أُعدّ كتاب "أرشفة غزة في الحاضر" وجُمعت مواده خلال أشهر الإبادة، وأثناء واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخ غزة الحديث؛ ليقبض هذا العمل/التدخل البحثي الجماعي، الذي حررته الأكاديميتان دينا مطر وفينشيا بورتر، على شيء مما كانت عليه غزة قبل الحرب بلحظة أو بيوم أو ببضع سنوات.
رؤية متكاملة لمساحات الإبداع والتجريب الثقافي يقدمها الكتاب الصادر حديثا عن دار "الساقي" باللغة الإنجليزية، فتظهر غزة مجتمعا ينتج المعرفة والفنون رغم القيود الطويلة وسنوات الحصار والصراعات المستمرة. فأن تؤرشف المكان في لحظة تدميره يعني أن تقاوم ليس إبادة الإنسان فقط بل وقتل الذاكرة.
تكمن قوة هذا المجلد في اتساع مروحة إسهاماته؛ بمشاركة كتاب وفنانين وناشطين، مثل سلمى دباغ وعمر القطان ومارك-أندريه هالديمان وراشيل ديدمان ودينا عصفور وغادة دمشق وآخرين كثر، بينما تنسق المحررتان مقالات ووثائق ومادة بصرية تُظهر غزة مختلفة تماما عن النسخة الأحادية التي تبثها التغطيات الإخبارية المألوفة عن القطاع.
فقبل عام 2023 كانت جامعات غزة نابضة بالبحث العلمي؛ فنانوها يديرون ورش تحولت إلى ركام، ومعماريوها يرممون مباني تعود لقرون، وناشطو البيئة يعملون على إعادة تأهيل وادي غزة ونظامه البيئي الهش. لا يصل أي من هذا إلى تصور العالم عن غزة، لكنه موجود هنا، في هذا الكتاب، وموثق بعناية.
تقول دينا مطر، أستاذة الإعلام والاتصال السياسي في جامعة سواس ومؤلفة كتاب "معنى أن تكون فلسطينيا"، إن الدافع من وراء هذا الكتاب هو "فهم حجم التدمير الذي حدث في غزة، وأرشفة المحو المنهجي المستمر للتراث الفلسطيني وتوثيقه خلال حرب الإبادة الأخيرة".
وتلفت في مقابلة مع الجزيرة إلى أن الإسهامات في هذا الكتاب تغطي موضوعات وحقول مختلفة، وفيها أسماء بارزة مثل الفنانة فيرا تماري، والمؤرخ سلمان أبو ستة الذي قدم مادة تاريخية عن غزة منذ بدايات القرن العشرين، مثلما أن هناك مشاركات لفنانين وكتاب فاعلين في الفنون المعاصرة والتشكيلية والنشاطات الثقافية داخل غزة.
وتوضح فينشيا بورتر التي راكمت خبرة تمتد أكثر من 3 عقود كقيمة على الفن الإسلامي والمعاصر في الشرق الأوسط في المتحف البريطاني: "انبثق هذا العمل من المؤتمر الذي عقدناه في جامعة "سواس" في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وقدمت خلاله أوراق كثيرة تغطي جوانب متعددة من الحياة في غزة قبيل الحرب، وبعد مراجعة أوراق المؤتمر بهدف الإعداد للكتاب شعرنا أن هناك فجوات فيه. لذلك بدأنا في جمع شهادات مكتوبة وبصرية وجدناها ضرورية لتكوين صورة واضحة للعيش في غزة والحياة الثقافية والفنية فيها".
يستعير الكتاب الذي يأتي في 6 أجزاء من الأرشيف منطقه ذاته: تراكب الأصوات وتداخلها والانقطاعات التي تشهد على ما يتعذر حفظه بالكامل. وفي 6 أجزاء نقرأ عن "صناعة الفن في غزة"، "الأركيولوجيا والتراث المبني"، "المتاحف والمراكز الثقافية والمحفوظات"، "الذاكرة والإرث اللامادي"، و"القانون والتراث والحياة" و"التطلع إلى المستقبل".
في الجزء المعنون "صناعة الفن في غزة" نقرأ شهادات لتجارب فنية لشريف سرحان وبهاء أبو دية وسلمان نواتي وملاك مطر وحازم حرب ومحمد أبو سل. عن هذه التجارب تقول فينشيا "إنها تركز على معنى صناعة الفن خلال سنوات الحصار وسلسلة الحروب على غزة، وكيف أُنتج الفن في ظروف حالكة، وتجاوز الواقع المعزول".
وتكشف تلك التجارب عن حجم المبادرات التي نظمها الفنانون في مجتمعهم". تلفت بورتر بشكل خاص إلى ما تسميه "الرعاية" في غزة، مشيرة إلى ما قدمته هذه المبادرات الفردية في معظمها من "إرشاد للفنانين، وابتكار طرق جديدة لخلق فرص إبداعية، وتوفير فرص العمل والنقاش لأجيال مختلفة".
توثق المقالات ما فُقد ولم يعد قائما، ومن ذلك مثلا: الجامع العمري الكبير أحد أقدم المساجد في فلسطين، وقصر الباشا المملوكي/العثماني الذي مر به نابليون، وهذان المعلمان يَظهران في الصفحات ليس كأنقاض لمكان سوّته آلة التدمير الإسرائيلية بالأرض بل كمعالم حية تتفاعل مع محيطها.
أما مسوحات "رواق" المعمارية الدقيقة فباتت تُعد الآن السجل الوحيد الباقي لمبانٍ أُبيدت خلال الحرب. هنا يتحول العمل على هذا الكتاب إلى ما يشبه عملية انتشال وإنقاذ لما يتعلق بهذا المكان في الذاكرة والصور.
ومع ذلك، تتجنب المحررتان في خياراتهما فخ "النوستالجيا"، لا تجمّلان غزة، بل تضعانها في سياق تاريخي طويل من الحضارة والتجارة والإنتاج الفني. الأدلة الأثرية، وروايات الرحالة، والاكتشافات الحديثة -مثل الفسيفساء البيزنطية المكتشفة في 2022- تكشف عن مكان طالما كان متصلا ومزدهرا وحيويا ثقافيا.
كل هذا البحث في ماضي المكان القديم والحديث يتوازى مع مسهمين يدونون رسائل واتساب وصلت من داخل غزة أثناء الحرب، ينقذون شهادات، يصورون المواقع وسط الخراب، ويخططون لإعادة الإعمار حتى أثناء النزوح تحت القصف.
من بين التجارب التي تتوقف عندها بورتر في حديثها "متحف السحاب"، مبادرة تصفها "بالمدهشة"، قامت بها مجموعة "حواف". ولدت فكرة المتحف بين غزة وباريس عام 2021، واستمرت عبر لقاءات أسبوعية تجمع أعضاءه عبر جغرافيا ممزقة، ليقدم إجابة عن فراغ يرافق غزة منذ عقود: منطقة تملك تاريخا يمتد 4 آلاف عام، لكنها بلا متحف يحتضنه.
وبدل انتظار فتح الحدود أو إعادة بناء البنى التحتية، اختارت "حواف" أن تبني متحفا في الفضاء الوحيد المتاح: السحابة الإلكترونية. وتضم "حواف" محمد أبو سل، ومحمد بورويسة، وسلمان نواتي وسندس النخلة، ثم انضم إليهم الباحثان أندريس بربانو وماريون سليتين.
ما يميز "سحاب" ليس صيغته الافتراضية فقط، بل السياسة المتجذرة داخله؛ فالمتحف مشيد ليقاوم التدمير. معارضه وورشاته وأرشيفه تعمل كنسيج جماعي يربط مجتمعا فلسطينيا ممزقا، من غزة إلى الضفة والقدس وأراضي 48، والبلاد العربية والشتات.
ومن خلال مجسمات رقمية، وأعمال بتقنية الواقع المعزز، وعمارة تخيلية، وحكايات جماعية، يذيب المتحف الفوارق بين "التراث الكبير" و"التراث الصغير"؛ فقد تصبح تذكرة طفل، أو مسودة فنان، أو أداة منزلية متآكلة، قطعا ذات قيمة مكافئة في مكان يتهدد فيه المحو كل شيء.
