دارفور- في وجدان السودانيين، ليست الفاشر عاصمة شمال دارفور غربي السودان مجرد مدينة، بل تختزل رمزية تاريخية وثقافية متجذرة في عمق الهوية الوطنية.
وبين سقوطها الأول عام 1916 على يد القوات البريطانية، وسقوطها الثاني يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بيد قوات الدعم السريع، تبرز الفاشر بوصفها مركزا روحيا وسياسيا واجتماعيا لا يمكن تجاوزه، ويمس وجدان السودانيين بعمق.
فمنذ عهد السلطان علي دينار (1898ـ1916) كانت الفاشر مركزا للعلم والتعليم الديني ووجهة ل كسوة الكعبة المشرفة، وحافظت المدينة على إرثها الروحي عبر الخلاوي والزوايا الصوفية، وظلت منارة دينية في غربي السودان.
ولم يتوقف هذا البعد الروحي بزوال السلطنة، بل استمر في تشكيل وجدان سكان دارفور، بحسب باحثين في التراث السوداني.
وعندما احتلت القوات البريطانية الفاشر في نوفمبر/تشرين الثاني 1916 ضمن إستراتيجية استعمارية لإعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة، تحوّلت مقاومة السلطان علي دينار إلى رمز للصمود الوطني.
لكن سقوط المدينة أنهى حكم سلطنة دارفور المستقلة، ومهّد لمرحلة الإدماج القسري ضمن الدولة السودانية الحديثة التي تشكلت وفقا لمصالح القوى الاستعمارية.
وقبل أيام فقط من هذه الذكرى سقطت الفاشر مجددا، ولكن هذه المرة في قبضة قوات سودانية، أشارت تقارير محلية وأخرى صادرة عن الأمم المتحدة إلى تدخلات أجنبية من أجل دعمها، مما أثار جدلا واسعا بشأن استقلالية القرار السوداني، خاصة مع ورود معلومات عن وجود عناصر من دول مجاورة ضمن صفوف قوات الدعم السريع .
ورغم كل ما مرت به الفاشر، فإنها بقيت حاضرة بشكل عميق في الأغاني الشعبية والأمثال السودانية كـ"فاشر السلطان أبو زكريا" و"قلب دارفور النابض"، الأمر الذي صعّب على الوجدان السوداني تقبل سقوط المدينة عسكريا.
تميّزت الفاشر بتنوعها القبلي والثقافي، وشكّلت نموذجا للتعايش بين مكونات دارفور منذ عقود، ولكن الحرب الأخيرة أدت إلى تصدعات عميقة في هذا النسيج، وسط تحذيرات من تحول ديمغرافي قسري يهدد التوازن الاجتماعي التاريخي للمدينة.
يقول الباحث في علم الاجتماع وطالب الدكتوراه بجامعة بورصة في تركيا حسين آدم للجزيرة نت إن "الانتماءات القبلية أصبحت تُستخدم كأوراق في الصراع، مما أدى إلى تفكك جزئي للعلاقات التقليدية التي كانت تشكل أساسا للتعايش في الفاشر".
ويضيف "التحولات السكانية الناتجة عن النزوح و التهجير القسري بدأت تُحدث خللا في التركيبة الاجتماعية، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل هوية المدينة بشكل لا يمكن التنبؤ بعواقبه"، معتبرا أن "تجاهل البعد الاجتماعي في أي تسوية سياسية قد يُفضي إلى صراعات مستقبلية أكثر تعقيدا".
وتشير تقديرات المنظمة الدولية للهجرة إلى أن نحو 33 ألف شخص فرّوا من مدينة الفاشر إلى البلدات المجاورة خلال الأيام الماضية، حيث يواجه الوافدون الجدد أوضاعا إنسانية بالغة الصعوبة، إذ يفتقر معظمهم إلى المأوى المناسب أو المساعدات الغذائية، ويعتمدون على جهود المتطوعين المحليين للحصول على الحد الأدنى من احتياجاتهم اليومية.
وفي سياق متصل، أفادت شبكة أطباء السودان بمقتل ما لا يقل عن 1500 شخص خلال 48 ساعة فقط من سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة، مشيرة إلى أن معظم الضحايا من المدنيين، بينهم نساء وأطفال.
وتقول سلافة آدم، وهي نازحة وصلت إلى مدينة "طويلة"، للجزيرة نت إن "الحرب تركتنا بلا شيء، نحن نعيش على المساعدات التي بالكاد تصل إلينا، لا نعرف إلى أين نذهب، ولا كيف نحمي أطفالنا من الجوع والمرض".
وقبل استيلاء قوات الدعم السريع على الفاشر، فرضت حصارا خانقا على المدينة لأكثر من 18 شهرا، أجبر خلاله مئات الآلاف من السكان على الفرار، في حين نجا من تبقى منهم بتناول علف الماشية المعروف محليا باسم "الأمباز".
وتشير مصادر محلية مطلعة للجزيرة نت إلى أن المدنيين الذين حاولوا مغادرة المدينة خلال الحصار واجهوا خطر الموت على يد قوات الدعم السريع المنتشرة على الطرق المؤدية إلى مناطق النزوح، حيث سُجلت حالات إطلاق نار واستهداف مباشر للنازحين، وفقا لشهادات ناجين.
وفي حديثه للجزيرة نت من منطقة طويلة غربي الفاشر، قال الشيخ عبد الرحيم آدم، إمام أحد المساجد التاريخية، "بعد هذا السقوط، قد يتوقف القصف موقتا لكن الجروح باقية"، وأضاف "رغم المعاناة، تظل ذاكرتنا حية بمساجدنا وخلاوينا، وسنعود لحماية تراثنا".
من جهتها، قالت فاطمة عبد الكريم، وهي معلمة نزحت إلى منطقة كورما غربي الفاشر، للجزيرة نت "ستتحرر الفاشر قريبا من قبضة الدعم السريع، وسنواصل تعليم أطفالنا. هذه المدينة ليست مجرد مبان، بل هي هوية وكرامة، لقد رأيت مدارسنا تتحول إلى ثكنات عسكرية، لكننا سنعيد بناءها قريبا".
تسببت الحرب في شلل اقتصادي كامل بالفاشر، وتحولت الأسواق النابضة بالحياة إلى أماكن شبه مهجورة، كما توقف التجار عن القدوم من مختلف أنحاء السودان، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وندرة السلع الأساسية.
ويرى الباحث في التاريخ السوداني الدكتور إبراهيم سعيد أبكر أن تعافي الدولة السودانية مرهون باستعادة الذاكرة الجمعية والاعتراف بالأدوار التاريخية للعواصم مثل الفاشر.
ويضيف أن تجربة السلطان علي دينار تمثل نموذجا للصمود الحضاري، يمكن أن يلهم جهود إعادة البناء إذا تحقق السلام في المنطقة.
ويطالب مراقبون محليون بوقف القتال، وبدء حوار مجتمعي يسبق أي تسوية سياسية، مؤكدين أن إصلاح النسيج الاجتماعي لا يقل أهمية عن إعادة البناء المادي أو الحلول السياسية، ويشددون على أن التعافي يتطلب معالجة الجراح النفسية والاجتماعية التي خلفتها الحرب.
وبين سقوطين يفصل بينهما أكثر من قرن، تثبت الفاشر أنها مدينة لا تُقاس بأسوارها العسكرية، بل بقدرتها على البقاء في الذاكرة الجمعية، ورغم المحن، فإن الفاشر تظل رمزا حيا للصمود.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة