هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان *، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN .
لم تعد الحدود هي الخطوط الفاصلة للمنطقة، بل أصبحت الممرات هي التي تُحددها. فالشرايين، كخطوط الأنابيب والسكك الحديدية وكابلات الألياف الضوئية وطرق المساعدات، تُشكل الآن الخريطة الاستراتيجية للشرق الأوسط. فهي لا تربط المدن فحسب، بل تُعيد تعريف النفوذ.
في ظلّ التشظّي الذي نعيشه اليوم، لا تُعد الممرات بنية تحتية محايدة، بل هي إعلانات نوايا. فهي تُظهر من يتحكم في تدفقات الطاقة والسلع والبيانات والأشخاص، ومن يتخطاه. كما تكشف من يملك النفوذ، ومن يُهمَل.
أصبحت ممرات المنطقة أدوات للتنافس، لا للتكامل. فهي تعكس رؤى قديمة أعيد إحياؤها، وضرورات جديدة تولدت من رحم الأزمة.
الممر الاقتصادي الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي ( IMEC )، الذي كان يُشاد به سابقًا كثقل موازن لمبادرة الحزام والطريق الصينية، أصبح الآن متوقفًا. لقد شلّت حرب غزة، وانهيار التطبيع السعودي-الإسرائيلي، والجمود الدبلوماسي بين الأردن وإسرائيل، ساقه الغربية. لم تُسفر المحادثات في دلهي الشهر الجاري إلا عن خطاب حذر بشأن تسهيل التجارة، وليس عن التنفيذ. لا تزال ساقه الشرقية، التي تربط الهند بشركائها في الخليج، قابلة للاستمرار، لكن مستقبله يعتمد على الثقة، لا على المسارات.
في غضون ذلك، أشعل ممر "زانجيزور"، الذي أُعيدت تسميته هذا العام بـ"طريق ترامب للسلام والازدهار الدوليين"، عاصفة جيوسياسية. بوساطة واشنطن، لربط أذربيجان بجيب نخجوان التابع لها عبر أرمينيا، يتجاوز هذا الممر كلا من إيران وروسيا. وتعتبره طهران تهديدًا وجوديًا. وحذر مسؤولون إيرانيون من أن الممر "سيصبح مقبرة" للنفوذ الأمريكي، بينما ألمح الحرس الثوري إلى الرد بمنع السفن التابعة للولايات المتحدة من المرور في مضيق هرمز.
لم تثنِ هذه الظروف تركيا عن المضيّ قُدُمًا في مشروع خط سكة حديد يربط كارس بنخجوان هذا الشهر، واصفةً إياه بـ"العصر الذهبي للتجارة العالمية". تُصرّ أرمينيا على أن الممر سيعمل تحت سيادتها، لكن الرمزية واضحة: فالممرات أصبحت أدواتٍ للالتفاف الاستراتيجي، لا للتنمية المشتركة.
تُشيّد المنطقة المزيد من الممرات، لكن الثقة لا تتسع. تُشكّل خطوط الأنابيب والطرق والكابلات المتنافسة مناطق جغرافية متنافسة. تسعى كل دولة إلى استغلال نفوذها كمركز عبور، وتخشى كل منها الإقصاء.
تُسرّع الحروب والحصار هذا المنطق. أزمة البحر الأحمر خير مثال على ذلك. فقد أجبرت هجمات الحوثيين شركات الشحن العالمية العملاقة على تغيير مسارات سفنها حول رأس الرجاء الصالح، مما أضاف من 10 إلى 14 يومًا إلى أوقات العبور ورفع التكاليف. وارتفعت أقساط التأمين بشكل كبير. وانخفضت حركة المرور في قناة السويس بأكثر من 50%. وأصبح مضيق باب المندب، الذي كان شريانًا حيويًا، الآن نقطة اختناق خطرة.
بخلاف أوروبا، حيث المؤسسات تُنظّم وتُحكّم، يعتمد الشرق الأوسط على صفقات هشة وعلى القوة. لا وجود لحكم الممرات، بل لسياسة الممرات فقط.
يُقدم خط سكة حديد الحجاز مثالًا مُشابهًا. بُني بين عامي 1900 و1908 ليربط دمشق بالمدينة المنورة، ومُوّل من مساهمات إسلامية شاملة، وكان يُنظر إليه على أنه شريانٌ مُوحِّدٌ للحج والإمبراطورية. انهار تحت وطأة التخريب والحرب والثورات القومية. كان هناك إجماع، لكنه لم يكن كافيًا. فبدون اصطفاف سياسي مستدام، أصبحت حتى المشاريع المشتركة أهدافًا.
تواجه ممرات اليوم المعضلة نفسها، ولكن تحت ضغوط أشد. بعضها عبارة عن خطط قديمة مُعاد صياغتها، أُعيد إحياؤها بفعل المنافسة الجيوسياسية. والبعض الآخر عبارة عن متطلبات عصر جديدة: ممرات الطاقة المتجددة، وشبكات الهيدروجين، والكابلات الرقمية. جميعها تُختبر بتغير المناخ، وتوازنات القوة المتغيرة، والتنافس على الموارد.
تُقوّض رؤية IMEC للربط القاري الآن بسبب التشرذم الإقليمي. وتطغى تهديدات إيران وانزعاج روسيا على قدرة ممر زانجيزور على ربط آسيا الوسطى بأوروبا. وتتحول الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر من مورد إلى عبء. والنمط واضح: الطموح دون ثقة هو نقطة ضعف.
تواجه المنطقة خيارًا. إما أن تظل الممرات أدوات تنافس، هشة، مُسيّسة، وقابلة للاستغلال. أو يُمكن إعادة صياغتها كأصول مشتركة. الشبكات المشتركة، والممرات المتجددة، وطرق التجارة الشاملة، من شأنها أن تُحوّل منطق الإقصاء إلى التعاون.
يتطلب هذا أكثر من مجرد هندسة؛ بل يتطلب خيالًا سياسيًا. يمكن لترابطات الطاقة المتجددة أن تعزز الاعتماد المتبادل. ويمكن حماية الممرات الرقمية بشكل مشترك. ويمكن تأمين الطرق البحرية بشكل جماعي. الحوكمة هي العنصر المفقود.
لا يزال خط IMEC الشرقي، الذي يربط الهند بشركائها في الخليج، واعدًا. تُشكل البنية التحتية الرقمية للهند، وطموحاتها في مجال الهيدروجين الأخضر، وعلاقاتها التجارية مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، أساسًا راسخًا. لكن النجاح يعتمد على الثقة السياسية. فبدونها، حتى أكثر الممرات طموحًا يبقى مجرد نموذج.
أصبحت الممرات الآن شريان حياة وساحة معركة في المنطقة. فهي تكشف من يمسك بزمام السلطة ومن يُتجاهل. ممر زانجيزور، وتعثر مشروع IMEC ، وخطوط الأنابيب العراقية المتنازع عليها، واضطرابات البحر الأحمر، كلها تُبرز حقيقة واحدة: الشرق الأوسط لا يفتقر إلى المشاريع، بل إلى الثقة.
الخيار واضح. إما الاستمرار في تسليح الجغرافيا أو استخدامها للتواصل. الممرات ستُشكل أكثر من مجرد التجارة. ستُحدد ما إذا كانت المنطقة ستظل أسيرة التنافس أم ستجرؤ على تخيل التكامل.
تُرسم الخريطة من جديد. ليس بالحدود، بل بالممرات. وكل خط يحمل سؤالاً: هل سيُقسّم أم سيوحّد؟
* نبذة عن الكاتب:
إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.
ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.
كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.