في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بعض الرحلات لا تحتاج خططا وترتيبات معقدة، بل مقعدا قرب النافذة وكوب قهوة دافئ، وسكة حديد تمتد إلى اللانهاية كأنها تجر خلفها المدن والذكريات.
وفي لحظة عابرة من صيف فرنسي بشهر أغسطس/آب، قررت ترك باريس ورائي لعدة أيام لأمنح نفسي استراحة من كل ما هو مألوف، وتركت الخريطة تقودني إلى عجائب الألب السويسري.
اخترت القطار وسيلتي للتنقل، بعيدا عن المطارات والبوابات الأمنية، وبدون إقلاع أو هبوط. حقائبي قليلة، لكن قلبي كان مزدحما بالتوقعات الجميلة.
انطلق القطار من محطة ليون الفرنسية نحو زيورخ السويسرية، وبدأ معه اهتزاز خفيف وأنين حديدي للسكك، وكأنه يدعو المدينة بأكملها إلى أن تتنحّى جانبا لتمنح ركابه مخرجا آمنا.
لم أكن أعرف كيف سأقضي الست ساعات بين قطارين وحافلة حتى أصل إلى وجهتي الأولى، مدينة لاكس السويسرية، لكنني كنت متحمسة لكل ما ينتظرني هناك. وضعت سماعاتي في أذني، لا لتمنعني من سماع العالم، بل لتمهد لي فضاءه.
من باريس إلى زيورخ، كانت القرى الصغيرة تظهر وتختفي والحقول الفرنسية تعبر من نافذتي وكأنها موجات خضراء ناعمة.
وكلما توقفنا بمحطة لدقائق معدودة، كنت أراقب المنتظرين على الرصيف وسؤال يعبر بذهني: هل هم أيضا يبحثون عن الخلاص في رحلة القطار المنعزلة عن صراخ المدن وضجيج الهاتف؟
تميزت الرحلة بسلاسة ملفتة على متن قطارات "تي جي في" السريعة، مع إمكانية الحجر المسبق إلكترونيا، وخيارات متعددة من المقاعد المريحة.
وبعد ذلك، يكمل المسافر طريقه نحو لاكس بقطارات إقليمية تمر عبر مشاهد بانورامية خلابة. الأسعار تبدأ بحوالي 200 يورو في الدرجة الثانية، ونحو 300 يورو للدرجة الأولى.
وبمجرد الاقتراب من حدود سويسرا، تغير كل شيء. بدأت الجبال تلوح في المشهد والهواء يبدو أصفى، حتى من الزجاج الذي يفصلني عنه. ولم أعرف أنني دخلت بلدا أوروبا آخر سوى بإشعار الهاتف الذي يخبرني بضرورة تفعيل خدمة التجوال الدولي "Roaming".
في زيورخ، أخذت قطارا آخر نحو بلدة شور التي تبعد بنحو ساعة ونصف باتجاه الجنوب الشرقي في منطقة كانتون فاليه، عبر فيون وسيير وبريغ. ومع مرور الوقت، أصبح هناك سكون غريب يرافقني، وكل محطة كانت بمثابة قصيدة قصيرة تبدأ وتنتهي دون إزعاج أحد.
أخيرا، وصلت إلى لاكس، وهي قرية صغيرة تحيط بها الجبال، دون ازدحام أو صخب، فقط بيوت خشبية راقية وزهور تزين الشرفات، وماء يجري في جداول لا يكتب نغمتها سوى صيف جبال الألب المعتدل.
انتهت رحلتي إلى لاكس كما تنتهي الأغاني القديمة، بشجن لا يخلو من الحنين ووعد بأن أزورها مرة أخرى. شربت قهوتي الأخيرة في منتجع روكس ريزورت، ومشيت خطوات قليلة إلى محطة الحافلة المقابلة له.
كانت هذه الوجهة الأولى من رحلتي إلى سويسرا فسحة للاستراحة والتأمل. والآن، أعد حقيبتي بتجاه دافوس. صعدت إلى القطار المحلي المتجه إلى محطة بريغ الصغيرة التي تعد حلقة الوصل بين الشمال والشرق.
ومن هناك، عبرت إلى تسيرمات، ثم إلى شور حيث تتقاطع السكك وتتداخل التضاريس، وتكثر الأنفاق التي حُفرت في أعماق الجبال الألبية منذ زمن.
بدأ المشهد مختلفا تماما هنا، تبدو كل نافذة كلوحة زيتية متحركة: أبقار سويسرية متناثرة هناك وهناك على المروج الخضراء وكأنها نقط بيضاء في نغمة موسيقية، وجداول تنساب من قمم الجبال مثل جمل شعرية، وقرى ببيوت صغيرة وكأنها خارجة للتو من كتاب قديم، أو أمنيات تنتظر من يقطفها بعد غياب.
قرأت الكثير عن منطقة غراوبوندن، جنوب شرق سويسرا، وعرفت أنها من أفضل الوجهات التي تبهر زائريها بالمناظر الجبلية الخلابة والبحيرات الصافية والشلالات المنعشة.
وبفضل كرم الضيافة السويسري العريق، تعد جنة على الأرض لعشاق الرياضات الخارجية ومحبي المشي لمسافات طويلة، وراكبي الدراجات الجبلية والباحثين عن الطبيعة ببساطة.
وفي كل مرة كنت أبدل فيها القطار، أشعر كأنني أخلع ما علق بي من أفكار وأتوشح رداء بتفاصيل جديدة. وقبل الوصول ودّعتني سيدة مسنة كانت تجلس بجانبي، قائلة "في دافوس، لا تُلاحقي الجبال.. دعيها هي من تأتي إليك، فلها كثير من الحكايات المخبأة".
صور خلابة من منطقة غراوبوندن وهي من أفضل الوجهات السويسرية التي تبهر زائريها (الجزيرة)في كلماتها شيء من الشعر والحكمة الجبلية التي لا نجدها في الكتب، بل من دروس وخبرات سنوات طوال. ومن لاكس إلى دافوس أيقنت بأن الطريق وسيلة لتعلم عبرة مميزة، أو الوقوف عند موقف مختلف يترك فيك أثرا لا يُمحى، وبلا تكلّف.
كان صباحا دافوسيا منعشا، تشعر فيه أن الجبال تستيقظ على مهل. غادرت فندق هارد روك التاريخي نحو محطة القطار لخوض تجربة أخرى. وفي الطريق مررت بالمباني المصطفة في الشوارع بهندسة صارمة وهدوء نخبوي باذخ.
جسر فيسنر الحجري هيكل حجري شامخ بُني في عام 1908 (الجزيرة)انطلقت نحو جسر فيسنر كأنني أهرب من الحاضر لملامسة لحظة من التاريخ، فرحلة القطار للوصول إلى هناك لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل عبور حر نحو عشرينيات القرن الماضي.
من مايو/أيار إلى أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، يعمل القطار التاريخي على سكة حديد ريتيان (RhB) بين دافوس بلاتز وفيليسور مرتين يوميا في كل اتجاه، بسعر التذكرة العادي أو حتى مجانا مع بطاقة فيليسور للضيوف، والتي يمكن الحصول عليها عند حجز فندق بالمنطقة.
وفي أقل من 40 دقيقة، تأخذك الرحلة عبر مضيق زوغن الرومانسي، وفوق جسر فيسنر المهيب إلى فيليسور. تجرّ قاطرة "بوبو 1" الأسطورية عربات السكك الحديدية التي تحمل ذكريات الماضي وعرباتها المفتوحة التي تجعلك راكبا ومتفرجا في الوقت ذاته.
القطار التاريخي يتميز بالمقاعد الخشبية العتيقة (الجزيرة)المقاعد خشبية برائحة قديمة، تشعرك كأنك تجلس بالقرب من ذاكرة أحدهم جلس في مكانك منذ 120 عاما. أما القطار فيتحرك ببطء، ليس لأنه بطيء، بل لأنه يعرف قيمة الطريق والجبال التي يعبر في قلبها.
وبين غابات الصنوبر الكثيفة والوديان التي تتدلى من الجبال مثل النوايا المعلقة، يظهر جسر فيسنر الحجري. هيكل حجري شامخ بُني عام 1908. يحتضنك وأنت تمشي عليه ويخيفك في آن واحد لأن تحته الهاوية.
مشيت مدة 10 دقائق لأشاهد الجسر الحجري من بعيد وتتوضح لي صورته الكاملة، ورأيت كيف تعبر القطارات من فوقه وكأنه خيط رفيع يصل ضفتين من الحياة. وهنا لا ضوضاء ولا بشر، فقط أنا والجسر، والهواء العذب الذي يغمر رئتي كما لو كان يردد أغنية نسيتها الأرض.
الرحلة بالقطار من باريس إلى لاكس ثم لدافوس وانتهاء بجسر فيسنر الحجري كانت انتقالا تدريجيا من الصخب للهدوء (الجزيرة)رحلتي بالقطار من باريس إلى لاكس، ثم إلى دافوس، وانتهاء بجسر فيسنر الحجري، كانت انتقالا تدريجيا من الصخب إلى الهدوء، زمن المدن الكبيرة المزدحمة إلى تفاصيل الطبيعية الدقيقة.
فكل خط حديدي وكل محطة عبرت منها كشفت وجها آخر من وجوه السفر: السفر كحالة روحية، لا كتنقل فقط، وبعض المغامرات لا تحتاج إلى أكثر من نافذة ووقت كافٍ.