أسس زهران ممداني، عمدة نيويورك الجديد، جزءاً كبيراً من حملته الانتخابية على الطعام، وتبنّي فكرة إبراز ما أُطلق عليه "الجواهر الخفية" في المناطق الأقل شهرة بالمدينة، من خلال إعادة تشكيل الطريقة التي يأكل بها السكان والمسافرون.
ومن المرجح أن يفضي الفوز التاريخي لممداني في انتخابات رئاسة بلدية مدينة نيويورك إلى حدوث تحولات عديدة في أكبر مدينة أمريكية وأكثرها جذباً للسائحين. وعلى الرغم من ذلك، وقبل أن يتسلم منصبه رسمياً، كان صعوده اللافت قد بدأ بالفعل في إعادة تشكيل مشهد المأكولات في المدينة، ومن المرجح أن تشهد السنوات الأربع المقبلة تشجيعاً للسكان والسائحين على اكتشاف أحياء جديدة واعتماد جرأة أكبر في اختياراتهم الغذائية.
ولطالما اعتمد ممداني على حبه للطعام كوسيلة للتواصل مع سكان نيويورك، فقبل دخوله معترك السياسة، كان يعمل مغنياً للراب تحت اسم "مستر كاردموم"، كما صور مقطعاً موسيقياً مع أسطورة المطبخ الهندي مادهور جافري داخل أحد مطاعم الكباب في منطقة كوينز.
وفي عام 2020، خاض انتخابات مجلس ولاية نيويورك تحت شعار "روتي والورود"، ومنذ إعلانه الترشح لمنصب رئيس بلدية نيويورك قبل عام، نفذ حملته داخل متاجر "بودغاز" في برونكس، واصطحب مسؤولين إلى مطعم أفغاني في أستوريا، كما نظم مسابقة استكشافية على مستوى المدينة وانتهت في مقهى شرقي يفضله، واستمر في الترويج لـ "الجواهر الخفية" التي تديرها عائلات في الأحياء خارج المدينة، حيث نادراً ما يزور السائحون تلك الأحياء.
وبهذه الخطوات، يضع ممداني المطاعم المتواضعة غير المعروفة على خارطة الاهتمام، وهي مطاعم تقع، فعلياً ومجازياً، بعيداً عن أكثر وجهات الطعام رواجاً في المدينة، كما يرسم تبايناً صارخاً بينه وبين سلفه إريك آدامز، الذي اعتاد ارتياد مطاعم فاخرة ذات طابع الأندية مثل "أوسنريا لا بايا" في ميدتاون و"كاسا سيبرياني" في ذا باتري.
وتقول ميليسا مكارت، محررة مجلة "إيتر نيويورك"، إن ممداني "هو المرشح الأقل حظاً والذي ظهر من العدم وأصبح لا يُقهر، مسلطاً الضوء على المطاعم الأقل شهرة التي لا تمتلك ميزانيات ضخمة، وتواصل الصمود رغم صعوبة ممارسة الأعمال في نيويورك مقارنة بأي وقت مضى".
وأضافت: "في الوقت الذي كان يذهب فيه آدامز إلى نادي العضوية الخاص (زيرو بوند)، كان هو (ممداني) يذهب إلى الأحياء خارج المدينة، وأصبح نجاحه لافتاً، وترشيحاته للمطاعم باتت مؤثرة".
كان ممداني، قبل بضعة أشهر فقط، شخصية مجهولة نسبياً، وقد صوّره معارضوه - من بينهم آدامز، وحاكم نيويورك السابق أندرو كومو، ومؤخراً الرئيس ترامب - على أنه ديمقراطي اشتراكي يبلغ من العمر 34 عاماً، غير متمرس ومفرط في الراديكالية بحيث لا يصلح لقيادة أكبر مدينة في الولايات المتحدة، مُخصص لها ميزانية تبلغ 116 مليار دولار وتخضع لمتابعة عالمية دقيقة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن جانباً كبيراً من جاذبية ممداني يكمن في تقديم نفسه كمرشح يمثّل الناس، وينعكس ذلك على معظم اختياراته الغذائية، فبدلاً من الظهور في مطاعم نيويورك الراقية التي تُعد وجهات "لا بد من زيارتها"، مثل مطاعم "ذا إيتي سيكس" في ويست فيليدج، أو "كاربون" في سوهو، أو "شاتو رويال" في غرينيتش فيليدج، يفضل الذهاب إلى مطاعم أخرى مثل "كباب كينغ"، وهو مطعم يعمل طوال اليوم في جاكسون هايتس - كوينز، اعتاد الذهاب إليه منذ أيام دراسته الثانوية.
وقالت بريا كريشنا، مراسلة شؤون الطعام في صحيفة "نيويورك تايمز" والتي قامت مؤخراً بكتابة مقال تعريفي بممداني: "إنه يدافع بشكل واضح عن المطاعم التي يحبها، ويكثر من ذكرها، مثل (كباب كينغ) و(سامي كباب هاوس) و (ليتل فلاور كافيه) في أستوريا".
وأضافت: "هو شخص يحب أن يصبح زبوناً دائماً في الأماكن التي يفضلها، ويدعم تلك المشاريع بقوة، وأكثر ما جذب انتباهي هو حبه الكبير للطعام، فعندما قُدّم إليه طبق البرياني في مطعم كباب كينغ، بدأ يأكل بحماس شخص اعتاد هذا الطبق طيلة حياته".
وقال جوناثان فورغاش، مؤسس منظمة "كوينز توجيذر" لدعم المطاعم: "سيجذب ممداني مزيداً من الاهتمام إلى المأكولات التي ستصبح الاتجاه التالي في نيويورك، وأعتقد أنها ستكون المأكولات الإندونيسية والماليزية".
وأضاف فورغاش أن هذين المطبخين يتشاركان في العديد من السمات والمذاق مع المطبخ الهندي وغيره من مطابخ دول جنوب شرق آسيا، وهو مذاق يحظى بالفعل بشعبية كبيرة بين سكان نيويورك.
وقال: "سيأكل في كل مكان. إنه يعشق الطعام ويحب مشاركته، وسنتعلم منه المزيد باستمرار".
كان ممداني قد قدم مؤخراً، في مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع مع ديفيد ريمنيك مراسل صحيفة "ذا نيويورك"ر، قائمته لأفضل ثلاثة مطاعم وأطباق يفضلها، إذ كثيراً ما يختار البرياني في مطعم كباب كينغ وينهي وجبته ببعض ما يعرف باسم "بان (أكلة شعبية هندية)"، كما يحب تناول لحم الغنم المعروف باسم "أدانا لافا (لحم غنم مشوي مفروم يدوياً مع البهارات على خبز مسطح)"، إلى جانب كوب من عصير الليمون والحمص والخبز في مطعم "زيارة" في أستوريا، حيث يقيم مع زوجته.
وهو أيضاً من عشاق طبق يعرف باسم "كوي نور (لحم بقري نيء متبّل وحار)" في مطعم "باي بوت نودل" في أستوريا.
كما أبدى فورغاش إعجابه الكبير باختيار ممداني لطبق "كوي نور" وأضاف: "هذا الطبق يقدمه مطعم باي بوت نودل، وهو غير مدرج على القائمة، ويجب أن تكون على علم به لتتمكن من طلبه. ومعرفته بهذا الطبق دليل واضح على خبرته بالطعام".
وبعد أن كشف ممداني عن ثلاثة أطباق يفضلها في مطاعم في نيويورك، ألقى ريمنيك مزحة قائلاً: "لست متأكداً مما إذا كنت تقدم الدعم لهذه المطاعم أم ستضرها من كثرة الدعاية"، وبالنظر إلى الأمور حتى الآن، يبدو أنه بدون شك يدعم ويساعد تلك المطاعم.
وقال تشيتفول وساسيثورن سيريبوون، مالكا مطعم "باي بوت نودل": "بعد إجراء تلك المقابلة، لاحظنا توافد المزيد من الزبائن، فنادراً ما يذكر المرشحون أماكن محلية خارج مانهاتن. هناك العديد من المتاجر الصغيرة التي تقدم أطعمة من ثقافات متعددة في أنحاء نيويورك. شخص مثله قادر بالتأكيد على إظهار أن المدينة لا تقتصر على المطاعم الكبيرة والفاخرة فحسب".
وقال فراس الزغير، مالك مطعم" زيارة": "بالطبع شهد المطعم زيادة في عدد الزبائن بعد نشر الفيديو، وسيعمل على إعداد المأكولات القادمة من ثقافات متنوعة ومن مختلف دول العالم".
ويعتبر فورغاش أن ممداني شخصية مؤثرة في مجال الطهي، وأضاف: "هؤلاء ليسوا شباباً يتصفحون إنستغرام بحثاً عن طعام البيغل الساخن، هذه مناقشة أوسع مع جمهور أكبر سناً، والمشاهدون لمقابلة صحيفة (ذا نيويوركر) ليسوا على دراية بهذه المأكولات، وهذا يشكل جوهر أهمية القصة، هذا الجمهور من المواطنين سيكتشف الآن هذه الأطعمة، وسيدركون أنها في متناولهم، وسيُقبلون على تجربتها".
