آخر الأخبار

أهمية الروايات والوثائق التاريخية في حفظ الموروث المقدسي

شارك

عمان- لعبت السرديات التاريخية والوثائق الأصلية، مثل البرديات والنقوش والنقود والأوامر الديوانية، دورا مهما في حماية الإرث الاجتماعي والثقافي والاقتصادي المتنوع لمدينة القدس المحتلة.

وفي هذا السياق، تعرض الجزيرة نت دراسة متخصصة في هذا المجال أصدرتها اللجنة الملكية لشؤون القدس في عمّان بعنوان "الروايات والوثائق التاريخية ودورها في حفظ الموروث المقدسي" للدكتورة غيداء عادل "خزنة كاتبي"، أستاذة التاريخ والفكر الاقتصادي والدراسات الحضارية في الجامعة الأردنية، وتعد من أبرز وأدق الدراسات المتخصصة في هذا المجال.

وفي تقديمه للدراسة الصادرة عام 2020، أكد الأمين العام للجنة الملكية عبد الله توفيق كنعان أن "الوعي بالتاريخ ومضامينه الدقيقة ليس مجرد رفاه ثقافي، بل ضرورة حضارية لحماية الهوية والدفاع عنها، وضمان استمرارها عبر الأجيال. فهو ركيزة لبناء الأمة والمضي بثقة في مسار نهضتها".

ويرى كنعان أن هذا الجهد الثقافي يأتي ضمن مسؤولية دعم الفلسطينيين في القدس و فلسطين ، بما يعزز الحقوق التاريخية المشروعة، ويثبت الهوية الحضارية الفلسطينية والمقدسية، التي تعود جذورها لأكثر من 5 آلاف عام. كما أنه يشكّل ردًّا معرفيًا على الرواية الصهيونية الأسطورية التي تروّجها إسرائيل -باعتبارها سلطة احتلال- عبر تأويلات تاريخية وأثرية مزيفة تسعى من خلالها لإقناع العالم بشرعية وجودها.

مصدر الصورة غيداء عادل: كانت القدس عبر العصور مقصدا للعلماء والتجار، مما ساهم في تنوعها الثقافي وغناها بالعادات والمعارف (الصحافة الأردنية)

الموروث الاجتماعي

وفي دراستها، تبيّن الدكتورة غيداء عادل أن الحياة الاجتماعية في القدس عبر العصور الإسلامية كانت ثرية ومتنوعة، وامتدت لتشمل كل مناحي النشاط المقدسي، لا سيما الفكري والديني والتجاري. وتوضح أن المدينة كانت مقصدا للعلماء والتجار، مما ساهم في تنوعها الثقافي، وغناها بالعادات والمعارف التي حملها القادمون إليها.

إعلان

وتُبرز الدراسة كذلك مناخ التسامح السائد في المجتمع المقدسي، والذي تأصّل منذ العهدة العمرية ، واستمر من خلال أوامر الخلفاء ومراسيم السلاطين، التي شددت على أهمية الحريات الاجتماعية وتسهيل التنقل بين القدس وسائر المناطق، مثل مصر .

وتستند الدراسة إلى وثائق بردية توضّح هذا التسامح، منها وثيقة تعود إلى عام 1458، تتضمن مرسوما سلطانيا مملوكيا، ينص على السماح لبطرك النصارى الملكيين، مرقص بن علم، بالتنقل بحرية بين مصر والقدس وسائر البلاد الإسلامية، وأن يمضوا على عادتهم القديمة من الرعاية في سفرهم من ثغور الإسلام بالشام و حلب والقدس وسائر البلاد الإسلامية.

ويعكس هذا الأمر مدى التسامح الإسلامي، الذي أسهم في تعزيز الاستقرار والنشاط الاجتماعي في مدينة القدس.

وفي بردية أخرى، ورد نص يُظهر عمق التسامح الإسلامي تجاه المكوّنات الدينية في القدس، إذ جاء فيها: "ألا يُلزموا الرهبان النصارى والنصريانيات والملكيين بموجب دفع ولا بخفر، ولا يُظلم عند دخولهم القدس الشريف وكل ناحية لزيارة القدس".