تلفت مطر إلى أن هناك أشكالا من الإبادة تقاربها المقالات المتضمنة في الكتاب؛ هناك "إبادة الذاكرة"، و"الإبادة الأكاديمية"، و"إبادة الثقافة" و"إبادة البيئة". وهذه هي الموضوعات التي يغطيها القسم الرابع من الكتاب وفيه يكتب عمر شويكي ومحمد عامر وغادة دمشق وناديا يعقوب إلى جانب آخرين.
وتتوقف مطر بشكل خاص عند مفهوم إبادة الذاكرة الذي شاركت عنه بمقال في الكتاب، وتوضح أن هذا المصطلح ليس مجرد تسمية لعمل تدميري، بل إطارٌ لفهم كيف يعيد العنف تشكيل العالم عبر قطع علاقة البشر بماضيهم. وبرأي مطر فإن أحد أبعاد العنف على غزة يكمن في محو القدرة على التذكر.
ومن مشاهد العائدين إلى أنقاض الشمال، إلى توثيق الحصار والحروب وتاريخ محو الأسماء والمعالم، تربط مطر بين الشهادة الحية والأرشيف السياسي لتُظهر أن استهداف الذاكرة ليس أثرا جانبيا للحرب بل ممارسة ممنهجة تهدف إلى إنتاج مستقبل بلا شهود، فإبادة العائلات تعني أيضا إبادة الحكاية. وفي مواجهة هذا المحو، تصبح الشظايا كالصورة، والحجر، وقطعة القماش، بقايا تصر على البقاء.
تُمثل مجموعة المبادرات التي تتوقف عندها شهادات "أرشفة غزة" طبيعة الزمن المعقد الذي مرت به، أو ما تصفه بورتر بأنه "عملية مستمرة من البناء والهدم والبناء والهدم وإعادة البناء"، لافتة إلى تجربة "بيت السقا" مثالا، هذا البيت الذي بني عام 1661 في حي الشجاعية: جدران من الحجر الرملي، بمدخل وليوان، وغرف بقباب متصالبة، وسقوف مغطاة برخام روماني، نجا البيت من قصف عام 1948 ثم أُعيد ترميمه عام 2013.
عاد البيت ليصبح مركزا ثقافيا يدعم الفنانين والمؤسسات… ويستضيف مشاريع ومعارض ثقافية واسعة، وفيه مقهى، ومنذ 2015 صار مقرا لجمعية زاهر النسائية. وعلى الرغم من الحصار والتوترات المستمرة، ظل المكان "مساحة تمنح المتعة والراحة في أوقات صعبة". انتهى كل ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حين دمرته القوات الإسرائيلية. لم يبق من البيت اليوم سوى الصور. وهو واحد من "أكثر من 206 مواقع أثرية وتراثية دمرت بالكامل".
في الكتاب ثراء بصري كبير: أعمال فناني غزة قبل الحرب الحالية، وصور عن كيفية استمرار إنتاج الفن داخل غزة، وحكايات عن الحياة اليومية. ويشمل خرائط وصورا لمواقع ومراكز فنية ومتاحف كما كانت، مع توثيق بصري لما آلت إليه اليوم.
تقول مطر "لا شك أن الكثير قد تغير منذ بدأنا العمل على الكتاب"، فالأرشيف في نظرها "عمل غير مكتمل" ومتشعب، وتتطلع إلى أن يكون "أرشفة غزة" بداية ينطلق منها باحثون آخرون، ويعيدون النظر في الأرشيف وطرق جمعه وتناوله، وأن يكون "مرجعا لكل من يسعى لفهم الروابط بين الحرب والتراث والثقافة والحياة والذاكرة والفن".
وتؤكد بورتر أن في تجارب الكتاب استعادة لكلمة مقاومة، وصناعة الفن كمقاومة، وارتباطها بمن كانوا يعملون على الأرض من بناء المكتبات وجمع الكتب وحماية البيئة وتوفير أمكنة يلتئم فيها الفنانون من شتى المجالات في سنوات الحصار الطويلة التي عرفتها غزة، وفي الحرب، وما بعد الحرب.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة