نظّمت وكالة تونس إفريقيا للأنباء، اليوم السبت 3 ماي الموافق لليوم العالمي لحرية الصحافة، ندوة حوارية فكرية ضمن فعاليات الدورة 39 لمعرض تونس الدولي للكتاب (25 أفريل – 4 ماي 2025)، تمحورت حول دور الوكالة في نشر ثقافة الكتاب، وناقشت في محورها الثاني التحديات الراهنة التي يواجهها الإعلام الثقافي في ظل التحولات الرقمية وسطوة الشبكات الاجتماعية.
وقد أثث هذا اللقاء ثلة من الفاعلين في المشهد الإعلامي والثقافي، من بينهم الدكتور الصادق الحمامي، الباحث في علوم الإعلام والاتصال ومدير معهد الصحافة وعلوم الإخبار، والدكتور نور الدين الحاج محمود الكاتب والناشر النوري عبيد، نائب رئيس مجمع مهنيي الكتاب ومؤسس دار محمد علي الحامي للنشر، إلى جانب وداد بن محمد، المكلفة بالإعلام والاتصال بدار سيراس للنشر.
استهل الباحث الصادق الحمامي مداخلته بملاحظة فكرية فلسفية عكست جوهر الرؤية التي انطلق منها، مفادها أن علاقة الأفراد والمجتمعات بالكتاب تعد مؤشرا على مدى تطورها الحضاري. وأوضح أن الشغف بالمعرفة هو أحد أعمدة المجتمعات الحديثة، مؤكدا أن “لا معرفة بلا حرية، فحرية الفكر والتعبير هي القاعدة التي تُبنى عليها كل ممارسة معرفية”. وفي هذا الإطار، اعتبر أن المجتمعات التي تُهمل الكتاب والثقافة غالبا ما تكون مجتمعات براغماتية تضع الاستهلاك في صدارة أولوياتها.
وانتقل الحمامي إلى النقطة الجوهرية في مداخلته، وهي التحديات التي يطرحها الذكاء الاصطناعي على صناعة الكتاب والإعلام، حيث شدّد على أن هذه التكنولوجيا تمثل تحوّلا نوعيا في طبيعة الفعل الثقافي ذاته. واستشهد بحالة كتاب صدر حديثا بالتعاون بين فيلسوف وأداة ذكاء اصطناعي وهو أول عمل من نوعه يُترجم إلى عدة لغات دون أن يوقّعه المؤلف البشري الذي فضّل أن يُنسب الإنجاز إلى الذكاء الاصطناعي ذاته.
وأشار إلى أن ظاهرة “الكتاب الهجين”، أي المؤلفات الناتجة عن تفاعل الإنسان والآلة بدأت تفرض نفسها على النشر، قائلا إن بعض الناشرين شكّكوا في أصل بعض الكتب وتبيّن لاحقا أنها من إنتاج برامج الذكاء الاصطناعي. وهو ما يطرح إشكاليات جذرية تتعلق بالحقوق الفكرية ومصداقية النشر ومفهوم التأليف.
وتوقّف الحمامي عند ملاحظة مفاهيمية حين انتقد الخلط بين الصحافة والاتصال، معتبرا أن مصطلح الإعلام “فضفاض ومخادع لأنه يُذيب الحدود بين مهمتين مختلفتين جوهريا: إخبار الجمهور والتأثير فيه”. وقال: “أخطر ما يهدد الصحافة هو أن تتحول إلى وظيفة اتصالية”، مضيفا أن الصحافة يجب أن تُبنى على الإخبار والتحقيق والاستقصاء لا على إعادة بث البلاغات الرسمية أو البيانات الجاهزة”.
وفي سياق حديثه عن الوكالة، دعا الحمامي إلى تجاوز دورها التقليدي في التعريف بالمنتجات الثقافية نحو تبني مقاربات أكثر عمقا تقوم على الاستقصاء والمتابعة النقدية للحياة الفكرية. كما أكد أن الوكالة بصفتها مؤسسة صحفية عمومية مطالبة بأن تقدّم تغطيات صحفية مهنية لا تقتصر على الخبر السطحي وإنما تشمل التحقيقات والحوارات والمتابعات التحليلية. وشدد على أن الصحافة “ليست محلّية في معاييرها”، بل تعتمد على قواعد كونية أساسها السعي إلى الحقيقة.
واعتبر الحمامي أن وكالة الأنباء تمرّ اليوم بمنعطف حاسم يتمثل في الحاجة إلى “إعادة ابتكار” نفسها كمؤسسة صحفية قادرة على جذب الجمهور خاصة فئة الشباب التي أصبحت في قطيعة شبه تامة مع الإعلام التقليدي. وأوضح أن التحول الرقمي لا يقتصر على إدماج الأدوات التكنولوجية وإنما يجب أن يترافق مع تجديد في المضامين والأشكال الصحفية وإعادة التفكير في طرق تقديم المعلومة وتجربة الجمهور.
وفي ختام مداخلته، نوّه الحمامي بأهمية الجلسات الفكرية التي تنظمها الوكالة، معتبرا أنها تمنح الفرصة للأصوات الخارجية لتقييم أدائها وهو ما يعدّ علامة صحية على انفتاح المؤسسة على النقد الذاتي.
من جهته، تناول الدكتور نور الدين الحاج محمود المسألة من زاوية أوسع، معتبرا أن الرقمنة قلبت قواعد اللعبة الاتصالية ودفعت نحو ما وصفه بـ”المعركة الرقمية الشرسة”. وأكد أن ما نعيشه اليوم هو عصر التضليل والانحراف الإعلامي، مشددا على أهمية المؤسسات العمومية، وعلى رأسها وكالة تونس إفريقيا للأنباء، في ترسيخ ثقافة مضادة مبنية على التحقيق والتوثيق والدقة.
كما دعا الحاج محمود إلى الاستثمار الجدي في الصناعات الإبداعية، معتبرا أن الكتاب هو أحد أعمدتها الأساسية وأن النهوض بهذا القطاع لا يتم دون إشراك فعّال للمؤسسات الإعلامية في عملية التعريف به وإبرازه ضمن أولوياتها التحريرية.
أما الناشر النوري عبيد، فقد سلط الضوء على إشكالية العلاقة المضطربة بين الإعلام والنشر، معتبرا أن غياب التشريعات المنظمة هو السبب في استمرار هذه الفجوة. وأكد على ضرورة وضع إطار قانوني واضح يحدد أدوار كل طرف. واقترح صياغة “ميثاق عمل مشترك بين وسائل الإعلام العمومية واتحاد الناشرين”، يكرس الاعتراف بالكتاب كمنتج ثقافي وليس تجاريا.
كما دعا عبيد إلى دعم الإعلام الثقافي الجهوي، مشيرا إلى أن أغلب النشر والاهتمام بالكتب يتركّز في العاصمة مما كرّس التفاوت وحدّ من التعدد الثقافي، على حد تعبيره.
وفي مداخلتها، اعتبرت وداد بن يحمد، مسؤولة الإعلام والاتصال بدار سيراس للنشر، أن التداخل بين الصحافة والاتصال في مجال النشر “أمر مقبول” حين يكون الهدف هو الترويج للمنتوج الثقافي. ولفتت إلى أن دور الإعلام لا يقتصر على تقديم أخبار حول الكتب وإنما يشمل أيضا نشر المقالات النقدية والدراسات المعمقة، مؤكدة أن بعض المؤسسات الإعلامية وعلى رأسها “وات” تقوم بهذا الدور بفعالية رغم محدودية الموارد.
وأشارت بن يحمد إلى أن دور الصحافة يجب أن يتطور ليشمل التفاعل المباشر مع الناشرين، مشددة على أن صناعة الرأي الثقافي تبدأ من التغطية الإعلامية الجادة.
وأجمع المتدخلون كل من زاويته، على أن الإعلام الثقافي في تونس يقف اليوم عند مفترق طرق حيث لا يمكن فصله عن التحديات التقنية والتحولات المجتمعية والرهانات الاقتصادية والفكرية. وقد شددوا على أن وكالة تونس إفريقيا للأنباء مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى لعب دورها كاملا كمؤسسة صحفية مهنية مستقلة تخبر وتحقق وتتابع المشهد الثقافي.
المصدر : وات