في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بيروت- بين هدنة متآكلة وواقع ميداني آخذ في التشكل، يشهد جنوب لبنان تبدلا في قواعد الاشتباك ، بعدما تحول اتفاق وقف إطلاق النار و القرار 1701 من مظلة تهدئة دولية إلى أداة ضغط تدار وفق الرؤية الإسرائيلية التي تتعامل معه كإطار مرن يسمح بإعادة هندسة البيئة الجنوبية وتغيير موازين القوة على الأرض، دون الحاجة إلى حرب مفتوحة.
وبدأت الخروقات الإسرائيلية، عقب انتهاء الحرب الأخيرة، بشكل محدود قبل أن تتسع تدريجيا لتتخذ طابعا ممنهجا، تُطوّع نص اتفاق وقف إطلاق النار لصالح ما تسميه إسرائيل "حرية الحركة" مستندة إلى تفسير أحادي موسع لمفهوم تهديد أمنها.
وبمرور الوقت، تجاوزت إسرائيل سياسة الردع التقليدية إلى إستراتيجية ميدانية بفرض وقائع جديدة على الأرض، عبر توسيع نطاق استهدافاتها ليشمل القرى الجنوبية ومحيطها وحتى مناطق في البقاع، واستهداف مواقع تصنفها بوصفها "مصادر تهديد محتملة".
وبموازاة التصعيد الميداني، تلوح إسرائيل بالعودة لعمليات عسكرية واسعة، ما لم تنفذ عملية نزع سلاح حزب الله وفقا لشروطها ومعاييرها الخاصة.
غير أن المنعطف الأبرز كان وقت استهداف إسرائيل دورية تابعة لقوات الأمم المتحدة المؤقتة ( يونيفيل ) الأحد الماضي، واحتجزت عناصرها تحت النيران لأكثر من نصف ساعة. ومثل الاستهداف -حسب مراقبين- تحولا نوعيا ليس فقط في السلوك العسكري بل طبيعة التعاطي مع اتفاق وقف إطلاق النار والقرار 1701.
ومع غياب رد عسكري مقابل، تراكمت الخروقات وتحوّلت إلى واقع فعلي يعيد رسم الحدود والتوازنات على الأرض، في ظل عجز داخلي لبناني وانكفاء دولي عن فرض الالتزام بالاتفاق، بينما لا تزال إسرائيل تحتفظ بـ5 تلال لبنانية ومناطق أخرى منذ عقود.
وسياسيا، برزت محاولات لبنانية لاحتواء التصعيد عبر مسار دبلوماسي قاده رئيس الجمهورية جوزيف عون الذي استقبل السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى في القصر الجمهوري، أمس الاثنين، قبل أن ينطلق الأخير في جولة بروتوكولية شملت كبار المسؤولين دون أي مواقف معلنة.
وأصبح السفير الجديد مسؤولا عن متابعة الملف اللبناني سياسيا، في حين اقتصر دور مورغان أورتيغوس على لجنة "الميكانيزم" المرتبطة بمراقبة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار.
ومع اشتداد التوتر، أعلن الرئيس عون استعداد لبنان للدخول في مفاوضات مع إسرائيل بهدف تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار ووقف الضربات، لكن المبادرة لم تلقَ تجاوبا من إسرائيل، لا سيما بعد القرار الحكومي في أغسطس/آب القاضي بالشروع في خطة من 5 مراحل لنزع سلاح حزب الله ، وهي خطوة رفضها الحزب بشدة واعتبرها "خطأ جسيما" يمس جوهر المعادلة الداخلية.
وفي السياق، دعا الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، الحكومة اللبنانية إلى وقف ما وصفه بـ"التنازلات المجانية" مؤكدا أن كل المبادرات ومنها خطة الجيش لحصر السلاح، والاستعداد للتفاوض، ومبادئ الورقة الأميركية، لم تُقابل بضمانات إسرائيلية أو أميركية، مؤكدا أن ما يجري "عدوان ممنهج يستهدف عناصر قوة لبنان عسكريا واقتصاديا وسياسيا، ولا يستثني أحدا، لا الدولة ولا الجيش ولا حتى قوات اليونيفيل".
وأمام هذا الواقع، يبقى اتفاق وقف إطلاق النار قائما شكليا لكنه مهدد جوهريا، في انتظار لحظة حاسمة: إما تثبيته بضمانات دولية واضحة، وإما تجاوزه نحو قواعد اشتباك جديدة تُكتب بالنار لا بالنصوص.
مشاهد توثق اللحظات الأولى عقب استهداف سيارة بغارة إسرائيلية في بنت جبيل بقضاء النبطية جنوب لبنان#فيديو pic.twitter.com/Db1eUpz4I2
— قناة الجزيرة (@AJArabic) November 18, 2025
ويرى المحلل السياسي والكاتب الصحفي جورج عاقوري أن وتيرة الاستهدافات ونوعية الأهداف ورقعتها شهدت توسعا ملحوظا خلال الأسابيع الأخيرة، مما يشير إلى أن عامل الوقت لم يعد في صالح لبنان، وأن الأمور تتصاعد نحو حافة الانهيار.
ويؤكد عاقوري في حديثه للجزيرة نت "إننا اليوم أمام مرحلة الوقت (القاتل) لا (الضائع)" مشيرا إلى أن المناخ الذي يقلق إسرائيل -من ضربات ومناورات إلى مواقف سياسية- يعكس وضعا غير مستقر، ويزيد من احتمال الانزلاق نحو حرب واسعة تتجاوز مفهوم الضربات المحدودة التي نعاينها اليوم.
ويشير إلى أن هذا الأسلوب لم يأتِ بجديد، فقد تكرر سابقا قبل هجوم " البيجر " عام 2023، حين تراكمت الأحداث تدريجيا حتى اندلاع الحرب، أما الهدف المعلن لإسرائيل اليوم فهو القضاء على أي قدرة قتالية لحزب الله شمال وجنوب نهر الليطاني ، وإزالة ما تعتبره مخاطر، حتى وإن كانت ضئيلة، وهو هدف لا تخفيه إسرائيل.
ويضيف أن بقاء سلاح الحزب وتفاوت المواقف بين الحديث أحيانا عن شمال الليطاني، وعن شماله وجنوبه، يساهم في حالة الارتباك القائمة، مبينا أن هذه التهديدات تحمل أبعادا سياسية واضحة، فحتى في حال تصعيد ميداني محتمل فإن الهدف النهائي يُفترض أن يكون سياسيا، مع استثمار أي خطوة على الأرض لتحقيق مكاسب دبلوماسية.
ويخلص عاقوري إلى أن جميع السيناريوهات تظل مفتوحة على المدى القريب، وهو ما يثير قلق اللبنانيين و المجتمع الدولي والدول الصديقة للبنان، والتي كثّفت تحركاتها الدبلوماسية عبر وفود متعددة إلى بيروت حاملة رسائل تحذيرية واضحة من أن معالجة ملف سلاح حزب الله تسير ببطء غير متوافق مع سرعة المتغيرات في المنطقة.
من جانبه، يرى المحلل السياسي قاسم قصير أن الوضع في لبنان يظل مفتوحا على جميع الاحتمالات، ويشير إلى أن حزب الله يعتمد في سياساته على الغموض والصمت، لكنه يستعد بالمقابل لكل السيناريوهات خصوصا حال أقدمت إسرائيل على عدوان واسع أو صعّدت عملياتها العسكرية ضد لبنان.
وأضاف للجزيرة نت "كل شيء وارد من جانب العدو الإسرائيلي" مؤكدا أن المنطقة تمر بمرحلة تصعيد متواصل، حيث تنفذ إسرائيل غارات بين فترة وأخرى، لافتا إلى مؤشرات تقول إنها قد تؤجل أي تصعيد كبير حتى بعد زيارة الفاتيكان بابا ليو الـ14 إلى لبنان تفاديا لأي تأثير على الزيارة، مع الإشارة إلى أن هذه الحسابات تبقى افتراضية.
وشدد قصير على أن جميع الاحتمالات قائمة، لا سيما في ظل غياب أي ردع واضح من الولايات المتحدة أو قبولها بما تقوم به إسرائيل حاليا.
وأوضح أن العمليات الإسرائيلية مستمرة، سواء كانت محدودة أو واسعة، كما حصل قبل أسبوعين حين قصفت عدة قرى جنوبية، مؤكدا أن من الصعب التكهن بما إذا كانت ستنتقل إلى مرحلة عدوان شامل في ظل عدم وجود أي قيود على تحركاتها في الوقت الراهن.
ومن منظور عسكري، يرى العميد الركن والخبير الإستراتيجي هشام جابر أن الحديث عن "عدوان واسع" على لبنان يحتاج إلى تعريف دقيق، فإسرائيل -بتقديره- لن تُقدم على اجتياح بري شامل لما يحمله من كلفة ميدانية وبشرية عالية، ولأن خطوة كهذه قد تدفع حزب الله لاستخدام ما تبقّى لديه من قدرات صاروخية ومُسيّرات لاستهداف عمق الشمال الإسرائيلي.
ويوضح جابر للجزيرة نت أن نحو 60 ألف مستوطن نزحوا سابقا من بلدات الجليل الأعلى شمال فلسطين المحتلة عادوا مؤخرا إلى منازلهم، لكن أي هجوم صاروخي جديد لحزب الله على المطلة و" كريات شمونة " والمناطق المحيطة قد يدفعهم للنزوح مجددا، وربما إلى مغادرة نهائية لمستوطناتهم، مما سيُعدّ نكسة كبيرة وفشلا سياسيا وأمنيا للحكومة الإسرائيلية.
ويضيف أن النقاش داخل المؤسسة العسكرية والسياسية في إسرائيل يشهد تباينا واضحا بين تيار يدفع نحو عملية عسكرية واسعة تستمر عدة أيام دون اجتياح بري، وبين اتجاه آخر يفضل توسيع دائرة بنك الأهداف لتشمل مواقع اقتصادية وعسكرية في الشمال و البقاع وحتى الضاحية الجنوبية في بيروت، في إطار ضربات انتقائية محسوبة، بعيدا عن استهداف البنى التحتية اللبنانية الرسمية كالمطارات والجسور ومحطات الكهرباء.
ويرجح جابر أنه بعد انتهاء الزيارة الرسمية التي يقوم بها "الحبر الأعظم" إلى لبنان، ستجد إسرائيل نفسها أمام استحقاق اتخاذ قرار عملي، إذ إن التهديدات المتكررة فقدت جزءا من مصداقيتها إذا لم تُترجم ميدانيا، وبناء عليه قد تنفذ إسرائيل عملا عسكريا محدودا يعيد تثبيت قوة الردع دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة كتلك التي لوّحت بها على مدى الأشهر الماضية.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة