في بدايات القرن الثامن عشر، وبينما كانت الدولة العثمانية تدخل مرحلة الوهن والتراجع، كانت روسيا تتقدّم بثبات من أطراف أوروبا نحو البحار الدافئة مستفيدة من الدعم الضمني لبريطانيا، التي وجدت في صعود القيصرية العالمية وسيلة لتطويق نفوذ العثمانيين وإشغال الفرس عن مصالحها في الهند.
في تلك الحقبة العاصفة، وجدت روسيا نفسها في مواجهة متواصلة مع القوى الإقليمية المحيطة بها، فقد خاضت سلسلة طويلة من الحروب ضد الدولة العثمانية، بلغ عددها نحو 12 حربا بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، تخلّلتها 5 مواجهات كبرى مع إيران في عهد الصفويين ثم في عهد القاجارية.
كانت نتائج هذه الصراعات في الغالب لصالح روسيا، وعلى إثرها وسّعت حدودها جنوبا وفرضت نفوذها على البحر الأسود بعد معاهدة كوجك قينارجه عام 1774، وضمت شبه جزيرة القرم عام 1783.
ومنذ ذلك الحين بدأ البحر الأسود يتحوّل تدريجيا إلى ساحة نفوذ روسية شبه خالصة، معلنا بداية التمدد القيصري نحو المشرق والبحر الدافئ، وهو الطموح الذي سيظل يوجه سياستها لقرون لاحقة.
ويصف المؤرخ الروسي فاسيلي كليوشيفسكي تلك المرحلة في كتابه "عصر كاترين العظيمة" بأنها "الانفجار الذهبي للإمبراطورية الروسية"، إذ تحوّل العهد القيصري في عهد الإمبراطورة كاترين الثانية إلى مشروع توسّعي ممنهج هدفه تثبيت قدم روسيا في الشرقين الأدنى والأوسط.
فمنذ توليها الحكم عام 1762، لم تكد الإمبراطورية تتنفس بين حرب وأخرى، حيث توسّعت في بولندا والقوقاز، فضلا عن الصراع المفتوح مع العثمانيين والفُرس.
وهكذا بدأت الحملة العسكرية الروسية على شرق المتوسط بين عامي 1772 و1774، وحملت معها طموحات تجارية وسياسية ودينية، وانتهت بدخول الأسطول الروسي موانئ بيروت وصيدا ليعلن ميلاد قوة جديدة في البحر الذي ظل قرونا عثمانيا، في مشهدٍ غير مسبوق في تاريخ المنطقة، إذ لم تعرف بلاد الشام من قبل حضورا بحريا روسيا بهذا الحجم والطموح.
وبينما كانت المدافع القيصرية ترسو قبالة بيروت وصيدا استعدادًا للحصار، كانت بريطانيا تتابع ما يحدث بصمتٍ محسوب.
ويشير المؤرخ البريطاني ماثيو سميث أندرسون في مقاله "بريطانيا، أوروبا، والإمبراطورية العثمانية (1770–1774)" إلى أن الحكومة البريطانية راقبت التحركات الروسية دون اعتراض، بل كانت ترى فيها وسيلة فعّالة لإضعاف السلطنة العثمانية وكبح النفوذ الفرنسي في البحر المتوسط ، تطبيقا لإستراتيجيتها التي هدفت إلى الحفاظ على توازن بين القوى الكبرى.
ويؤكد المؤرخ هامفري ماثيسون سكوت في كتابه "السياسة الخارجية البريطانية في عصر الثورة الأميركية" أن بريطانيا لم تكتفِ بالسكوت عن التوسع الروسي، بل سهّلت له الطريق، إذ سمحت بعبور الأسطول الروسي من بحر البلطيق إلى المتوسط عام 1769، وأسهمت في تموينه لوجستيا.
وكان هذا التراخي المقصود يعكس قناعة لندن بأن تحرك الروس نحو المشرق يخدم ميزان القوى الأوروبي، ويمنع قيام محورٍ عثماني فرنسي قد يهدد مصالحها التجارية والعسكرية في المنطقة.
في ذلك الوقت كانت موسكو تراهن على حليفها المتمرد على الدولة العثمانية في مصر علي بك الكبير، فمنذ أن تولّى حكم مصر عام 1768 مدّ نفوذه تدريجيا حتى شمل الحجاز وأجزاء من بلاد الشام، مستغلا انشغال الدولة العثمانية بحروبها مع روسيا.
وكان طموحه أن يؤسس دولة مستقلة في المنطقة العربية تحت رعايته، وربما تحت حماية روسية ضمنية، على أن تكون القاهرة عاصمة لهذا الكيان الجديد.
أعلن علي بك استقلاله عن السلطنة عام 1768، وأرسل حملته الأولى إلى الحجاز بقيادة الأمير محمد بك أبو الذهب في يونيو/حزيران 1770، واعتمد على دعم الروس لتوسيع نطاق تحركاته في المشرق.
وبحجة أن والي دمشق عثمان باشا العظم يؤوي المماليك المعارضين له، جهّز علي بك حملة ثانية بقيادة أبو الذهب في العام التالي، ونجح في تحقيق انتصارات سريعة وسيطر على غزة ثم الرملة، وحين اقترب من أسوار القدس خرج إليه قضاتها وأعيانها فتسلمها دون قتال، أما يافا فصمدت شهرين أمام الحصار قبل أن تستسلم.
في تلك الأثناء تحركت قوات الأمير ظاهر العمر في عكا وقوات شيخ الشيعة ناصيف النصار في جبل عامل وانضمتا إلى الجيش المصري لتشكّل جبهة محلية واسعة ضد الدولة العثمانية.
وبحلول ربيع 1771 كانت المدن الساحلية الكبرى من غزة إلى صيدا في قبضة هذا التحالف الثلاثي، وأصبح الطريق إلى دمشق مفتوحا، وفي تلك الأثناء التقى أبو الذهب وجيشه بالقوات العثمانية في معركة حاسمة انتهت بهزيمة العثمانيين ودخول المصريين دمشق في 6 يونيو/حزيران 1771.
وكما يصف عبد الرحمن الجبرتيّ في تاريخه هذا الحدث بأنه لحظة نادرة استطاعت فيها قوةٌ من داخل الدولة العثمانية أن تُسقط العاصمة الشامية.
لكنّ تمكن العثمانيون من عكس هذه التطورات لصالحهم، فخلال أسابيع من دخول القوات المصرية دمشق، بدؤوا بمراسلة أبو الذهب سرّا، وعرضوا عليه حكم مصر بشرط أن يتخلى عن علي بك وينسحب من الشام والحجاز.
وقد وجد أبو الذهب في العرض فرصة شخصية مغرية، فقبل به وأدار ظهره لحليفه وسيّده، وربما أدرك أن ما قام به يضعف الدولة العثمانية ويفتتها لصالح الأوروبيين، وهو خطأ إستراتيجي كارثي، ولهذا السبب قرر العودة بقواته إلى القاهرة عام 1772، حيث انقلب على سيده علي بك الكبير وقاتله وطرده من مصر.
فرّ علي بك الكبير إلى الشام باحثا عن دعم حلفائه القدامى ظاهر العمر والروس، وفي تلك الأثناء كان الأسطول القيصري قد وصل إلى سواحل صيدا وبيروت، وهناك في مياه المتوسط الشرقية كانت المدافع الروسية تستعد لتبديل خريطة النفوذ في المنطقة، مستهدفةً الولايات العثمانية الشامية كخطوة أولى نحو إعادة تشكيل الشرق الأوسط في ظل التوازن الجديد بين إسطنبول وسان بطرسبورغ.
دفعت التطورات روسيا لتجعل من بيروت وصيدا ساحة اختبار لمشروعها البحري الوليد، في وقت كانت فيه أوروبا كلها تراقب بصمت لعبة الأمم الجديدة التي بدأت تتشكل على شواطئ المشرق.
يذكر المؤرخ البريطاني ستيفان ونتر في كتابه "الشيعة في لبنان تحت الحكم العثماني (1516-1788)" أن زعيم جبل عامل في منتصف القرن الثامن عشر ناصيف النصار أسّس نظام حكم شبه مستقلّ ضمن تسوية غير مكتوبة مع العثمانيين، حيث حكم النصار المنطقة منذ عام 1749.
ولكن بعد سلسلة من الصدامات مع ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل وصفد، تحوّل العداء إلى تحالف ضد ولاة صيدا ودمشق الموالين للدولة العثمانية، ثم امتد التعاون إلى دعم الحملة المصرية بقيادة محمد بك أبو الذهب والأسطول الروسي القريب من السواحل في حربهم على العثمانيين، ليصبح جبل عامل جزءا من شبكة سياسية وعسكرية تخطّت حدوده المحلية.
ومع اقتراب الأسطول الروسي من سواحل شرق المتوسط في خريف عام 1772، كانت المنطقة على موعد مع واحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخ بلاد الشام، فقد أدرك ظاهر العمر الزيداني أن الوجود الروسي يمنحه فرصة نادرة لتوسيع سلطانه من الجليل إلى سواحل لبنان.
فتحرّك بسرعة وحشد حلفاءه مثل ناصيف النصار في جبل عامل ومن القوى المحلية المتمردة على الولاة العثمانيين، وقرّر أن يوجّه ضربته الكبرى إلى بيروت، وهي المدينة التي كانت حينها تحت حكم الأمير يوسف الشهابي والقائد الصاعد أحمد باشا الجزار، الذي وصل إلى بيروت قادما من القاهرة بتفويض عثماني واسع.
وفي أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام بدأ الهجوم المنسّق برا وبحرا، ويصف الأمير حيدر بن أحمد الشهابي في كتابه "تاريخ الأمير حيدر" أنه كان بين ظاهر العمر والروس تحالف وثيق، وقد أمرت الإمبراطورة كاترين أميرال سفنها في البحر الأبيض بأن يدعم تمرد ظاهر العمر على الدولة العثمانية.
وبالفعل أحكم الروس الحصار من البحر، بينما شدّد ظاهر العمر الطوق من البرّ، ودام الحصار نحو 4 أشهر عانت خلالها بيروت المجاعة حتى أكل الناس الخيل والدواب كما يروي الشهابي، وفي نهاية الحصار سقطت المدينة، ودخلها الروس وقوات العمر منتصرين، لتتحوّل بيروت لأول مرة في تاريخها إلى مدينة تحت راية غير عثمانية.
أصبح الوضع في بلاد الشام أكثر تعقيدا مع سيطرة الروس على بيروت، وبسط ظاهر العمر نفوذه على معظم جبل لبنان، مما دفع الشهابيين والجنبلاطيين إلى مراجعة تحالفاتهم القديمة.
وبعد شهور قليلة، في ديسمبر/كانون الأول 1773، خاض الأمير يوسف الشهابي معركة سهل البقاع ضد الوالي العثماني عثمان باشا العظم، وحقّق فيها انتصارا بسبب الدعم الذي تلقّاه من ظاهر العمر وأمير جبل عامل ناصيف النصار، مما جعل الباب العالي يترقب بقلق تنامي هذا التحالف المتمرد المدعوم روسيا.
وفي تلك الأثناء كان علي بك الكبير يرى في الحضور الروسي في بيروت فرصة لا تُعوّض لإعادة مجده المفقود في مصر إثر انقلاب وانتصار مملوكه محمد بك أبو الذهب عليه وعودة الوفاق بينه وبين العثمانيين، ففي مارس/آذار 1773 تحرّك علي بك من الشام بجيشه نحو القاهرة طامحا في استعادة حكمه بدعم معنوي من الروس وحلفائه الشاميين.
غير أن قائده السابق محمد بك أبو الذهب سبقه بالمكيدة، فهزمه وقضى عليه بعد معركةٍ قصيرة، وهكذا انتهى حلم علي بك قبل أن يبلغ ذروته بينما كانت بيروت لا تزال ترزح تحت الاحتلال الروسي الذي استمر حتى عام 1774.
وبعد وفاة علي بك واستقرار الروس في الساحل، بدأ ظاهر العمر مفاوضات مباشرة مع الدولة العثمانية عبر رسائل تبادلها مع أبو الذهب والي مصر.
وكما تذكر موسوعة ديانات التركية، تمكن العمر من الحصول على فرمان عثماني مطلع عام 1774 يعترف بسلطته على صيدا وعكا وحيفا ويافا والرملة ونابلس وصفد، أي على معظم أراضي فلسطين ولبنان الجنوبي، وكان ذلك ذروة صعوده السياسي؛ إذ أصبح الحاكم العربي الأقوى في المشرق العثماني، مدعوما بتحالفات محلية وبغطاءٍ روسي غير معلن.
ظاهر العمر تمكن من الحصول على فرمان عثماني عام 1774 يعترف بسلطته على معظم أراضي فلسطين ولبنان الجنوبي (الجزيرة)لكنّ رياح السياسة انقلبت سريعا، ففي 21 يوليو/تموز 1774 وُقّعت معاهدة كجوك قينارجه التي أنهت الحرب الروسية العثمانية، واضطرت روسيا بموجبها إلى الانسحاب من شرق المتوسط تحت ضغط القوى الأوروبية الكبرى وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، اللتين لم ترغبا في بقاء روسيا قوة بحرية في المتوسط، ومع انسحاب الأسطول الروسي، فقدَ ظاهر العمر أهم دعائمه الدولية.
حينها استغلّ الباب العالي الفرصة، فأمر السلطان عبد الحميد الأول قائده محمد بك أبو الذهب باجتياح ولايات الشام وإعادة بسط السيطرة عليها.
وفي مايو/أيار 1775 زحف الجيش المصري شمالا، وأصدر السلطان أوامره إلى ولاة دمشق وصيدا وطرابلس بالانضمام إليه، حيث انشق الأمير يوسف الشهابي، الذي كان حليفا لظاهر بالأمس وانضمّ إلى العثمانيين، وتمكن أبو الذهب من السيطرة على المنطقة.
غير أن القدر لم يمهل المنتصر طويلا، إذ توفي أبو الذهب فجأة في جبل الكرمل في يونيو/حزيران 1775، فارتبك جيشه وانسحب إلى مصر، حيث سارع العثمانيون إلى سدّ الفراغ، فأرسلوا حملة جديدة في أغسطس/آب من العام نفسه أنهت حكم ظاهر العمر بعد حصار عكّا ومقتله فيها، ليُعيَّن أحمد باشا الجزار واليا على صيدا وعكّا، ويبدأ عهدٌ جديد من عودة السيطرة العثمانية على المنطقة.
وهكذا أسدل القرن الثامن عشر ستاره على تجربة قصيرة الأمد تمثلت في صعود زعماء محليين طمحوا إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية بالاعتماد على المحتل الخارجي، ودخول روسيا القيصرية لاعبا في المشرق للمرة الأولى، ثم انطفاء هذا المشروع بعد أشهر مع انسحاب الروس وسقوط العُمر والنصار، ولقد كانت بيروت في تلك السنوات مرآةً مبكرة لصراع الإمبراطوريات على الشرق.
وفي نهاية تلك المغامرة البحرية التي قادتها الإمبراطورية الروسية في شرق المتوسط، لم يكن المجد العسكري هو الحصاد الحقيقي بقدر ما كانت المكاسب التجارية والاقتصادية، فمعاهدة كجوك قينارجه التي أنهت الحرب الروسية العثمانية عام 1774، منحت موسكو امتيازات غير مسبوقة في التجارة والملاحة داخل أراضي السلطنة.
وكما يذكر بول دي كوينواي في دراسته "مغمورون بامتيازات من حكومتنا.. تصوير الذات الروسية لدى المجتمعات المسلمة في سوريا العثمانية"، فإنه بموجب هذه المعاهدة حصلت روسيا على حقّ حماية الرعايا الأرثوذكس في الشرق، والأهم من ذلك حقّ مرور سفنها التجارية في المضائق العثمانية والتعامل المباشر مع الموانئ العربية.
وسرعان ما تحوّلت هذه الامتيازات إلى ركيزة لعلاقات اقتصادية متشابكة ربطت روسيا بتجّار الشام ومصر، فالتبادل التجاري الذي بدأ في مرافئ صيدا وعكا وحيفا سرعان ما اتسع ليشمل الإسكندرية وإسطنبول.
ووجد التجار العرب في السلع الروسية كالحديد والأخشاب والحبوب والفراء بديلا عمليا ورخيصا عن البضائع الغربية، وبالمقابل أُغرقت الأسواق الروسية بالقطن المصري والأقمشة المصبوغة والمنتجات الزراعية، ومع مرور السنوات أصبحت روسيا شريكا تجاريا رئيسيا في اقتصاد المشرق، واستفادت من هذا الانفتاح أكثر مما حصدته من حملاتها العسكرية.
وهكذا استمر إرث تلك الحملة في صورة تواصل اقتصادي طويل الأمد بين روسيا وبلاد الشام ومصر، ومع أن الحرب العالمية الأولى أنهت كلا من الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، إلا أنّ الخيوط التي نُسجت بين التجار والبحارة والسماسرة في القرن الثامن عشر بقيت شاهدةً على أن التجارة كانت المكسب الأهم للحملة الروسية في شرق المتوسط.