لا شك في أن إطلاق " شات جي بي تي " في أواخر عام 2022 ساعد في بدء موجة الذكاء الاصطناعي التوليدي.
ومنذ ذلك الحين، استخدم الأشخاص روبوت الدردشة لكل شيء، من البرمجة إلى جلسات العلاج البديل، إذ تحول من مجرد أداة تقنية إلى رفيق يومي لملايين المستخدمين حول العالم.
ومع ظهور نماذج متطورة مع مزايا صوتية تحسن محاكاة الطرق التي يتواصل بها البشر، أصبح هناك إمكانية أكبر لتشكيل علاقات شبه اجتماعية مع روبوتات الدردشة هذه.
ووسط هذا التفاعل المتزايد، تبرز تساؤلات جوهرية عن تأثير هذا الذكاء الاصطناعي في الصحة النفسية والاجتماعية لمستخدميه، وخصوصا مع تعمق الارتباط العاطفي به.
في الأشهر الأخيرة، كانت هناك مخاوف متجددة بشأن الأضرار العاطفية المحتملة لروبوتات الدردشة، وخاصة بين المستخدمين الأصغر سنا وأولئك الذين يعانون من مشاكل الصحة العقلية.
ونتيجة لذلك، كشفت " أوبن إيه آي " عن نتائج دراسة حديثة أجرتها بالشراكة مع مختبر الوسائط في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" لمعرفة إذا كان قضاء وقت طويل مع "شات جي بي تي" يزيد الشعور بالوحدة.
وركز فريق البحث على استكشاف الجوانب العاطفية للتفاعل مع "شات جي بي تي" من خلال مراقبة مئات المشاركين الذين استخدموا روبوت الدردشة في أنشطة متنوعة.
تناولت مراجعة استقصائية دور الروبوتات الاجتماعية والوكلاء الحاسوبيين في الحد من الشعور بالوحدة لدى كبار السن.
وأوضحت المراجعة وجود أثر إيجابي من خلال توفير الرفيق، وتشجيع التفاعل الاجتماعي، وتسهيل التواصل عن بعد، وتذكير المستخدمين بالأنشطة الاجتماعية. ومع ذلك، لوحظت بعض النتائج السلبية، مثل الشعور بالحزن عند إزالة الروبوت.
وفي حين تبدو الروبوتات مفيدة في الحد من الشعور بالوحدة، فإن الأبحاث حول دور الوكلاء الحاسوبيين محدودة.
أجابت "أوبن إيه آي" و "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" عن هذا السؤال من خلال دراستين، حيث حللت الدراسة الأولى استخدام الناس العفوي لروبوت الدردشة في الحياة اليومية.
في حين تابع الباحثون في الدراسة الثانية نحو ألف شخص على مدار 4 أسابيع يتفاعلون مع "شات جي بي تي" كل يوم 5 دقائق على الأقل من خلال الوضع الكتابي أو الوضع الصوتي مع نبرة محايدة أو عاطفية.
وأوضحت النتائج الرئيسية أن معظم مستخدمي "شات جي بي تي" لا يستخدمونه للحديث عن المشاعر، حيث كانت الغالبية العظمى من التفاعلات عملية، مثل طرح الأسئلة أو الحصول على المساعدة أو حل المشكلات.
في حين كانت المحادثات العاطفية، مثل مشاركة القصص الشخصية أو البحث عن الراحة، نادرة وتقتصر في الغالب على مجموعة صغيرة من المستخدمين.
ولكن ضمن هذه المجموعة الصغيرة، كانت الروابط العاطفية قوية، وكان من المرجح أن يشارك المستخدمون المشاعر الشخصية، أو يطلبوا الدعم العاطفي.
من خلال مقارنة مستوى الوحدة في بداية الدراسة ونهايتها، شعر الأشخاص الذين استخدموا "شات جي بي تي" أحيانا بالوحدة، وخاصة أولئك الذين يستخدمون الوضع الصوتي مع نبرة عاطفية.
وبدأ أولئك الذين استخدموه بشكل كبير، وخاصة كل يوم، بالإبلاغ عن المزيد من الشعور بالوحدة، واعتماد أكبر عاطفي، وتفاعل اجتماعي أقل مع أناس حقيقيين.
وترتبط العلاقة بين مستويات التفاعل الاجتماعي للمشاركين بوقت استخدام روبوت الدردشة، إذ يميل المشاركون الذين لديهم تفاعل اجتماعي أقل في البداية إلى استخدام "شات جي بي تي" أكثر.
واستخدم أولئك الذين أفادوا بانخفاض شعورهم بالتواصل الاجتماعي في بداية الدراسة روبوت الدردشة لفترات أطول خلال الأسابيع الأربعة.
وارتبطت مدة الاستخدام الطويلة بالمزيد من التراجع في التفاعل الاجتماعي، وكلما زاد الوقت الذي قضاه المشاركون مع روبوت الدردشة، زاد احتمال انخفاض التفاعل الاجتماعي.
وأظهر المشاركون الذين بدؤوا بمستوى تفاعل اجتماعي ضعيف تحسنا في بعض الأحيان، وأفاد أولئك الذين حصلوا على درجات تفاعل اجتماعي أولية عالية غالبا بانخفاض في أدائهم.
زادت المحادثات حول المواضيع الشخصية الشعور بالوحدة، ولكن المستخدمين كانوا أقل عرضة للاعتماد العاطفي على روبوت الدردشة.
وكان أولئك الذين تحدثوا في الغالب عن مواضيع غير شخصية، مثل العصف الذهني أو المهام الإنتاجية، أكثر عرضة للاعتماد، وخاصة إذا كانوا يستخدمون روبوت الدردشة بكثافة.
وأبلغ المستخدمون الذين يميلون إلى تكوين علاقات عاطفية بسهولة عن آثار سلبية، مثل الاعتماد العاطفي والانسحاب من التفاعل الاجتماعي في الحياة الواقعية.
ويعني ذلك أن السمات الشخصية تلعب دورا مهما في تشكيل كيفية تأثر الأفراد بالتفاعلات مع روبوتات الدردشة.
وكانت النساء أكثر عرضة من الرجال لانخفاض التفاعل الاجتماعي مع الأشخاص الحقيقيين بعد 4 أسابيع من التفاعل مع روبوتات الدردشة.
كما أثر العمر بشكل كبير في النتائج، حيث أظهر المشاركون الأكبر سنا ميلا أكبر نحو الاعتماد العاطفي على روبوتات الدردشة.
من خلال مزيج من التحليلات، حددت الدراسة 4 أنماط مميزة من تفاعلات الإنسان مع روبوت الدردشة:
١- النمط الضعيف اجتماعيا: ارتفاع مستويات الوحدة ومحدودة التفاعل الاجتماعي في الحياة الواقعية.
٢- النمط المعتمد على التكنولوجيا: الاعتماد العاطفي العالي على روبوت الدردشة.
٣- النمط غير العاطفي: انخفاض التفاعل العاطفي مع روبوت الدردشة وانخفاض مستويات الوحدة وارتفاع مستويات التفاعل الاجتماعي في الحياة الواقعية.
٤- النمط العابر: التفاعل مع روبوت الدردشة من حين لآخر دون ارتباط عاطفي قوي.
ويساعد إدراك هذه الأنماط في تحديد المستخدمين الذين قد يكونون أكثر عرضة لخطر التأثيرات النفسية والاجتماعية السلبية وتصميم حماية أفضل أو أنظمة الدعم وفقا لذلك.
تشير النتائج إلى أن الفائدة تقل مع تكرار الاستخدام، حيث يخفف روبوت الدردشة الشعور بالوحدة في البداية، ولكنه يزيد العزلة والاعتماد العاطفي مع الوقت.
وبالرغم من أن "شات جي بي تي" قد يبدو مؤنسا، فإن هناك فرقا كبيرا بين التحدث إلى روبوت الدردشة والتحدث إلى إنسان، إذ يفرز الجسم أثناء التواصل البشري "الأوكسيتوسين" (Oxytocin)، وهو هرمون مرتبط بالثقة والعاطفة، في حين لا يحدث ذلك أثناء التفاعل مع روبوت الدردشة.
وبمعنى آخر، يستطيع روبوت الدردشة محاكاة التعاطف دون أن يشعر به، ودون أن يحتاج منك إلى رد فعل مماثل.
ختاما، بالرغم من المزايا التي يقدمها "شات جي بي تي" في تسهيل المعرفة وتعزيز الإنتاجية، فإنه لا يمكن للتكنولوجيا مهما بلغت من التطور أن تحل محل العلاقات الإنسانية أو تسد الفجوات العاطفية العميقة، حيث يجب الاستفادة من التكنولوجيا دون أن نسمح لها بإضعاف روابطنا الإنسانية.