ويؤكد فورغاش أن الأمر لا يقتصر على توصيات ممداني الغذائية التي ستجذب الزوار وسكان نيويورك لتجربة أطعمة غير معتادة، بل تشمل ذلك سياساته أيضاً، وأضاف: "حافلات مجانية؟ ما أروع هذه الوسيلة التي تمكّن سكان نيويورك من الانتقال واستكشاف المطاعم مجاناً".
إلا أن بعض الخبراء يحذرون من أنه رغم أهمية حب ممداني للطعام، يجب أن تُترجم سياساته إلى إجراءات فعلية أثناء فترة ولايته، لدعم قطاع يواجه تحديات حقيقية نتيجة ارتفاع تكاليف العمالة والطعام والإيجارات.
وقال أندرو ريجي، المدير التنفيذي لتحالف شركات الضيافة في نيويورك: "جعل (ممداني) الطعام محوراً متكرراً في حملته الانتخابية. لكن بصفته رئيس بلدية، سيحتاج إلى الخبرة والإرادة السياسية اللازمة لاختراق البيروقراطية وتحويل أقواله إلى إصلاحات تنظيمية فعلية تدعم قطاع المطاعم والوظائف، دون الإضرار به من خلال متطلبات أخرى مكلفة".
وأضاف: "إنها معادلة سياسية دقيقة يجب أن يوفّق فيها، إلا أن الطعام يظل وسيلة قوية لتعزيز المجتمعات والاحتفاء بتنوع المدينة، ويجب أن يجعله قضية محورية خلال فترة ولايته".
ولا يمثّل فوز ممداني دعماً للمطاعم العائلية القائمة في الأحياء خارج المدينة فحسب، بل من المحتمل أن يعود بالفائدة على باعة الطعام المتجولين في نيويورك، والكثير منهم من المهاجرين، الذين تعرضوا لمخاوف من عمليات التفتيش التي تقوم بها وكالة الهجرة والجمارك الأمريكية، للتصدي للنظام القديم للتصاريح في المدينة، كما يسعى ممداني إلى إصلاح شامل، يتضمن توسيع نطاق التصاريح لبائعي الطعام المتجولين على مستوى المدينة بأكملها.
ومن بين القضايا التي ركّز عليها ممداني في حملته قضية الحد مما أطلق عليه اسم "(ارتفاع أسعار الأطعمة الحلال) Halalflation" وهو مصطلح ابتكره في فيديو نُشر في يناير/كانون الثاني 2025، استعرض فيه معاناة باعة الطعام المتجولين الذين اضطروا لرفع أسعارهم لمواكبة رسوم التصاريح في السوق السوداء، فبدلاً من دفع بضع مئات من الدولارات للمدينة للحصول على تصريح، خلقت قيود الإدارة العليا سوقاً سوداء يضطر فيها الباعة إلى دفع ما يزيد على 20 ألف دولار سنوياً مقابل حق بيع أطباق بسيطة.
وكما أشار في الفيديو أصبح "طبق الدجاج مع الأرز يكلف الآن 10 دولارات أو أكثر. حان الوقت لجعل السعر 8 دولارات مجدداً".
وقالت كارينا كاوفمان-غوتيريز، نائبة المدير لمشروع الباعة المتجولين، وهي منظمة غير ربحية تدافع عن حقوق الباعة في الشوارع: "ممداني يفهم القضايا التي نواجهها، ويطلق نبرة إصلاح للنظام بحيث يمكن أن يؤدي إلى ثقافة مزدهرة تفيد الباعة المتجولين".
وأضافت: "هو أول مرشح يأكل من عربة متجولة للطعام الحلال، وسيكون داعماً لنظام الباعة المتجولين بتوازن بين التنظيم والالتزام، وفي الوقت نفسه يفتح الطريق أمام وجود أعمال تجارية وازدهارها، إنه يسلط الضوء على المجتمعات المهاجرة، ليس فقط على احتياجاتها، بل على المجتمعات المزدهرة التي تنهض بها".
كما شجع ممداني بالفعل العديد من سكان نيويورك على تقبل أفكار جديدة، ومن خلال مواصلة الاحتفاء بتنوع مطابخ المدينة وتشجيع محبي الطعام، ممن لديهم حب استطلاع، على استكشاف أحياء مختلفة خارج مناطقهم المألوفة، وقد ينجح في تذكير الجمهور بالثقافات العديدة التي ساهمت في تشكيل هوية نيويورك كما نعرفها اليوم.
المصدر:
بي بي سي
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة