آخر الأخبار

الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والسينما المصرية

شارك الخبر

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

تحتلُّ فكرة العبثية مكانةً محورية في الفلسفة الوجودية عمومًا، وفي أعمال الفيلسوف والأديب الفرنسي ألبير كامو (Albert Camus, 1913-1960) على وجه الخصوص. ويعدّ كتابه الشهير أسطورة سيزيف (Le Mythe de Sisyphe)، الصادر باللغة الفرنسية عام 1942م، أحد أبرز الأعمال التي بلورت مفهوم العبث من الناحية الفلسفية والأدبية.

وقد أعاد هذا المفهوم تشكيل رؤية الإنسان للوجود، متجاوزًا نطاق الفكر الفلسفي إلى الإبداع الأدبي والسينمائي. في العقود اللاحقة، ظهرت العديد من الأعمال السينمائية التي قدّمت قراءات موازية أو متقاطعة مع رؤية كامو للعبثية، من بينها أفلام عالمية مختلفة، بالإضافة إلى أعمال عربية استلهمت قصة سيزيف، وإن اختلفت في طريقة توظيفها ومقاصدها الدرامية.

من بين أبرز هذه الأعمال يأتي فيلم "ألف مبروك" (2009) المصري، من إخراج أحمد نادر جلال وبطولة الفنان أحمد حلمي. منذ لحظات عرضه الأولى، أثار الفيلم نقاشات نقدية وجماهيرية واسعة حول مدى تطابقه أو تقاطعه مع أعمال سابقة، لعلّ أشهرها الفيلم الأمريكي (Groundhog Day) الصادر سنة 1993م، من إخراج هارولد راميس وبطولة بيل موراي. وعلاوة على ذلك، فقد أثار الفيلم المصري نقاشات بخصوص استلهامه أسطورة سيزيف الإغريقية أو تأثره الجوهري بكتاب أسطورة سيزيف لألبير كامو.

إعلان

وفي مقدمة فيلم "ألف مبروك" توجد إشارة صريحة إلى أنّ الفيلم يستلهم أسطورة سيزيف الإغريقية، لا كتاب ألبير كامو، رغم أنّه – في منظور كثير من النقاد والباحثين – يلتقي في عدة محاور وأفكار مع الأطروحات الفلسفية التي قدّمها كامو في كتابه.

@amr_tamer1 ألف مبروك 👏🏻🎭 #فيلم #أحمد_حلمي #ألف_مبروك #film #CapCut ♬ الصوت الأصلي – المثقفاتي 💡

يسعى هذا المقال البحثي إلى دراسة مقارنة معمّقة بين العبثية في فيلم ألف مبروك والعبثية في كتاب أسطورة سيزيف لألبير كامو، مستندًا إلى عناصر بارزة في كل من النصّين الفيلمي والأدبي، ومشيرًا كذلك إلى أثر فيلم Groundhog Day بوصفه العمل السينمائي الأسبق في تناول موضوع تكرار اليوم ذاته، وأوجه التشابه والاختلاف بينه وبين الفيلم المصري. وستعمل هذه الدراسة على تفكيك مفهوم العبثية بين مصدرين رئيسيين: الأسطورة الإغريقية بحد ذاتها والفهم الفلسفي الذي قدّمه كامو عنها. ومن ثمّ تبيان موقع فيلم ألف مبروك من هذين المصدرين، ودحض أو إثبات كون الفيلم أقرب لرؤية كامو أو لرؤية الأسطورة الإغريقية البدئية، أو حتى لنسق مختلف يعكس تطور الوعي الجماعي المعاصر بمسألة العبث.

أولًا: مفهوم العبثية في الفلسفة والأدب


*

جذور العبثية في الفكر الفلسفي

يُمكن ردّ أصول التفكير بالعبث إلى تيارات فلسفية أقدم من ألبير كامو، تتجذّر في تأملات الوجوديين ومَن سبقهم من مفكّري القرن التاسع عشر، مثل سورين كيركغور (Søren Kierkegaard) وفريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche). غير أنّ كامو تمكّن من بلورة العبثية ضمن إطار شامل يفهم طبيعة العلاقة بين الإنسان والعالم: كيف يحاول الإنسان أن يفهم وجوده ويصطدم بلاجدوى محاولة استخلاص معنى شامل من عالمٍ يُبدي لامبالاة قاسية. يرى كامو أن صراع الإنسان مع هذه اللامبالاة هو صراع عبثي؛ حيث يسعى الإنسان إلى المعنى، فيما يقابله الكون بالصمت وعدم الاكتراث.

إعلان

*

كتاب أسطورة سيزيف (1942م) لألبير كامو

صدر كتاب كامو Le Mythe de Sisyphe عام 1942م في فترة بالغة الاضطراب تاريخيًا (أثناء الحرب العالمية الثانية). يتألف الكتاب من مقالات فلسفية تأمليّة، يطرح فيها كامو فكرته حول "العبث" (l’absurde) بوصفه فجوةً أو شرخًا يتولّد من المواجهة بين بحث الإنسان عن المعنى وصمت الكون. وفي ختام هذا الكتاب، يستدعي كامو شخصية سيزيف (Sisyphus) من الأسطورة الإغريقية، على اعتبار أنَّ سيزيف، الذي حُكم عليه بدحرجة صخرةٍ ضخمةٍ إلى قمة جبل لتتدحرج من جديد في كل مرة، يمثّلُ الرمز الأمثل لبؤس الإنسان العبثي. لا يكتفي كامو بعرض هذه المأساة؛ بل يقدّم لها نهاية مختلفة، إذ يرى أنَّ سيزيف انتصر بصموده ورفضه الاستسلام. فالمسألة الأخلاقية في نظر كامو تكمن في طريقة تعامل الإنسان مع عبثية قدره، ومن ثمّ يستخلص عبارته الشهيرة: "ينبغي أن نتخيل سيزيف سعيدًا". أي أنّ سيزيف يتحرّر حين يعترف أن مصيره إلى تكرار فعلٍ بلا جدوى، لكنه يُصرّ رغم ذلك على أن يعيش لحظته ويفجِّر إرادته الحرّة بالتمرّد على المعنى المفقود.


*

الأسطورة الإغريقية كمصدر رمزي

لا تنحصر دلالة أسطورة سيزيف في البُعد الفلسفي الذي قدّمه كامو، بل تمتدّ عبر تاريخٍ طويل تجذّر في الثقافة الإغريقية، ثم وصل إلى الفنون والأدب العالمي. تحكي الأسطورة أنَّ الإلهة حكمت على سيزيف بالعقاب الأبدي بسبب حيلته وخداعه للآلهة نفسها، فجُعلت عقوبته أن يدفع صخرةً نحو قمة جبل، لتسقط ثانيةً ما إن يبلغ القمة، فيبقى هكذا إلى الأبد. ترمز هذه الأسطورة إلى فكرة العقاب المتكرر بلا أمل في نهاية أو خلاص، وهي صورة جليّة للوجود البشري في صراعه مع القوى الكبرى للقدر والموت والآلهة.

مصدر الصورة كتاب أسطورة سيزيف The Myth of Sisyphus لألبير كامو (الجزيرة)

ثانيًا: فيلم Groundhog Day (1993م) والسبق السينمائي لفكرة تكرار اليوم

قبل الخوض في فيلم ألف مبروك (2009م)، يجدر بنا التطرق إلى فيلم أمريكي آخر شكّل علامةً فارقة في تناول فكرة تكرار اليوم الواحد، ألا وهو فيلم Groundhog Day. عُرض هذا الفيلم لأول مرة عام 1993، وأخرجه هارولد راميس (Harold Ramis)، وقام ببطولته الممثل بيل موراي (Bill Murray) بدور "فيل كونورز" (Phil Connors). في هذا الفيلم يجد "فيل" نفسه، وهو مراسلٌ للأحوال الجوية، عالقًا في يومٍ واحد مكرّر بلا نهاية (اليوم الثاني من شهر فبراير/ شباط)، في مدينة صغيرة تحتفل بعيد "مرموط الأرض" (Groundhog Day).