وهذا يعكس سياسة الدولة الإسلامية التي لم تكتفِ بالسماح بالحريات الدينية، بل خصصت نفقات مالية دائمة لتأمين احتياجات المدينة، مما ساعد على ازدهار أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.

وتوضح الدراسة أن بعض الروايات التاريخية كانت تربط بين أداء فريضة الحج وزيارة القدس، ففي وصفٍ للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، ورد أنه "حج غير ذات مرة وزار بيت المقدس"، في إشارة إلى ما كانت تعنيه زيارة القدس من رمزية دينية وروحية، خاصة لمن لم يكن بوسعه أداء فريضة الحج في موسمها.

ومن الوثائق المهمة التي تسلّط الضوء على عمق البنية الحضارية في المدينة، وثيقة مؤرخة عام 1346، تُفصّل تعريفات الوقف، وتوضح أهدافه وحرمة التصرف فيه. وتُظهر الوثيقة الدور البارز الذي لعبه المغاربة في دعم المؤسسات الاجتماعية في القدس، من خلال وقفهم على مرافق متعددة، مما أسهم في تنمية المدينة.

كما أكدت الوثيقة على حفاظ الحضارة الإسلامية على الإرث الحضاري السابق لها، ومن أبرز الأمثلة على ذلك حماية "القبو الروماني"، مما يدل على أن الوجود الإسلامي لم يسعَ إلى طمس آثار الحضارات السابقة، بل حافظ عليها وتفاعل معها، خلافا لسياسات التحريف والطمس التي تتبعها سلطات الاحتلال اليوم.

ووفقا للدراسة، فقد لعب المقدسيون دورا بارزا في نشر العلم والثقافة، ومن الأمثلة على ذلك تأسيس "المدرسة العمرية" في حي الصالحية بدمشق، بعد خروج العديد من سكان القدس بسبب الحروب والأزمات التي عصفت بها عام 1156.

وقد سُميت المدرسة نسبة إلى الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد المقدسي، وتُعد شاهدا على المكانة العلمية والثقافية للمقدسيين، وتأكيدا على مكانة المثقف المقدسي وما يحمله من موروث عريق ساهم في دعم الثقافة في أصقاع العالم الإسلامي كافة.

لعب المقدسيون دورا بارزا في نشر العلم والثقافة، ومن الأمثلة على ذلك تأسيس "المدرسة العمرية" في حي الصالحية بدمشق، بعد خروج العديد منهم عام 1156 بسبب الحروب والأزمات.

الموروث الثقافي

تعدّ مدينة القدس مركزا حضاريا بارزا في التاريخ الإسلامي، إذ احتضنت مؤسسات علمية وثقافية متنوعة، واستقبلت نخبة من العلماء والمفكرين، وخرّجت أعلامًا ذاع صيتهم في عواصم الخلافة الإسلامية. وقد عرف عدد من هؤلاء بكونهم من "أصول مقدسية"، كما تولى كثير من أبناء القدس مناصب عليا كالقضاء والتدريس في مدن كبرى مثل دمشق .

إعلان

وتشير النقوش الأثرية المنتشرة في المدينة إلى الدور الريادي للمعلمين، وحرصهم على تعليم مختلف فئات المجتمع، لا سيما الأيتام والمحتاجين. ومن أبرز تلك النقوش، نص يعود إلى عام 1198م، جاء فيه: "وتكون أُجرته تُصرف به إلى المعلم، والدار في يده لأجرة تعليم الأيتام والمساكين"، مما يدل على تخصيص موارد مالية مباشرة لدعم التعليم المجتمعي.

وقد ساهم هذا الاهتمام في ازدهار بناء المدارس، والخوانق –وهي دور العبادة الخاصة بالمتصوفة– بالإضافة إلى تأسيس مكتبات عامة، ما شكّل بنية معرفية متكاملة داخل المدينة.

كما توثق عدد من الوثائق المقدسية قرارات سلطانية دقيقة لتنظيم الحياة الدينية والتعليمية في المسجد الأقصى، وبخاصة في قبة الصخرة. ومن بين تلك الوثائق، مرسوم صدر عام 1386م، نصّ على التالي: "أن يستمر الشيخ العالم الفاضل الناصري في القراءة بالصخرة المشرفة يوم الجمعة، من وقت التذكير حتى أذان الظهر، وكذلك يوم الأحد بعد صلاة المغرب، وله أن يقرأ في التفاسير والأحاديث وكلام المشايخ بالحكايات والمواعظ".

تُظهر المؤلفات الجغرافية القديمة أن القدس كانت تُعد من أكثر مناطق فلسطين خصوبة، كما قد طوّر أهلها أساليب متعددة لتخزين المحاصيل، في دلالة على تقدم تقنيات التخزين والحرص على الأمن الغذائي.

ازدهار اقتصادي وتنوّع إنتاجي

تُظهر المؤلفات الجغرافية القديمة أن القدس كانت تُعد من أكثر مناطق فلسطين خصوبة، حيث عُرفت بوفرة منتجاتها الزراعية مثل كروم العنب، وأشجار الزيتون، والتين، والقمح. وقد طوّر أهلها أساليب متعددة لتخزين المحاصيل، فكان الزيت يُخزَّن في آبار مخصصة، بينما استُخدمت القلاع لحفظ الحنطة لفترات طويلة، في دلالة على تقدم تقنيات التخزين والحرص على الأمن الغذائي.

وتكشف بعض الوثائق البردية عن ملامح الحياة الاقتصادية في المدينة، خاصة ما يتصل بقطاعي الصناعة والبناء. وتحديدا فيما يتعلق بأعمال العمارة داخل المسجد الأقصى، بما يشمل محيط السور، وقبة الصخرة، والمسجد القبلي، مما يدل على رعاية دائمة للمواقع الدينية، وتوفير وظائف ودخل للعديد من العمال.

أما النشاط التجاري، فقد عرف انتعاشا مبكرا، بحسب روايات تاريخية، من أبرزها ما نقله الأسقف "أركوف" خلال زيارته للقدس في عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، حيث أشار إلى وجود سوق سنوي نشط يفد إليه التجار من شتى المناطق.

كما اشتهرت المدينة بصناعة المنسوجات، خاصة تلك المصنوعة من القطن والكتان، والمعروفة بـ"المقدسي"، إلى جانب سجاد الصلاة، وبطانيات الوسائد، وغيرها من المنتجات اليدوية.

الموروث الحضاري

حرص العلماء المقدسيون على توثيق معارفهم عبر نسخ الكتب بخط أيديهم، وحرصوا على توريث هذه النسخ لأبنائهم، الذين كانوا بدورهم يعيدون نسخها وتدقيقها.

وليس من المستغرب أن عددا من المقدسيين كان يكتب لنفسه وبالأجرة، "أي يعمل بوظيفة نسخ الكتب"، وهذا يؤكد قيمة الموروث التأليفي لعلماء ومؤسسات القدس في مجالات عدة، من نتاج الحضارة العربية الإسلامية ومن ضمنها تلك المعارف والروايات المتصلة بمدينة القدس.

توصيات

خلصت الدراسة لتوصيات عدة، أبرزها تفعيل التوصيات والقرارات الخاصة بتدريس مادة القدس في الجامعات الأردنية والعربية والإسلامية وجعلها مادة إجبارية لتعزيز مفهوم الموروث الحضاري المقدسي.

بالإضافة إلى الحرص على أن تحتوي الفعاليات العلمية المتعلقة بالقدس إلى جانب الأوراق العلمية أنشطة تبرز التراث والثقافة المقدسية كالعادات والتقاليد والفلكلور إلى جانب التراث المتصل بالتاريخ الشفوي لقيمته في توعية الأجيال المقبلة.

كما أوصت الكاتبة بإطلاق مبادرات ومشاريع حضارية مقدسية تسعى في مضمونها لإعادة إحياء الموروث الحضاري المقدسي باعتبارها رسالة عالمية مفادها أن للقدس هوية وثقافة أصيلة تمتد لقرون من الزمن.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار