات المتحدة، في وقت سجلت فيه الصادرات إلى دول أخرى مستويات قياسية. وتراجع إجمالي الصادرات الكندية للشهر الرابع على التوالي بنسبة 0.9% في مايو/أيار الماضي، بينما انخفضت حصة الولايات المتحدة من هذه الصادرات من 75.9% العام الماضي إلى 68.3%، وهو ما يمثل اقترابا من أدنى مستوى تاريخي في العلاقات التجارية بين البلدين.
كذلك، سجّلت الواردات الكندية من الولايات المتحدة تراجعا للشهر الثالث على التوالي، ما يشير إلى انكماش واضح في التبادل التجاري بين البلدين، في ظل تصاعد التوتر السياسي والاقتصادي.
وفي تقرير صادر عن مختبر الميزانية في جامعة ييل الأميركية، نقلته شبكة "سي إن إن" الاقتصادية، جرى التحذير من أن التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس ترامب على كندا من شأنها أن تؤدي إلى انكماش الاقتصاد الكندي بنسبة 2.1% على المدى البعيد، بعد احتساب أثر التضخم ، وهي نسبة تتجاوز تقديرات سابقة توقعت انكماشا بنسبة 1.9%.
ويُلاحظ أن هذه التقديرات لا تأخذ في الاعتبار التهديدات التي أطلقها ترامب برفع الرسوم إلى 35% بدءا من الأول من أغسطس/آب، ما يعني أن التأثيرات السلبية قد تكون أعمق مما هو متوقع.
ويرى محمد بويصير، الخبير في الشؤون الاقتصادية الأميركية والمقيم في ولاية تكساس أن دوافع هذا التصعيد لا تتعلق بعوامل اقتصادية خالصة، وإنما بحسابات سياسية في المقام الأول.
ويقول في حديثه لـ"الجزيرة نت" إن الرئيس الأميركي يتّبع نهجا يقوم على الضغط السياسي الموجّه، وإن كندا أصبحت هدفا مبكرا لسياسات ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض.
ويضيف بويصير: "يرى ترامب أن كندا تُمثّل تحديا غير مباشر للهيمنة الأميركية، وقد عبّر عن ذلك مرارا بتلميحاته إلى إمكانية ضمّها كولاية أميركية رقم 51، وهي تصريحات رمزية تعكس رغبة سياسية في تحجيم الدور الكندي". ويشدد على أن هذه الإجراءات تندرج ضمن مساعي ترامب لإعادة رسم خريطة النفوذ الاقتصادي الأميركي.
ويتابع الخبير الاقتصادي بالقول: "من الناحية العملية، جميع القرارات التي اتخذها ترامب في ملف الرسوم الجمركية -سواء ضد كندا أو غيرها- لها تبعات سلبية على الاقتصاد الأميركي نفسه، لأنها تؤدي إلى رفع الأسعار على المستهلك الأميركي، وتُضعف من تنافسية الصناعات الأميركية في الأسواق الخارجية".
لكنه يوضح أن هذه الآراء تمثل تحليله الشخصي المستند إلى مراقبته للسياسات الاقتصادية في الداخل الأميركي، ولا تمثل بالضرورة توافقا مع التوجهات الرسمية الأميركية.
ويرى بويصير أن المستهلك الأميركي سيكون المتضرر الأول من هذه الإجراءات، إلى جانب الشركات التجارية والصناعية. ويشرح أن ارتفاع الرسوم سيؤدي إلى زيادة أسعار السلع الأساسية، وارتفاع معدلات الفائدة، فضلا عن تسارع التضخم، وظهور حالة من الاضطراب في السوق المحلية وفي حركة رؤوس الأموال.
ويضيف: "العديد من الصناعات الأميركية تعتمد بشكل مباشر على واردات من كندا، سواء في قطاع السيارات أو الطيران أو المعدات الثقيلة. تعطيل سلاسل التوريد عبر فرض رسوم عقابية سيضرّ الولايات المتحدة نفسها قبل أن يضر كندا".
ويحذر من أن الرسوم ستُلحق ضررا طويل الأمد بثقة المستثمرين في الاقتصاد الأميركي، الذي كان تاريخيا يُوصف بأنه موطن الاستقرار والطمأنينة للمستثمرين، بينما باتت البيئة الحالية، بحسب وصفه، غير مشجعة للاستثمار بفعل قرارات وصفها بـ"الانفرادية وغير المدروسة".
من جهة أخرى، يقدّم الدكتور يحيى اللهيب، الأستاذ المشارك في كلية العمل الاجتماعي بجامعة كالغاري، تفسيرا سياسيا لهذه الخطوة، إذ يرى أن ترامب يُجيد استخدام "سياسة الإلهاء" لتحقيق أهداف سياسية داخلية.
ويقول في تصريح لـ"الجزيرة نت": "الضرائب الجمركية المرتفعة على كندا لا تهدف فعليا إلى إنعاش الاقتصاد الأميركي، بقدر ما تهدف إلى تعزيز موقف ترامب داخليا، وإشغال الرأي العام بقضايا تجارية ظاهرها اقتصادي وباطنها سياسي".
ويتابع اللهيب أن ترامب برّر الرسوم الجديدة بأنها تهدف إلى الحد من تهريب مادة الفنتانيل عبر كندا، لكنه يرى أن الهدف الحقيقي هو تعزيز موقفه التفاوضي في ملف المعادن، والضغط على الشركات الكندية العاملة في قطاع التعدين لتستثمر في البنية التحتية الأميركية للتنقيب، بدلا من تصدير المواد الخام من كندا.
وعن التأثيرات المحتملة على الاقتصاد الكندي، يعتقد اللهيب أن سلاسل التوريد بين البلدين قد تشهد اضطرابات مؤقتة، لكنها لن تُلحق ضررا بعيد المدى بالاقتصاد الكندي، نظرا لقدرة كندا على التكيف والبحث عن أسواق بديلة. كما أشار إلى أن "الشركات العابرة للحدود لن تستسلم لقرارات ترامب العقابية، بل ستجد حلولا تضمن استمرارية النشاط التجاري".
ويرى اللهيب أن المستهلك الكندي سيتأثر بشكل مباشر بهذه الإجراءات، لكن التأثير سيظل مؤقتا، ويرتبط بمدى قدرة الحكومة الفدرالية على فتح أسواق جديدة وخلق مناخ منافس للأسواق الأميركية.
ويشير إلى أن جزءا كبيرا من الشركات الكندية مملوكة بشكل جزئي أو كامل لمستثمرين أميركيين، وهذا يعني أن الضرر الاقتصادي سيصيب الطرفين.
ويؤكد أن هذه القرارات قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تقليص النفوذ الأميركي الاقتصادي في كندا، وتعزيز استقلالية السياسات التجارية الكندية.
وفي ظل تصاعد التوترات بين الحين والآخر بين الجارتين، تبدو العلاقة التجارية بين كندا والولايات المتحدة أمام منعطف جديد قد يعيد تشكيل المشهد الاقتصادي الإقليمي.
ومع التراجع المستمر في الصادرات الكندية نحو الولايات المتحدة، وتزايد توجه كندا نحو تنويع أسواقها بعيدا عن الاعتماد الأحادي على السوق الأميركية، تتعهد الحكومة الكندية بمواصلة الدفاع عن مصالحها الوطنية، بينما يترقب المستثمرون والمستهلكون في كلا البلدين تداعيات هذا التصعيد.
ويبقى الجدل قائما حول ما إذا كانت هذه الإجراءات الأميركية ذات دوافع اقتصادية بحتة، أم أنها تكتيكات سياسية موجهة في سياق إعادة رسم ميزان القوى بين الجارتين الأقرب جغرافيا، والأكثر ارتباطا اقتصاديا.