إعلان

تمتاز حبكة الفيلم بأنّ البطل يعايش اليوم ذاته، ثم يستيقظ صباحًا ليجد أن الأحداث تتكرر من جديد بالسيناريو نفسه. في البداية، يشعر بالفزع والاضطراب، ويحاول استغلال هذا التكرار بطرق أنانية؛ كاستغلال معرفته المستقبلية لتحقيق مكاسب شخصية، أو إشباع نزوات معيّنة. لكنه لا يلبث أن يمرّ بمراحل أقرب إلى الإنهاك النفسي واليأس، محاولًا الانتحار مرارًا وتكرارًا بلا جدوى، إذ يستيقظ في كل صباح مُلزمًا بتكرار اليوم السابق. وفي نهاية المطاف، يجد نوعًا من الخلاص، يتمثّل في تحوّله الأخلاقي واكتسابه قيمًا إنسانية أعمق، ومحبّته لامرأة كان يستغلّها في البداية، فيؤدي هذا التغير في شخصيته إلى كسر الحلقة الزمنية والخروج من الدائرة العبثية.

أثر هذا الفيلم لم يكن محصورًا في نطاق الكوميديا الرومانسية؛ إذ أعادت أفكار "تكرار اليوم ذاته" إلى الواجهة تساؤلات فلسفية ووجودية؛ منها: هل بوسع الإنسان أن يغيّر مصيره بتغيير سلوكه؟ هل التكرار الأبدي يدفعنا نحو اللامبالاة، أم نحو البحث عن تجربة إنسانية مختلفة في كل تفصيلٍ حتى وإن تكرّر؟

ثالثًا: فيلم «ألف مبروك» (2009م) ومفهوم العبثية


*

نبذة عن الفيلم

أُنتج فيلم ألف مبروك عام 2009م في مصر، وهو من إخراج أحمد نادر جلال، وسيناريو محمد دياب، ومن بطولة الفنان أحمد حلمي الذي قدّم دور البطل "أحمد جلال". تبدأ أحداث الفيلم صبيحة يوم زفاف البطل، الذي يستيقظ ليجد أسرته تستعدّ لحفل زفافه، ويمرّ بمواقف يومية عادية مع أسرته وأصدقائه. غير أن مفاجأة الفيلم الأساسية تكمن في موت البطل في نهاية اليوم، ثم استيقاظه في بداية اليوم نفسه مجددًا. وهكذا يواجه أحمد دورة تكرارية مفرغة: يحيا اليوم ذاته، يلقى نهايته بالموت، ثم يستيقظ في اليوم نفسه مرةً أخرى. يستمر هذا الوضع على نحوٍ يخلق صراعًا داخليًا يضعه أمام أسئلة وجودية: لماذا يحدث هذا التكرار؟ هل يمكنه تغيير مصيره المحتوم؟ ما السبيل إلى تحطيم الدائرة المفرغة؟

إعلان

*

الإشارة في مقدمة الفيلم

تقدّم مقدمة فيلم ألف مبروك تصريحًا واضحًا يُنبّه بأن العمل يستلهم أسطورة سيزيف الإغريقية (المذكورة آنفًا)، ولا يستلهم كتاب ألبير كامو تحديدًا. في هذا التنبيه، محاولة لقطع الطريق على القراءات النقدية التي قد تتهم صُنّاع الفيلم باقتباسٍ مباشر من كتاب كامو. ومع ذلك، يظلّ هنالك تقاطعٌ واضح في طرح فكرة التكرار العبثي بين النصّين: أسطورة سيزيف بوصفها قصة العقاب الأبدي في الأساطير القديمة، ورؤية كامو لصورة سيزيف بوصفه رمزًا للعبث، وما يستتبعه من بحث عن "التمرّد" أو "التمرّن" على العبث بوصفه فعلًا وجوديًا.


*

مدى التقاطع مع فلم Groundhog Day

رغم الإشارة المذكورة في مقدمة الفيلم بخصوص أسطورة سيزيف، لاحظ كثيرٌ من المشاهدين والنقاد أنَّ فكرة الاستيقاظ في اليوم نفسه تكرارًا إلى ما لا نهاية -مع تغيّر جزئي في تصرّفات البطل مع مرور التكرار- بدت قريبةً جدًا من فيلم Groundhog Day. وهذه المقارنة ليست وليدة فراغ؛ إذ إن Groundhog Day يُعدّ العمل الأكثر شهرة عالميًا في تناول "الدائرة الزمنية" بهذا الأسلوب الحديث. ومع ذلك، لا نرى في فيلم ألف مبروك أي تصريح رسمي يربط الفيلم المصري مباشرةً بهذا الفيلم الأمريكي، مما ترك المجال لتأويلات الجمهور والنقاد. لكنّ ما يهمُّنا هنا هو التركيز على "العبثية" في الفيلم المصري وصلتها بأسطورة سيزيف ومفهوم كامو للعبث، أكثر من مناقشة الإلهام الفني أو الحبكة الزمنية.

رابعًا: المقارنة بين فيلم ألف مبروك ورؤية ألبير كامو في أسطورة سيزيف


*

التشابه في بنية العبث واللاجدوى

يرسم كتاب كامو أسطورة سيزيف صورةً تمثيلية للوجود البشري المعاصر: إنّ الإنسان ينساق يوميًا في بحثٍ حثيثٍ عن معنى أو قيمة للحياة، ولكنه يصطدم بعبثية الموقف الكوني. فليس هناك "معنى" نهائي ثابت تمنحه الطبيعة أو إلهٌ متعالٍ، بل حياةٌ تسير في دورةٍ غير مبالية بآمال الإنسان. هذه المواجهة مع اللاجدوى قد تدفع البعض إلى الانتحار الفكري (أي اللجوء إلى المعتقدات المطلقة دون تمحيص) أو الانتحار الحقيقي (القضاء على حياتهم). بيد أنّ كامو يرفض كلا الخيارين، ويؤكد أنّ السبيل الوحيد لمجابهة العبث هو "التمرّد": أن نعيش رغم غياب المعنى، وأن نصنع قيمتنا الشخصية ونتمسك بالحياة كنقيض للعدم.

في ألف مبروك، يعيش البطل تجسيدًا حيًّا للدوْر العبثي الذي لا أفق للخروج منه على نحو تقليدي؛ فكلما مات، استيقظ في اليوم نفسه. يوحي هذا الوضع بأنه محكومٌ بعقاب أبديّ كتلك الصخرة التي يحملها سيزيف. عدم قدرته على الفرار من الموت يضاهي انحدار الصخرة في كل مرة من قمة الجبل. كذلك، فإن هذا الوضع "العبثي" يدفعه إلى عدة مراحل؛ من الصدمة إلى الإنكار، ثم السعي للهرب، ثم محاولة استغلال التكرار بتحقيق مصالح شخصية، وقد يصل إلى درجة اليأس أو الرغبة في الموت الحقيقي هربًا من اللاجدوى. هذه المراحل تُذكّرنا بالمراحل التي عدّدها كامو في فهم الإنسان للعبث، وإن كانت مطروحة بصورة درامية مختلفة.

إعلان

*

الاختلاف في الموقف من التمرّد

وفق كامو، العبثية لا تنتهي بحلٍّ جذري يؤدي إلى "تحطيم" الصخرة أو "إيقاف" العقاب؛ بل بتغيير وعي الشخص لماهية العقاب، لتصير المعاناة ذاتها فعل مقاومة للموت المعنوي. غير أنّ فيلم ألف مبروك يقدّم نهايةً مختلفة بعض الشيء؛ إذ في النهايـة، يتمكّن البطل من "كسر" حلقة التكرار عبر تصرّفٍ أخير أو إدراك معيّن يضعه خارج دائرة الموت المتكرّر. يوحي ذلك بأنّ هنالك "خلاصًا" ملموسًا بانتظار البطل، مما قد يبعد الفيلم – نظريًا – عن فلسفة كامو التي لا ترى في "النهاية السعيدة" كسرًا حقيقيًّا لعبثية الوجود، بل ترى أنَّ البطولة تكمن في وعي المرء بالعبث والتمسّك بالحياة رغم ذلك.

على الرغم من هذا الاختلاف، فالتركيز في فيلم ألف مبروك على جوانب القلق الوجودي والأسئلة الكبرى الخاصة بالمصير يجعل الفيلم قريبًا جدًّا من روح كامو، حتى لو لم يصرّح الفيلم بذلك. وطبيعة السينما التجارية (أو السينما الجماهيرية) قد تفرض حبكةً ختاميةً تمنح الجمهور قدرًا من الأمل أو الانفراج، بدلًا من إبقاء المشهد غارقًا في العتمة المطلقة.

مصدر الصورة يأخذ التكرار في فيلم ألف مبروك بُعدًا أخلاقيًّا، حيث يتحوّل من عبثٍ مطلقٍ إلى "محنة" يتطهر عبرها البطل (مواقع التواصل)
*

الجدوى من التكرار في السياقين

يُسلط كامو الضوء في أسطورة سيزيف على فكرة "الديمومة" التي تمثل جانبًا مخيفًا لدى الإنسان، لأنّها تجعله يحيا وكأنّه لا يتحكم بشيء. لكنَّ كامو يستدعي هذه الديمومة ذاتها بوصفها حافزًا لمواصلة الحياة ودفع الصخرة؛ فالمعنى لا يأتي جاهزًا من السماء، بل نصنعه بقوة رفض العبث ورفض الاستسلام. في فيلم ألف مبروك، يبدو التكرار الزمني أشبه بفرصة لإعادة التفكير بقرارات البطل، ومراجعة علاقاته مع أسرته ومجتمعه، بل واكتشاف أخطائه التي كانت مغطّاة في الحياة العادية. إذن، يأخذ التكرار بُعدًا أخلاقيًّا، حيث يتحوّل من عبثٍ مطلقٍ إلى "محنة" يتطهر عبرها البطل. وهذا التقاطع حاضر في طرح كامو حول سيزيف، لكنْ صياغة كامو تستبقي الصخرة أبديةً، فيما يختار الفيلم نهايةً تحرّرية تنقذ البطل من سجن التكرار.

إعلان

*

البعد الروحي والديني

لا يظهر البعد الديني بشكلٍ واضح في كتاب كامو؛ فهو يعالج الموضوع ضمن أطر الوجودية الملحدة أو اللاأدرية التي لا تفترض تدخلًا ربّانيًّا لإنقاذ الإنسان من عبثه. بينما في المجتمع المصري المحافظ نسبيًّا، قد يجد المتلقّي أن فيلم ألف مبروك يلمّح إلى أسئلة حول "عناية الله" بالبشر، وقدرة الإنسان على التوبة أو نيل الفرصة الثانية في الدنيا، وبالطبع لا يقدم الفيلم إجابةً عقديةً مباشرة. إلا أنّ وجود هذه الخلفية الثقافية لا ينفي أن الفيلم يتجاوز التفسير الديني المباشر صوب طرحٍ أوسع عن معنى الحياة والموت، وهي أسئلة وجودية لدى كل البشر.

خامسًا: فيلم ألف مبروك بين الأسطورة الإغريقية وفلسفة كامو


*

التصريح الرسمي وعلاقته بالأسطورة الأصلية

جاءت في مقدمة فيلم ألف مبروك إشارة محدّدة: "الفيلم مستلهمٌ من أسطورة سيزيف، وليس مستوحًى من كتاب ألبير كامو". من الناحية النقدية، يحمل هذا التصريح دلالة ازدواجية؛ فهو من جانب يحفظ للعمل السينمائي استقلاله عن التأويل الفلسفي البحت الذي قدّمه كامو. ومن جانب آخر، يؤكد ارتباط الفيلم بالجذر الأسطوري القديم الذي له قراءاته المختلفة. بعبارة أخرى، يُعلي الفيلم من دَور الأسطورة في الإطار الأدبي والثقافي، بدلًا من الارتكاز إلى الأطروحة الفلسفية لكامو، والتي تتطلّب مساحة أكبر من التعقيد والتثقيف الوجودي قد لا يتناسب مع الجمهور العام.

في الأسطورة الإغريقية، لا نجد تفسيرًا داخليًا لـ "تمرد" سيزيف أو "سعادته"، إنما نلقى عقابًا أبديًّا لا ينجو منه البطل، ولا ثمة نهاية تُبشّر بالخلاص. أما كامو، فقد تجاوز القراءة الأسطورية التقليدية ليُقدّم بُعدًا فلسفيًا ووجوديًا عميقًا. وفيلم ألف مبروك، على الرغم من إعلان صُنّاعه عن استلهامه من الأسطورة مباشرةً، فإن الأحداث تتكشّف على نحو يستحضر "التجربة الكاموية" في جوهرها: إقرارٌ بلا جدوى التكرار، ثم مقاومة العبث، وصولًا إلى لحظة "صحوة" يواجه فيها البطل لغز الحياة والموت.

إعلان

*

تميّز فيلم ألف مبروك في سياقه العربي

في السياق السينمائي العربي، لا تُعدّ الأفلام التي تجسّد مفاهيم وجودية عسيرة التناول شائعةً. لذلك، قدّم فيلم «ألف مبروك» في عام 2009م تجربة لافتة، استلهمت أسطورةً عالمية، وأدرجتها في حبكة محلية ذات علاقة بالجمهور المصري والعربي. هذا الجمع بين هموم اجتماعية مثل علاقة البطل بوالده ووالدته واختلاف الرؤى والطباع من جهة، وقضايا فلسفية كبرى كالوجود والعدم من جهة أخرى، يُظهر جرأةً في توظيف الأسطورة ضمن نسق معاصر قريب من المتفرج.

مصدر الصورة "السعي الإيجابي" مفهوم يتمثل بالصورة التي رسمها كامو عن سيزيف، والذي يدحرج الصخرة كل يوم عارفًا أنها ستسقط، لكنه لا يزال يواصل إكمال المسار (الجزيرة)

على مستوى "العبثية"، عبّر الفيلم عن لحظة مواجهة شخصية واجتماعية. فالبطل لم يعد فقط في حرب مع "القدر"، بل مع "محدودية إرادته" في فعل شيء مختلف حين يتكرّر اليوم نفسه. هذه الثيمة تتساوق بوضوح مع أطروحة العبث عند كامو، التي تشدّد على عجز الإنسان عن تغيير صمت الكون أو قوانين الطبيعة، لكنّه يستطيع – بتوعيته لذاته – أن يغيّر نظرته للأمور ويشتغل على قيمه ومبادئه. وفي نهاية الأمر، قد يتبيّن أنّ "ألف مبروك" وإن لم يصرّح صراحةً بأنه متأثّرٌ بـ"كامو"، إلّا أنّ البنية العميقة للطرح تتماسّ مع مفهوم "التمرد على العبث" و"البحث عن حرية المعنى".


*

نقاط تقاطع محدّدة بين الفيلم والكتاب


* فكرة العبث: في الكتاب، يصف كامو الصراع بين رغبة الإنسان في المعنى وصمت الكون. وفي الفيلم، يتلخّص هذا الصراع في محاولة البطل العثور على سبب لتكرار موته، مما يرمز لاجتماع الموت واللاجدوى في آنٍ واحد.
* ردة الفعل الإنسانية: كامو يذكر أنّ البعض يُنكر العبث أو يتجاوزه إما بالانتحار أو التدين المطلق أو التمرّد. وفي الفيلم، يمرّ البطل بمرحلة قريبة من اليأس والرغبة في إنهاء حياته (أو الاستسلام لموته المحتوم)، في مقابل محاولة "التمرّد" على اليوم المكرّر بتغييره أفعالَه.
* القبول والمواجهة: يتمثل في نظرية "ينبغي أن نتخيّل سيزيف سعيدًا". في الفيلم، حين يصل البطل إلى "درجة من التسليم" بأن اليوم مكرّر، نجد أنه يبدأ في اكتشاف قيم إنسانية مثل الحب والاهتمام بالأسرة، وهي لحظة تجاوز لمرحلة الغضب نحو مرحلة "الاستثمار الأخلاقي" في التكرار.
* الإصرار على الحياة: رغم تماثل الموت في كل مرة، يحاول البطل إنقاذ نفسه أو إنقاذ الآخرين. هذا النوع من "السعي الإيجابي" يقابل الصورة التي رسمها كامو عن سيزيف، الذي يدحرج الصخرة كل يوم عارفًا أنها ستسقط، لكنه لا يزال يواصل إكمال المسار.
إعلان

سادساً: توليفة المحاكاة بين الأسطورة الغربية والواقع المصري

يتبيّن من العرض السابق أنّ فيلم ألف مبروك وإن صرّح بأنه يستلهم الأسطورة الإغريقية بشكل مباشر، لا يستطيع بحكم طبيعته ومضمونه أن يتخلّى عن مساحة التشابه مع الرؤية الفلسفية التي قدّمها ألبير كامو في أسطورة سيزيف. فمجرّد تجسيد فكرة التكرار العبثي في عملٍ دراميٍ يصوّر الفرد في صراعٍ مع "قدرٍ" لا يتغيّر، ومحاولته إيجاد حلّ أو مخرجٍ من حلقة مفرغة، هو في جوهره طرحٌ وجودي يلتصق بمشروع كامو الفكري، الذي جعل من سيزيف أنموذجًا لهذا الصراع.

قد يقول البعض إنّ الفيلم ليس سوى استنساخ محلي لفيلم Groundhog Day بفروقٍ بسيطة تتناسب مع الثقافة المصرية، وقد تصدُق هذه المقارنة إذا نظرنا فقط إلى الشكل الخارجي لفكرة تكرار اليوم الواحد. بيد أن النظرة العميقة تبرز اختلافًا في المعالجة الدرامية والأهداف؛ إذ يركّز فيلم ألف مبروك على لحظة الموت وتكرارها، ما يمنحه بُعدًا أكثر راديكالية. ففي Groundhog Day لا يموت البطل في نهاية اليوم، بل يعيد عيش اليوم ذاته بشكل عالق في الزمن. أمّا في ألف مبروك، فالنهاية تشمل الموت كلّ يوم، بما يُكسب الفيلم طابعًا أكثر مأساوية، وأقرب إلى عقابٍ أبديٍ يشبه عقاب سيزيف.

أما بالنسبة للمقارنة بين عملٍ سينمائي وتجسيدٍ فلسفي، فثمة فارق جوهري: يطرح كامو في كتابه سؤالًا وجوديًا مجرّدًا عن جدوى الحياة في عالمٍ فاقدٍ للمعنى، بينما يسعى الفيلم عادةً إلى إمتاع المشاهد وإثارة حِسِّه بالمفاجأة والتشويق. غير أنّ اللقاء بينهما قائمٌ في مستوى "العبثية"؛ إذ يقدّم الفيلم صورة حسيةً لما يمكن أن يكون مصير الفرد حين يجد نفسه عالقًا في "عبثٍ" لا تفسير له، تمامًا كما وجد سيزيف نفسه محكومًا بدحرجة الصخرة إلى الأبد. وخلافًا للأسطورة الأصلية، وخلافًا للتأويل الكاموي، ينتهي الفيلم بنوعٍ من الانفراج (أو الخلاص) الذي يخلّف انطباعًا متفائلًا لدى المتفرّج، قد يكون تجاريًا أو دراميًا بحتًا.

إعلان

عند التأمّل، نرى أنّ ألف مبروك يمثّل نوعًا من "التوليف" بين عناصر مختلفة:


* عنصرٌ أسطوري غربي قديم (سيزيف).
* عنصرٌ فلسفي حداثي (كامو والعبث).
* عنصرٌ درامي سينمائي غربي معاصر (Groundhog Day).
* عنصرٌ اجتماعي مصري (عائلة البطل وطبيعة العلاقات في مصر).

إنّ هذه التوليفة تسمح للفيلم بتقديم "نسخة عربية" من العبثية الوجودية، وإن لم يعنِ ذلك تطابقه التام مع كامو. وعلى الرغم من التصريح بعدم استلهام كامو، فإن الأفكار الكبرى لا يمكن فصلها تمامًا عن سياقها الفلسفي الموروث. ففي النهاية، تتنوّع القراءات النقدية لفيلم ألف مبروك بحسب خلفية المتلقّي ومرجعيته الثقافية، إلاّ أن مساحة العبثية فيه تسمح بربطه بكتاب أسطورة سيزيف لكامو؛ إذ إنّ المحورين المشتركين بينهما هما الكفاح اليومي بلا أملٍ واضح، والبحث عن لحظة إدراكٍ متجاوزة للاعتياد.

مصدر الصورة في كل محاولة سردية أو سينمائية لتجسيد "العقاب الأبدي" لسنا ببعيدين عن رؤية كامو بأنّ حرية الإنسان تقوم في تمرده على عبث وجوده (مواقع التواصل)

تقييم نقدي:


* النص السينمائي والسيناريو: استطاع السيناريو (من تأليف محمد دياب) توفير قدر كافٍ من التصاعد الدرامي، ليبقي المشاهد مشدودًا لحلقات التكرار، ويتتبّع التحولات في شخصية أحمد.
* البناء الفلسفي: ليس الفيلم عملًا فلسفيًا محضًا، بل يجمع بين الكوميديا السوداء والمأساة والنقد الاجتماعي. وهذا يميّزه عن المعالجة النصية لدى كامو.
* التأثير الجماهيري: حقّق الفيلم نجاحًا ملحوظًا في شباك التذاكر العربي. ولعل معالجة الفكرة الوجودية بأسلوبٍ بسيط وواقعي، مع الإبقاء على لمحات كوميدية، ساعد في انتشاره.
* التوجّه الثقافي: يُبرز الفيلم ميلًا نحو تبسيط الفكرة الميتافيزيقية للعبث، دون الغوص في مسائل فلسفية عميقة تخصّ طبيعة الإيمان أو مغزى الحياة. لكن في الوقت نفسه، لا يغفل طرح الأسئلة الكبرى عن الموت والوجود في شكل درامي مؤثر.
إعلان

سيزيفية وجودية معاصرة

إنّ المقارنة بين عبثية فيلم ألف مبروك وعبثية سيزيف لدى كامو تتجاوز حدود "التطابق" أو "الاختلاف"، لتكشف عن كيفية انفتاح النصّ الأسطوري القديم على قراءات وتأويلات جديدة في كل زمن. فالأسطورة بحدّ ذاتها لم تكن سوى قصة شعبية تُروى في المآثر الإغريقية، ثم جاء كامو لمنحها عمقًا فلسفيًا جعل من سيزيف مثالًا رمزيًا لتجسيد مأزق الوجود الإنساني. أمّا السينما المعاصرة – عربيًا أو عالميًا – فقد أعادت استثمار هذا الرمز (سواء بوعي أو دون وعي) في محاولة لتعميق الدراما وإضفاء بعد وجودي عليها. وهنا يتجلى التفاعل الحضاري والفني بين الأسطورة والأدب والفلسفة والسينما.

يبقى فيلم ألف مبروك حالة دراسية مهمّة لاستكشاف مدى تأثر الأعمال السينمائية العربية بفلسفة كامو بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومدى قدرتها على إسقاط أزمة المعنى الوجودي على واقع محلي. وحتى مع تنويه صُنّاع الفيلم بأنهم يستلهمون الأسطورة فحسب، فإنّ "روح كامو" تظلّ حاضرة. فليس هنالك مفرّ من الأسئلة الكبرى التي أثارها الفيلسوف الفرنسي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، والتي ما تزال تعصف بوجدان الإنسان المعاصر. ولعلّنا في كل محاولة سردية أو سينمائية لتجسيد "العقاب الأبدي" لسنا ببعيدين عن رؤية كامو بأنّ حرية الإنسان تقوم في تمرده على عبث وجوده، وأنّ "ينبغي أن نتخيّل سيزيف سعيدًا" – أو أنّنا ينبغي أن نتخيّل أبطالنا وهم ينهضون من جديد مع كل انحدارٍ للصخرة. بهذا المعنى، يغدو فيلم ألف مبروك امتدادًا لسؤال كامو القلق عن المعنى في عالمٍ لا يصرّح بأهدافه.

لقد عبّرت الأسطورة الأصلية عن "حقيقة العقاب الدائم" بلا نهاية سعيدة، بينما أضاف كامو بُعدًا احتجاجيًا وجوديًا في منتصف القرن العشرين. وجاء فيلم ألف مبروك عام 2009م ليحفر قصة أحمد الشاب المصري في دائرة زمنية مميتة، حاملةً عبثية سيزيف في ثنايا الدراما الاجتماعية الخفيفة/الثقيلة في آن، ومعيدةً تشكيل السردية القديمة في حُلةٍ جديدة. وإن دلّ هذا على شيءٍ، فإنّه يدلُّ على أن "سيزيف" وأزمته الوجودية باقيان معنا، يظهران في قوالب لا متناهية كلما هزّتنا الحيرة من وجودٍ مبهمٍ، وكلما وجد الإنسان نفسَه محصورًا في تكرارٍ أزلي يبحث فيه – يائسًا أو متمردًا – عن منفذٍ للخلاص أو بصيصٍ من المعنى.

إعلان
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك الخبر

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا