آخر الأخبار

الصحافة الأخلاقية في عصر الذكاء الاصطناعي.. اختبار الضمير أمام سلطة الخوارزمية

شارك

يقول تولستوي، الفيلسوف الروسي الطائر الصيت "الجرائد نفير السلام وصوت الأمة وسيف الحق القاطع ومجيرة المظلومين وشكيمة الظالم، فهي تهزّ عروش القياصرة وتدكّ معالم الظالمين".

في زمن تولستوي، كانت قوة الصحافة تقاس بقدرتها على كشف الظلم ورفع الصوت عاليا دفاعا عن الحقيقة. واليوم، مع صعود الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه توليد الأخبار بسرعة مذهلة، تبدو هذه المهمة أكثر تعقيدا من أي وقت مضى.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 النيابة المغربية: الفساد المالي يهدد الاستقرار ويعيق التنمية
* list 2 of 2 كاتب إسرائيلي: هكذا أضعف نتنياهو سيادة القانون end of list

فالسرعة والكمّ الهائل من المحتوى الرقمي قد يغرق الحقيقة ويشوّه المصداقية، ويجعل الالتزام بالمعايير الأخلاقية الصحفية تحديا كبيرا.

هنا تتضح أهمية المسؤولية الفردية لكل صحفي، إذ لا يكفي الاعتماد على التقنية وحدها، بل يجب الجمع بين الالتزام بمدونات الأخلاقيات، وممارسة الحكم النقدي، واستخدام الأدوات التقنية بشكل يضمن الشفافية والنزاهة.

مصدر الصورة الأخلاقيات الصحفية لا تُختبر فقط على الورق، بل على أرض الواقع. (شترستوك)

قيم الصحافة أمام طوفان الخوارزميّات

تعدّ أخلاقيات الصحافة خط الدفاع الأول عن نزاهة الخدمة وثقة الجمهور، فهي ليست مجرد لوائح جامدة، بل قيم حية تحمي المصداقية وتوجه السلوك المهني في كل كلمة تُنشر.

ومع أن الالتزام بهذه القيم مسألة اختيارية ترتبط بحرية الإرادة، فإن المحررين يضعون ثقتهم في وعي الصحفيين ليقدموا محتوى أصيلا، ودقيقا، ومسؤولا.

لكن في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث أصبح الوصول إلى المعلومات أكثر سهولة، ظهرت تحديات جديدة، من السرقة الأدبية إلى تآكل الدقة، تعيد طرح السؤال الأخلاقي "هل مازالت القيم قادرة على توجيه المهنة وسط زحف الآلة؟"

الإجابة، كما يبدو، تكمن في 3 محاور أساسية تمثل الطريق الممكن لحماية المعايير الأخلاقية دون تعطيل الابتكار.

1- الضمير أوّلا.. مسؤولية الفرد قبل المؤسسة

تعدّ المسؤولية الأخلاقية الفردية الركيزة الأساسية في ممارسة الصحافة النزيهة، إذ لا يمكن لأي قانون أن يحلّ محلّ الضمير المهني. وتبرز فلسفة الأخلاق الواجبة (Deontological Ethics) هنا، بوصفها إطارا فكريا يدعم هذا المفهوم داخل صناعة الإعلام.

إعلان

فأنصارُ هذه الفلسفة يرون أن الالتزام بالقواعد الأخلاقية واجب مطلق، لا يتوقف على النتائج أو العواقب.

ويشير غوردون (Gordon, A.David 2011. Controveersies in Media Ethics Routledge.) إلى مبدأ الواجب الأخلاقي الكانطي (Immanuel Kant’s Categorical Imperative)، الذي يفترض أن القواعد الأخلاقية يجب أن تُعامل بوصفها قوانين عالمية.

وبناء على ذلك، يتحمل الصحفي مسؤولية أخلاقية ثابتة في التصرف بنزاهة، وتجنب السرقة الأدبية، والالتزام بميثاق المهنة، حتى في غياب الرقابة المباشرة.

وتُظهر هذه الفلسفة أن الصحفي الحقيقي يفعل الصواب لأنه صواب، لا لأنّه مُراقب. ومن هنا تأتي أهمية غرس هذا الوعي الأخلاقي في نفوس الصحفيين، خاصة في بيئة رقمية يندُر فيها الإشراف البشري وتتزايد فيها الإغراءات التقنية.

ويضيف غوردون أن هذا النهج يجذب الكثير من المهنيين في الإعلام، لأنهم يؤمنون بمبدأ قول الحقيقة والثبات على الموقف دون الخوف من العواقب. ومن ثم، فإن تذكير الصحفيين بهذه المبادئ ليس ترفا أخلاقيا، بل ضرورة مهنية لحماية جوهر المهنة في عصر الذكاء الاصطناعي.

2- الفضيلة كمرشد للضمير الصحفي

تعدّ أخلاقيات الفضيلة إطارا فلسفيا متكاملا يدعم فكرة المسؤولية الأخلاقية الفردية، إذ تركز على النيّات والضمير الداخلي أكثر من الالتزام بالقواعد الصارمة.

وتشير جيتيلي تيلاك، أستاذة في قسم الصحافة والاتصال الجماهيري في جامعة تيلاك مهاراشترا فيديابيث (Tilak Maharashtra Vidyapeeth) في الهند في ورقتها البحثية بعنوان "دراسة وأهمية أخلاقيات الإعلام" التي نشرتها في عام 2020 في (International Journal of Disaster Recovery and Business Continuity) إلى أن هذه النظرية تتوافق بشكل وثيق مع المبادئ الأساسية للصحافة، مثل الصدق، والاحترام، والمسؤولية، والعدالة، والحقيقة وضبط النفس.

وعندما ننتقل إلى عصر الذكاء الاصطناعي، يظهر دور الفضيلة بوضوح أكبر، فهؤلاء الصحفيون ملتزمون بالاستخدام الأخلاقي للأدوات التقنية حتى في غياب قوانين تنظم الذكاء الاصطناعي داخل غرف الأخبار.

ومن هذا المنطلق، يؤكد أنصار مفهوم الوسط الذهبي لأرسطو على ضرورة التوازن بين الإفراط والتفريط.

ففي حين يرفض بعضهم استخدام الذكاء الاصطناعي كليا ويغرق آخرون في استغلاله بلا ضوابط، يسعى الصحفي الفاضل إلى التحقق من المعلومات التي يولدها الذكاء الاصطناعي ومراجعتها بدقة قبل نشرها.

مصدر الصورة تعدّ أخلاقيات الصحافة خط الدفاع الأول عن نزاهة الخدمة وثقة الجمهور. (شترستوك)

3- البراغماتية في مواجهة الذكاء الاصطناعي في الصحافة

يعدّ تعزيز مواثيق أخلاقيات الصحافة من منظور عملي أمرا ضروريا، خصوصا في ظل تحديات الذكاء الاصطناعي، إذ يركز النهج البراغماتي على إيجاد حلول تجعل الصحافة أكثر وظيفية، واستدامة وأخلاقية.

ورغم الفوائد، تم استغلال الذكاء الاصطناعي أحيانا بشكل غير أخلاقي، حيث أشارت أيمي أورتيز، صحفية في صحيفة نيويورك تايمز، في تقرير لها العام الماضي، إلى صحفي من وايومنغ استخدم اقتباسات مزيفة أنشأها الذكاء الاصطناعي دون إجراء مقابلات حقيقية، مما أضر بسمعة الصحيفة.

ومن منظور براغماتي، يمكن الحد من هذه الانتهاكات عبر استخدام الذكاء الاصطناعي وفق قواعد أخلاقية واضحة.

إعلان

على سبيل المثال، تعتمد صحيفتَا "أفتون بلادت" (Aftonbladet) و"في جي" (VG) التابعتان لمجموعة "شيبستد" (Schibsted) سياسات تلزم مراجعة جميع المواد المنتجة بالذكاء الاصطناعي من قبل البشر وتوسيمِها بوضوح، وهو ما يعزز مبدأ الشفافية كجوهر للعمل الصحفي.

4- التكنولوجيا كدرع أخلاقي

يعدّ استخدام الأدوات التقنية القادرة على تتبع واكتشاف المحتوى المنتج بالذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار وسيلة فعالة للحفاظ على النزاهة الصحفية.

ومن منظور النفعية (Utilitarianism)، يكون اعتماد مثل هذه الأدوات أخلاقيا عندما يسهم في زيادة ثقة الجمهور وتقليل الأضرار الناتجة عن الأخبار الكاذبة.

فعلى سبيل المثال، يشير مارك دروسدوفسكي، كاتب رئيسي ومحلل لدى موقع "بست كولدج" (BestColleges) إلى أن أداة "تورنيتيم" (Turnitin) الجديدة قادرة على كشف المحتوى الذي أنشأه الذكاء الاصطناعي بدقة تصل إلى 98%، مما يجعلها نموذجا يمكن الاعتماد عليه في الصحافة لكشف الانتحال وضمان أصالة المواد المنشورة.

أمثلة واقعية.. هل تكفي القيم الأخلاقية؟

في منتصف مايو/أيار 2023، نشرت صحيفة "ذا إريش تايمز" (The Irish Times) مقالا يتهم النساء اللاتي يستخدمن مستحضرات "التسمير الصناعي" (Fake Tan) بأنهن يسخرن من ذوات البشرة الداكنة الطبيعية.

وقد نُسب المقال في البداية إلى امرأة تدعى أدريانا أكوستا-كورتيز، لكن تبين لاحقا أن هذه الشخصية لا وجود لها. بعد 4 أيام، نشرت الصحيفة افتتاحية توضح أن "المقال والصورة المرافقة ربما أنشئت، جزئيا على الأقل، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي".

بعد شهرين، كشف موقع "هولد ذا فرونت بايج" (Hold the FrontPage) عن استخدام الذكاء الاصطناعي لإطلاق صحيفة مزيفة باسم "ذا بورن ماوث أوبزرفر" (The Bournemouth Observer)، وقال رئيس تحرير الموقع بول لينفورد "كان من الواضح أن المحتوى مكتوب بالذكاء الاصطناعي لأن الكتابة كانت رديئة للغاية، لكن منذ ذلك الوقت أصبح الذكاء الاصطناعي أفضل كثيرا في كتابة القصص، وأظن أنه قريبا سيصبح من الصعب التمييز بين ما كتبه إنسان وما أنتجه الذكاء الاصطناعي".

حتى مجلة "إندكس أون سنزور شيب" (Index on Censorship) خُدعت بشخصية وهمية تُدعى مارغو بلانشارد، التي نشرت مقالات عن الصحافة في غواتيمالا، وكانت مجلات كبرى مثل "وايرد" و"بيزنس إنسايدر" ضحية للمحتوى نفسه أيضا.

تظهر هذه الوقائع أن الأخلاقيات الصحفية لا تُختبر فقط على الورق، بل على أرض الواقع، وأن الصحفيين بحاجة إلى الجمع بين الضمير الفردي، والفضيلة الرقمية، والنهج البراغماتي لمواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي.

مصدر الصورة الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تقنية، بل أصبح يوجه حياتنا اليومية ويُؤثر بعمق على ما نراه ونفكر فيه. (غيتي)

التأثير المستقبلي للذكاء الاصطناعي على الصحافة

يرى الكاتب والباحث الأميركي، توبياس روز- ستوكويل أن الصحافة الحقيقية لن تختفي، لكنها ستتعرض لاضطراب كبير بسبب إنتاج المحتوى في الوقت الفعلي، مما يزيد الأكاذيب الفيروسية والفوضى المعلوماتية.

وفي كتابه "آلة الغضب" (Outrage Machine -2023) يشرح ستوكويل كيف أن صعود وسائل التواصل الاجتماعي في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة كان نتيجة الخوارزميات التي تنظم المعلومات وفق مصالح تجارية.

حيث كانت المنشورات تعرض سابقا بترتيب زمني، لكن لاحقا غيرت شركات مثل "فيسبوك" و"إكس" و"تيك توك" ترتيب المحتوى باستخدام خوارزميات مدعومة بالذكاء الاصطناعي تعتمد على تعلم الآلة (ML) الذي يحلل سلوك المستخدمين وتفاعلاتهم، ليُبقيهم مندمجين عاطفيا لفترة أطول.

ويقول روز ستوكويل "هذه الخوارزميات أفضل من أي إنسان في تنسيق المحتوى، بل يمكنها إنشاء صحيفة أو قناة تلفزيونية خاصة بكل فرد".

من جهته، يرى توماش هولانك، المتخصص في أخلاقيات التكنولوجيا بجامعة كامبريدج، أن "الذكاء الاصطناعي يغير الصحافة بسرعة، ومع تطوره ليبدو المحتوى الذي ينتجه أكثر أصالة، سيصبح من الصعب اكتشاف المواد المزيفة".

إعلان

ويضيف أن المؤسسات مثل وكالة "أسوشيتد برس" تسمح للصحفيين بتجربة أدوات الذكاء الاصطناعي، لكنها تحظر نشر نصوص مولدة آليا مباشرة.

ويقول "الأهم في هذه القواعد أنها تعترف بالذكاء الاصطناعي كأداة جديدة، لكنّها تذكر بأن الصحافة تمتلك بالفعل آليات المساءلة".

كما انتقد هولانك النغمة المثيرة التي يتناول بها الصحفيون موضوع الذكاء الاصطناعي، معتبرا أنها تخلق فهما عاما مشوها وتؤثر سلبا على النقاشات السياسية.

بين المساءلة والتحقيق النقدي البشريّ

تؤكد الباحثة القانونية والأنثروبولوجية الكندية بيترا مولنار أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تقنية، بل أصبح يوجه حياتنا اليومية ويُؤثر بعمق على ما نراه ونفكر فيه.

وتدعو مولنار إلى حملات توعية عامة تجعل دوره في الأخبار والسياسة مرئيا وقابلا للتتبع، مشيرة إلى أن شركات كبرى مثل "ميتا" و"إكس" و"أمازون" و"أوبن إيه آي" أصبحت "حُرّاسا عالميين للمعلومات"، يمتلكون القدرة على تضخيم بعض الأصوات وإسكات أخرى، مما يعزز التفاوتات القائمة.

وفي كتابها "للجدران عيون: النجاة من الهجرة في عصر الذكاء الاصطناعي" (The Walls Have Eyes: Surviving Migration in the Age of Artificial Intelligence- 2024)، تكشف مولنار كيف تُستخدم التقنيات الرقمية لمُراقبة اللاجئين والنشطاء والمعارضين السياسيين.

وتؤكد أن الذكاء الاصطناعي يهدد بتسريع انهيار الصحافة عبر تفضيل السرعة والتفاعل على حساب الدقة والعمق، وقد ينتج محتوى يشبه الصحافة لكنه يفتقر إلى المساءلة والتحقيق النقدي.

ويشدد خبراء آخرون مثل سام تايلور ولورا ديفيسون من اتحاد الصحفيين الوطني البريطاني، على أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يُستخدم فقط كأداة مساعدة تحت إشراف بشري، إذ يتيح أتمتة المهام الروتينية وتحليل البيانات الضخمة، لكنه غير قادر على التحقق من الحقائق بدقة ويُعاني أحيانا من ظاهرة "الهلوسة المعلوماتية".

وتخلص مولنار إلى أن مستقبل الصحافة يعتمد على الصحفيين البشر القادرين على التحقيق والتدقيق الصارم، أي على حكم إنساني نقدي وأخلاقي مدعوم بالتقنية، لا بدلا منها.

مصدر الصورة الصحافة ليست مجرد نقل معلومات، بل واجب أخلاقي ووجودي يحمي المجتمع من الطغيان والكذب. (غيتي)

الصحفي والآلة.. معركة الحقيقة

قد يتساءل كثيرون اليوم "هل يشكل الذكاء الاصطناعي خطرا حقيقيا على مستقبل الصحافة والصحفيين؟ لا يمكن إنكار أن الآلات قد تغيّر طريقة إنتاج المحتوى، وتزيد من سرعة الانتشار، وربما تقلل من الحاجة للعنصر البشري في بعض المهام، لكن جوهر الصحافة -البحث عن الحقيقة ومواجهة التزييف والتحيزات- لا يمكن أن يُستعاض بالتقنية.

والصحفي النزيه يظل خط الدفاع الأول عن الحقيقة، وقد يكون ثمن التمسك بها أغلى ما يملك، حياته. فمنذ طوفان الأقصى، شهد العالم اغتيال 254 صحفيا فلسطينيا في غزة على يد الاحتلال الإسرائيلي، جميعهم رفضوا التوقف عن نقل الحقيقة رغم المخاطر المحدقة بهم.

ومن بين هؤلاء، مراسل قناة الجزيرة الصحفي أنس الشريف الذي ترك وصيته مؤكدا "لم أتوان عن نقل الحقيقة وأموت ثابتا على المبدأ. إن وصلتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي. يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من قوة وجهد لأكون سندا وصوتا لأبناء شعبي".

وهي تذكرة للجميع بأن الصحافة ليست مجرد نقل معلومات، بل واجب أخلاقي ووجودي يحمي المجتمع من الطغيان والكذب.

حتى مع تطور الذكاء الاصطناعي، تظل القيم الأخلاقية، والضمير الفردي، والفضيلة المهنية، والرقابة البشرية وحدها قادرة على ضمان أن تبقى الصحافة صوت الحقيقة وسيفها القاطع.

المستقبل الصحفي ليس منافسة مع الآلة فحسب، بل تمسك بالمبادئ التي تجعل من الصحافة سلطة أخلاقية تحرر المجتمع، وتضمن استمرار مهمة مواجهة السلطة عبر البحث عن الحقيقة، مهما كان الثمن.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار