آخر الأخبار

العنصرية الساخرة.. كيف تكون النكتة سلاح تحريض في أوروبا؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

تتجلى ظاهرة التحريض العنصري الخفي لدى مؤثري اليمين الأوروبي في خطاب يستتر خلف الدفاع عن القيم الأوروبية، لكنه يحمل رسائل تمييزية ضد المهاجرين.

وغالبًا ما تُقدم هذه الرسائل على شكل نكات أو مقاطع قصيرة تجذب الشباب، فتنتشر بسهولة وتُخفّف الرقابة عنها، بينما تطبع الكراهية ضمن النقاش الرقمي.

الخطاب الرقمي والكراهية المموهة

في تقرير موسّع نشرته صحيفة لوموند الفرنسية في يناير/كانون الثاني 2025، أُبرزت فيه التحوّلات العميقة التي يشهدها الخطاب العنصري على الإنترنت في أوروبا، إذ لم يعد التعبير عن الكراهية بالشتائم المباشرة أو الدعوات الصريحة للعنف، بل بأشكال رمزية وساخرة.

وأوضح التقرير أن هذا النمط الجديد من الخطاب يُمارس من الصور المركّبة، والنكت، والمقاطع الساخرة التي تُعيد إنتاج الصور النمطية عن المسلمين والأفارقة والمهاجرين بطريقة تبدو ترفيهية، لكنها تُسهم فعليا في تطبيع الكراهية وجعلها مقبولة اجتماعيا داخل الثقافة الرقمية اليومية.

وتُشكّل هذه الموجة من العنصرية المخفية خطرا مضاعفا لأنها لا تثير الانتباه القانوني بسهولة، إذ يصعب إثبات نيتها التحريضية أمام القضاء، كما تُقدّم غالبا على أنها حرية تعبير أو نقد ساخر.

ويرتبط هذا النوع من المحتوى، مباشرة، برفض التيارات اليمينية العنصرية في أوروبا المهاجرين والمسلمين، خصوصا بعد كل حادث أمني أو نقاش سياسي في الهوية الوطنية.

وفي فرنسا ، يذكر التقرير أن الوسوم (الهاشتاغات) المعادية للمسلمين تتصدر المنصات بعد كل هجوم أو حادثة أمنية، بغضّ النظر عن خلفية المنفذين، مما يعكس كيف تُحوَّل المآسي الفردية إلى ذريعة لتأجيج التوترات الجماعية.

أما في ألمانيا، فقد رصدت لوموند تصاعد الحملات الرقمية الموجهة ضد اللاجئين الأفارقة على وجه الخصوص، إذ يستخدم ناشطو اليمين المتطرف أدوات رقمية متطورة، من مقاطع قصيرة وألعاب إلكترونية ساخرة إلى صور معدّلة بعناية، لبث رسائلهم في قوالب ترفيهية تجذب الشباب وتُخفي خلفها رسائل تمييزية واضحة.

إعلان

ويشير التقرير أيضًا إلى أن خوارزميات المنصات الكبرى، مثل يوتيوب وتيك توك وإكس تساهم من حيث لا تدري في نشر الخطاب العنصري، لأنها تُكافئ المحتوى الأكثر إثارة للانفعال، بغض النظر عن قيمته أو خطورته الاجتماعية. فكلما ازداد التفاعل، زادت أرباح المنصة، وهو ما يجعل الكراهية تتحول إلى سلعة رقمية مربحة.

وبذلك يصبح الاقتصاد الرقمي نفسه شريكا غير مباشر في إعادة إنتاج العنف الرقمي، إذ تُمنح الأولوية لما يثير الجدل والانقسام على حساب ما يعزز التفاهم والتنوع.

كما يلفت التقرير إلى تصاعد ما يُعرف بـالتمييز البصري في الخطاب الرقمي الأوروبي، وهو أسلوب يعتمد على توظيف رموز وألوان وتعابير وجه وملصقات توحي ضمنيًا برسائل عنصرية، فتُرسّخ صورًا سلبية عن فئات محددة من دون الحاجة إلى أي تصريح مباشر أو خطاب كراهية صريح.

وتبيّن لوموند أن هذه التقنية تُحدث أثرا نفسيا خفيًا لدى المتلقّي، إذ تعمل على مستوى اللاوعي الجمعي، وتعيد تشكيل الصور النمطية في أذهان العامة بطريقة ناعمة وأكثر فعالية.

وقد نقلت الصحيفة عن باحثين في المرصد الأوروبي لخطاب الكراهية الرقمي أن هذا الشكل غير المباشر من العنصرية يمثّل اليوم أكثر من 60% من المحتوى العنصري المتداول على الإنترنت، وهو ما يجعل رصده ومواجهته أكثر تعقيدًا من الخطاب الصريح.

إذ لم تعد مواجهة الكراهية الرقمية مجرّد قضية قانونية، بل أصبحت معركة ثقافية وتربوية، تتطلب وعيًا نقديًا لدى المستخدم، وإصلاحًا في سياسات النشر والخوارزميات، وتعاونًا بين كافة القطاعات من إعلام وتعليم وتقنية، من أجل بناء فضاء رقمي يعكس قيم التعددية والاحترام المتبادل بدلًا من إعادة إنتاج الخوف والتمييز.

ومع توسع نطاق التحريض المبطّن، تبرز مفارقة لافتة في الموقف الأوروبي، ففي الوقت الذي ترفع فيه الحكومات شعارات المساواة والتسامح، تستمر وسائل التواصل الاجتماعي بتقنياتها المتطورة في ترويج محتوى يعمّق الانقسام.

ولا تعود هذه المفارقة فقط إلى ضعف التشريعات، بل أيضا إلى صعوبة تحديد وتعريف الكراهية في سياق حرية التعبير إذ يُستغل المبدأ القانوني الذي يحمي الرأي والنقد لتبرير السخرية العنصرية أو رفض الثقافات الأجنبية وهو ما يخلق منطقة رمادية يصعب ضبطها قضائيا.

ورغم مبادرات بعض المنصات مثل "فيسبوك" و"يوتيوب" لإزالة المحتوى العنصري، فإن استجابة هذه الشركات تظل انتقائية ومحدودة. فالتنظيمات اليمينية أنشأت شبكات بديلة ومنصات محلية صغيرة يصعب تتبعها، مما جعل الخطاب العنصري أكثر مرونة وانتشارًا.

القوانين الأوروبية وحدود المواجهة

في تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية، صدر في سبتمبر/أيلول الماضي، أظهر أن مجموعات اليمين المتطرف تعمل كـمحرّض رقمي على فيسبوك وتنشر خطابات عنصرية ومزاعم كاذبة ضمن جماعات شبه مغلقة، ومحتوى يُعاد تداوله عبر شبكات مترابطة، مع صعوبة واضحة في تتبّعه أو مساءلته قانونيًا.

وأضاف التقرير، أن المعركة القانونية ضد الكراهية الرقمية في أوروبا تتجلّى اليوم كاختبار جدّي لقدرة التشريعات على مواكبة الواقع الرقمي.

فبالرغم من دخول قانون الخدمات الرقمية حيز التنفيذ منذ العام الماضي (2024) والذي يُلزم المنصات الكبرى مثل ميتا، وإكس، ويوتيوب بإزالة المحتوى التحريضي بسرعة، وتعويض المتضررين، وفرض غرامات تصل إلى 6% من العائدات السنوية للشركة على المخالفين، لكن عند التطبيق، يظهر هشاشات جسيمة أمام أساليب التمويه التي يعتمدها الناشطون العنصريون.

إعلان

ويكمن التناقض الجوهري لهذا القانون في أن ميثاق حقوق الإنسان يُجرّم التحريض على التمييز والعنف، بينما في الوقت ذاته يحمي حرية التعبير حتى للكلام المثير للخلاف.

ويمنح هذا التداخل المتحدّثين المعادين قدرا من الأمان القانوني، خصوصا إذا استبدلوا الصيغة الصريحة بسخرية أو إيحاءات عنصرية توهم عدم تجاوزها للنص القانوني، لذا غالبا ما تواجه الأدلة صعوبة في إثبات النية التحريضية لدى القضاء.

ويُحمّل هذا القانون أيضا المنصات مسؤولية مراقبة المحتوى، ولكن المنصات تعتمد على تكنولوجيا ذات دقة محددة، تتحيّر بين تصنيف المحتوى كخطاب مشروع أو تحريض محظور. وفي كثير من الحالات، تُحذف مشاركات غير عنصرية خشية الغرامة، أو تُترك موادها العنصرية التي تلتف على التعاريف القانونية.

مصدر الصورة تتزايد المطالب بآلية موحدة تضبط خطاب الكراهية عبر الإنترنت بأوروبا (شترستوك)

وإلى جانب هذا الضعف التشريعي، ثمة مشكلات في التنسيق بين الدول الأوروبية بخصوص الجرائم الرقمية العابرة للحدود، فرسائل الكراهية التي تبدأ من بلدٍ واحد ثم تنتشر إلى دول أخرى كثيرًا ما تتعثر في تحديد الاختصاص القضائي، أو تتعطل بسبب تضارب القوانين الوطنية.

فمثلا، في ألمانيا، يُطبق قانون الشبكات (NetzDG) الذي يطالب المنصات بحذف المحتوى المسيء في غضون 24 ساعة من التبليغ، مع غرامات كبيرة في حالة التأخير. لكن نتائج التطبيق الداخلي أظهرت أنه يُستخدم ذريعة للحذف الوقائي، لكبح آراء جدلية ليست بالضرورة محرضة.

كذلك في فرنسا، تُطرح مقترحات لإنشاء وحدات مختصة للجرائم الإلكترونية ذات البعد العنصري، بعد ملاحظة أن المحتوى يُحذف قبل وصوله إلى القضاء أو يُنشر عبر هويات مزيفة أو خوادم خارج البلاد.

وعلى الصعيد الأوروبي الأوسع، تتزايد المطالب بآلية موحدة تضبط خطاب الكراهية عبر الإنترنت. لكن الخلاف بين الدول الأعضاء يطيل ولادة هذه الآلية؛ فبعض الدول ترى أن السيطرة الرقمية تعتبر تهديدا لسيادتها الوطنية، في حين تطرح دول أخرى الأمر كمسألة أمن مجتمعي وتصبّ كل هذه الاختلافات ضد سرعة التطبيق.

تتجه الجهود الأوروبية الحالية نحو ترسيخ مبدأ المسؤولية المشتركة بدل الاكتفاء بمنطق العقاب، حيث أطلق الاتحاد الأوروبي برامج للتوعية الرقمية تهدف إلى تعزيز وعي المستخدمين بخطورة المحتوى التحريضي وتشجيعهم على الإبلاغ والمساهمة في بناء فضاء إلكتروني آمن ومسؤول.

وأنشئ ميثاق تعاون مع المنصات الكبرى لتطوير خوارزميات أكثر شفافية في التعامل مع المحتوى المسيء.

كما تم الترويج لبرامج تعليمية في المدارس لتعزيز الوعي بخطورة خطاب الكراهية على الإنترنت. لكن الفجوة بين النصوص القانونية والواقع الرقمي تبقى كبيرة فقد لوحظ أن المحتوى العنصري يُنتج وينشر بوتيرة تفوق قدرة الرقابة على اللحاق به.

وفي ظل غياب جهاز قضائي أوروبي موحّد، يبقى الأمر رهينًا بإرادة الدول وبمراقبة الشركات نفسها، فمن دون بيئة رقمية متوازنة، فإن القوانين مهما بلغت دقتها تبقى مجرد زخرفة أمام موجة الكراهية المتنامية.

التجربة الألمانية في مواجهة خطاب الكراهية

وفقًا لتقرير نشرته وكالة رويترز في يناير/كانون الثاني 2025، فقد شهدت ألمانيا خلال العام 2024 ارتفاعًا مقلقا في الجرائم ذات الدوافع اليمينية المتطرفة والعنصرية، إذ سجّلت السلطات نحو 33 ألفا و963 حالة حتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، مقارنة بـ 28 ألفا و945 حالة فقط خلال العام 2023.

وأبرز التقرير أن هذا التصاعد لا يقتصر على الحوادث الميدانية فحسب، بل يمتدّ في تزايد إلى الفضاء الرقمي، حيث تُعدّ الجرائم الإلكترونية وخطابات الكراهية المنتشرة على الإنترنت من أهم المحرّكات التي تغذي هذا المنحى التصاعدي.

وبحسب نفس التقرير، فقد أوضح متحدث باسم وزارة الداخلية الألمانية، أن فئة كبيرة من هذه الجرائم تُصنف الآن ضمن ما يُعرف بـجرائم التعبير والدعاية، أي تلك التي تُرتكب بالنشر والتحريض أو بثّ رسائل الكراهية من وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّات الإنترنت المغلقة (الشبكات الداخلية).

إعلان

وأشار التقرير إلى أن هذا النمط من الجرائم الرقمية أصبح يشكّل تهديدا متناميا للأمن المجتمعي، إذ يسهم في تطبيع اللغة العنصرية وتوسيع قاعدة الخطاب المتطرّف بين فئات الشباب، مما يخلق بيئة خصبة لتنامي الكراهية والعنف ضدّ الأقليات والمهاجرين.

وقد تزايدت أخيرا في ألمانيا النقاشات عن مدى مسؤولية المنصات التقنية عن إعادة إنتاج خطاب الكراهية، خصوصا بعد أن كشفت تقارير إعلامية عن لجوء مجموعات يمينية متطرفة إلى استخدام منصات صغيرة لا تخضع لقوانين الاتحاد الأوروبي مثل "غاب" (Gab) و"تليغرام" لبث رسائل معادية للمهاجرين والمسلمين تحديدا.

إذ تستفيد هذه المجموعات من المنفى الرقمي (أي أن المنصة تخضع لقوانين دول خارج أوروبا) لتجنيد أنصارها ونشر محتوى تحريضي يصعب تتبعه بسبب غياب الإشراف القانوني المباشر.

وهو ما جعل النقاش يتجه نحو فكرة المسؤولية المشتركة بين الدولة والمنصات والمجتمع المدني، باعتبار أن مقاومة الكراهية لم تعد مسألة رقابة فقط، بل تتعلق بإعادة بناء الثقة الرقمية وتربية المستخدم على التفكير النقدي تجاه المحتوى المضلل.

وفي ظلّ هذا التحدي، تواجه السلطات الألمانية معضلة مزدوجة: فمن جهة، تسعى إلى مكافحة خطاب الكراهية بما ينسجم مع القوانين الأوروبية الصارمة في حماية الخصوصية، ومن جهة أخرى، تجد نفسها مضطرة إلى تطوير آليات رصد رقمية أكثر كفاءة دون الوقوع في فخّ المراقبة الشاملة أو التعدّي على حرية التعبير.

ويرى خبراء قانونيون أن هذا التوازن الدقيق يشكل اليوم جوهر النقاش في السياسات الرقمية الألمانية، إذ لم تعد المشكلة في حجم الخطاب المتطرف بقدر ما أصبحت في القدرة على تعريفه قانونيا ضمن بيئة تتسارع فيها أشكال التعبير الرقمي والتحايل على الرقابة بذكاء تقني متقدم.

وقد ظهرت مبادرات أهلية بالتعاون مع مؤسسات إعلامية محلية تهدف إلى تحصين الخطاب العام من الكراهية عبر التعليم والإعلام، بعيدا عن القمع أو الحجب. فقد شهدت ألمانيا توسعا في البرامج التي تربط بين التربية الرقمية والتربية المدنية، في محاولة لتصحيح ما يُعرف بمحو الأمية في الإنترنت، وهي الظاهرة التي تتيح للجماعات المتطرفة استغلال الجهل التقني ونظريات المؤامرة لتجنيد متابعين جدد.

وتهدف هذه المبادرات إلى بناء المناعة الفكرية للمجتمع إذ هو السبيل الأنجع لمواجهة موجة الكراهية التي لم تعد تقتصر على الأطراف السياسية، بل أصبحت جزءا من الثقافة الرقمية اليومية.

تبقى التجربة الألمانية عرضة للتقييم، فهي تُظهر أن التشريع وحده لا يكفي ما لم يُدعَم بآليات تنفيذ فعّالة وإصلاح ثقافي يعيد تشكيل الخطاب الرقمي لخدمة التنوع بدل التمييز.

ومن هذه الزاوية بالذات، يمكن للعالم العربي أن يستفيد من الدروس الأوروبية، إذ إن تفشي خطابات الإقصاء والتحريض الرقمي في فضائه العام يجعل الحاجة ملحّة إلى وعي مجتمعي وتشريعات استباقية توازن بين حرية التعبير وحماية السلم الاجتماعي.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا