منذ القديم، مثل العقل البشري ومكوناته ووظائفه لغزا حير العلماء. فقديما، اتجه العلماء للحديث عن اعتماد الإنسان على القلب كمصدر للذكاء والتفكير مقللين بذلك من دور الدماغ. وأثناء فترة حياته، اتجه العالم الموسوعي ليوناردو دافينشي لتقديم نوع من الرسوم الدقيقة لشكل الدماغ البشري عقب قيامه، خلسة، بعمليات تشريح على بعض الجثث بمستشفى فلورنسا.
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شهدت فرنسا ظهور نوع من الجمعيات الغريبة التي وجهت أبحاثها نحو الجسم البشري. وبهذه الجمعية المعروفة بجمعية التشريح المتبادل، وافق عدد من العلماء على تقديم جثثهم للتشريح بعد الوفاة لأغراض علمية.
خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1876، أسس عشرات من العلماء والأثرياء الفرنسيين، المنتمين لجمعية الأنثروبولوجيا بباريس، ما عرف بجمعية التشريح المتبادل. وبتلك الفترة، ضمت هذه الجمعية عددا هاما من الفلاسفة والمختصين باللغة الفرنسية والأطباء والأنثروبولوجيين والصحفيين.
ومن خلال هذه الجمعية، اتجه الباحثون للعمل على فهم الروابط بين الشخصية والقدرات وشكل الدماغ عن طريق إنشاء نظام يتم بموجبه التبرع بجثث الأعضاء، عقب وفاتهم، للجمعية التي ستتكفل بتشريحها لأغراض علمية. من جهة ثانية، آمن المسؤولون على هذه الجمعية بالمادية العلمية التي أكدوا من خلالها أن العلم هو المصدر الوحيد للمعرفة. وانطلاقا من ذلك، رفضت جمعية التشريح المتبادل كل ما تعلق بالديانات والغيبيات لتفسير الظواهر العلمية.
أيضا، أكدت فلسفة الجمعية على تكون الجسم والدماغ البشري من المادة وعدم وجود أشياء غيبية داخله متحدثين بذلك عن وجود تفاعلات داخل المادة بالعقل لتفسير علم النفس وتقلبات مزاج الإنسان.
إلى ذلك، ضمت هذه الجمعية في صفوفها العديد من كبار الأدباء والعلماء الفرنسيين بتلك الفترة من أمثال الطبيب أوغست كوديرو (Auguste Coudereau) وزميله بول توبينار (Paul Topinard) وعالم الآثار غابرييل دي موتييه (Gabriel de Mortillet).
وخلافا لعمليات التشريح التي جرت داخل المستشفيات بتلك الفترة على أجساد المرضى المتوفين، فضّل هؤلاء العلماء إجراء عمليات تشريح على جثث بعضهم البعض بهدف فهم أسباب ذكائهم وتفوقهم.
من جهة أخرى، مثلت عمليات التشريح هذه التي مارستها جمعية التشريح المتبادل نوعا من التحدي للكنيسة الكاثوليكية التي احتكرت منذ قرون المراسم الجنائزية للمتوفين. وبموجب ما قاموا به، حاول العلماء داخل هذه الجمعية إثبات إمكانية دفن الموتى بطريقة مدنية، غير عقائدية، دون العودة للكنيسة.
خلال سنوات عملها الأولى، احتفظت الجمعية بجثث بشرية دون تصريح قانوني. وبحلول العام 1887، مرر البرلمان الفرنسي قانونا سمح للمواطنين الفرنسيين بتقرير مصير جثثهم بعد الوفاة حيث أكد هذا القانون حينها على إمكانية تقديم الجثث للتشريح والتجارب لأغراض علمية.
سنة 1914، اختفت جمعية التشريح المتبادل بسبب وفاة أغلب منتسبيها. وعلى الرغم من فشلها في تحديد مصدر الذكاء بالعقل البشري عن طريق التشريح، فتحت هذه الجمعية الطريق نحو عمليات التبرع بالجسد لأغراض علمية والتبرع بالأعضاء بعد الوفاة مساهمة بذلك في تقدم العلم وإنقاذ العديد من الأرواح البشرية.