في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
باريس- لم تمضِ سوى ساعات قليلة على إعلان تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة حتى دوّى خبر تقديم رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو استقالته إلى الرئيس إيمانويل ماكرون .
ووجدت باريس، التي أنهكتها التجاذبات والانقسامات الحزبية منذ الانتخابات الأخيرة، نفسها أمام صدمة مزدوجة؛ فالرجل الذي جاء مرتديا عباءة المنقذ ليُخرج الحكومة من أزمتها، غادرها قبل أن تبدأ فعليا في مهامها، تاركا خلفه مشهدا سياسيا مرتبكا ومفتوحا على كل الاحتمالات.
أما في قصر الإليزيه ، فقد بدا ماكرون كمن يحاول احتواء انفلات سياسي بأقل الخسائر من خلال اتصالاته العاجلة مع رؤساء الكتل بهدف التشاور لإفساح المجال أمام حكومة "توافق وطني" قد تكون الفرصة الأخيرة للنجاة من غرق في المجهول.
يتفق مراقبون على أن تشكيلة لوكورنو كانت أقرب إلى ميزان هش منها إلى حكومة متماسكة. ففي اللحظة التي أعلنت فيها أسماء أعضائها، بدأت الأحزاب برفع الصوت، وبعضها من داخل التحالف الحاكم نفسه.
فمن جهة، اعتبرتها المعارضة نسخة باهتة من حكومة ماكرون السابقة، بينما رأى وزراء من الاتجاه الوسطي أنها تشكيلة منحازة بشكل مفرط نحو اليمين، ليتحول الأمل في بداية جديدة إلى ما يشبه ولادة ميتة تُسقط الحكومة قبل أن تعقد أول اجتماع رسمي لها وقبل أن تنال ثقة البرلمان.
ويرى المحلل السياسي إيف سنتومير أن الرئيس ماكرون يتحمل المسؤولية الكبرى عن ما آلت إليه الأوضاع. وقال "حتى رئيس وزرائه السابق غابرييل أتال أكد أنه (ماكرون) شخص متمسك بالسلطة ولا أحد يفهم السبب".
وبينما توقع سنتومير عدم استمرارية حكومة لوكورنو طويلا، قال للجزيرة نت إن فشلها بهذه السرعة شكّل مفاجأة هزت البلاد بأكملها بسبب "ارتكاب رئيس الجمهورية للأخطاء بشكل متكرر وبمناورات تكتيكية ضعيفة نظرا لغياب أي رؤية إستراتيجية نافعة".
وأضاف "لدينا انطباع في فرنسا أن السياسة أصبحت تنحصر في طموحات شخصية وحزبية معينة للبعض، ما يعني أن كل الأحزاب تتحمل المسؤولية أيضا لأن ما كنا بحاجة إليه هو تشكيل ائتلاف وليس تسويات. وباستثناء الائتلاف بين الجمهوريين والماكرونيين، لم يكن من الضروري تشكيل ائتلاف مع اليمين المتطرف، ( التجمع الوطني )، أو مع جزء من اليسار والاشتراكيين".
بدورها، لا تعتقد أستاذة العلوم السياسية وعلم الاجتماع في كلية كيدج للأعمال، فيرجيني مارتن، وجود أي مخرج للوضع الحالي باستثناء تشكيل ائتلاف يساري من يسار الوسط، وهو أمر لا يريده ماكرون الذي "أدار سياسة البلاد بشكل سيئ منذ عام 2017 ويتحمل المسؤولية الكاملة".
وفي حديثها للجزيرة نت، ألقت مارتن باللوم على كل الكتل السياسية لأنها تجد نفسها تحت ضغط هائل من أجل البقاء في السلطة، متمسكة بمواقفها الأيديولوجية ومبتعدة عن المصلحة العامة، ومعتبرة أن ذلك يعود إلى عدم نضج الديمقراطية الفرنسية.
تعيش فرنسا حالة من الانقسام النيابي منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة، مما يجعل أي حكومة جديدة رهينة التسويات المؤقتة. وفي الوقت الذي يفتقر فيه لوكورنو لأية أغلبية تتيح له تمرير القوانين، لا يزال البرلمان مبعثرا بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، بينما تقف الكتلة الوسطية عاجزة عن توحيد صفوفها.
وبدا وزير القوات المسلحة السابق لوكورنو كمن يسير فوق حقل ألغام سياسي، بدون دعم داخلي ولا هوامش مناورة في الخارج.
و أشار المحلل سنتومير إلى وجود أزمة هيكلية في النظام السياسي الفرنسي، وربما حتى في النظام الغربي، بمعنى أن الجمهورية الخامسة لم تعد فاعلة خاصة وأن هذه ليست المرة الأولى التي يفقد فيها رئيس منتخب مصداقيته بسرعة.
وأوضح "عندما نرى الأزمة في الولايات المتحدة، والصعوبات في هولندا وبلجيكا في تشكيل الحكومات، نقول لأنفسنا إن الأمر ليس بهذه البساطة، ومع صعود اليمين المتطرف في كل مكان تقريبا في أوروبا، لم يعد النظام الفرنسي هو المتجسد. لذا، هناك ضرورة لإنشاء نظام مؤسسي أكثر ملاءمة للقرن الـ21".
من جانبها، أكدت الخبيرة مارتن أن جميع المؤشرات تشير إلى انعدام الثقة في السياسيين لأن الامتناع عن التصويت في تزايد مستمر والأصوات الراديكالية ترتفع بشكل مقلق، معتبرة أن فرنسا تواجه اليوم أزمة أحزاب وديمقراطية وتمثيل سياسي، "لكن الأسوأ هو وجود أزمة نظام".
وبينت أن تشكيلة الحكومة التي اقترحها لوكورنو تشبه السابقة إلى حد كبير، خاصة مع وجود برونو لومير المثير للجدل، مشيرة إلى أن خبر استقالته كان مفاجئا للغاية ما يجعله أسرع رئيس وزراء في تاريخ الجمهورية.
من دعوات لاستقالة ماكرون، إلى المطالبات بحل الجمعية الوطنية، والمناشدات بالتعايش مع رئيس الدولة، تتدفق المقترحات سعيا لحل الأزمة السياسية واستعادة الاستقرار بعد الرحيل المفاجئ لرئيس الوزراء.
ووصفت مارتن الوضع بـ"العبثي" منذ البداية، ففي بعض الدول مثل إسبانيا وبلجيكا، يتم اختيار مبعوث يعمل أولا مع البرلمان والأحزاب السياسية قبل تعيينه رئيسا للوزراء، لكن ماكرون طلب من لوكورنو أن يصبح مبعوثا ومفاوضا مع الأطراف بعد تنصيبه.
وتابعت "نمر بأزمة حقيقية ولا أعتقد أن البلاد قادرة على إيجاد حل سحري وفوري لإعادة الأمور إلى نصابها، لهذا يتحدث كثيرون عن استقالة ماكرون، رغم أن ذلك لن يحل الأزمة على أي حال".
وصرح زعيم حزب " فرنسا الأبية " اليساري جان لوك ميلانشون ، خلال مؤتمر صحفي الاثنين الماضي، بأنه "يجب أن نعالج هذا الوضع من جوهر المشكلة، أي العودة إلى مسألة شرعية رئيس الجمهورية"، ما يعني الاعتماد على اقتراح العزل الذي قُدم أوائل سبتمبر/أيلول الماضي ووقع عليه 104 نواب.
وخلال خطابه، أمس الثلاثاء، برر لوكورنو استقالته بالقول إن "الظروف لم تكن ملائمة" لممارسة مهامه كرئيس للوزراء و"السماح للحكومة بالمثول أمام الجمعية الوطنية"، مؤكدا أن إلغاء المادة (49.3) يُمثّل "انقساما عميقا وأنه لا توجد ذريعة للرقابة المسبقة".
ويعتقد سنتومير أن تشكيل الحكومة من شخص ينتمي لحزب ماكرون أمر مستحيل لأنه أثبت عدم قدرته على تحمل المسؤولية، وأن تشكيل حكومة تكنوقراط أمر مستبعد أيضا بسبب وجود تواصل ضئيل مع شخصيات غير حزبية.
وأضاف "إذا أعلِن عن تشكيل حكومة برئيس وزراء اشتراكي، فمن المرجح أن يكون عمرها محدودا للغاية. ولذا، فإن الحل المتبقي هو اللجوء إلى انتخابات تشريعية أو استقالة رئيس الجمهورية".
وتختبئ وراء المشهد السياسي المأزوم أزمة أعمق تتمثل في الاقتصاد الفرنسي الذي يترنح تحت وطأة العجز والديون. فخبر الاستقالة وكل السيناريوهات المقترحة تواجَه في الشارع بسؤال بسيط: من سيدفع الثمن؟. ويصبح أي اضطراب سياسي عبئا كبيرا على اقتصاد يلهث وراء الاستقرار منذ فترة طويلة ويحوّل كل تغيير حكومي إلى امتحان لصورة الدولة وثقة المستثمرين بها.
وبخصوص جدل ميزانية عام 2026، يعتقد المحلل إيف سنتومير أنه سيتم تجديد السابقة "في أسوأ الأحوال وهو أمر مزعج لأنه سيعني الجمود وعلامة سيئة داخليا وخارجيا، لكن ليس من المستحيل إقرار ميزانية توافقية".
ورأى أن رواد الأعمال قد يتوقفون عن الاستثمار نظرا لافتقار كبار الموظفين في الدولة إلى رؤية وتوجيهات سياسية واضحة، ما يعني مواجهة السوق لخطر المعاناة والشلل.