في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
"أشباه الموصلات" مصطلح يبدو صعباً وغريباً، لكن في الحقيقة، لا تكاد تخلو حياتنا اليومية من استعمال أشباه الموصلات. ادخل مطبخك مثلاً وانظر من حولك: الثلاجة، الفرن، المايكرويف، المكيف، غسالة الملابس وغسالة الصحون.. اخرج من المطبخ، ستجد أيضاً أشباه الموصلات أمامك: في شاشة التلفاز، في السيارة التي نقودها، في الهاتف والحاسوب المحمول والجهاز اللوحي (التابلت)، التي لا تفارق أيدينا، وكل ما يتعلّق بها من إكسسوارات.
وقد حققت "أشباه الموصلات التناظرية" المُستخدمة في مثل هذه المنتجات، أعلى معدل نمو سنوي، لتصل مبيعاتها في عام 2021 إلى 74 مليار دولار.
وبطبيعة الحال، فإن أشباه الموصلات كذلك، تهيمن على أسواق الصناعات الثقيلة والطاقة الشمسية والصناعات العسكرية وغيرها. لكن السؤال يبقى: كيف صارت هذه المادة مُهيمنة في عالم اليوم؟
"سرعان ما أدرك فاراداي أن المادة التي كان يعمل عليها ذات طابع خاص، تخالف خاصيتها الكهربية ما كان يعمل عليه أستاذه من المعادن"
لم تكن أشباه الموصلات استثناءً في اكتشافها، فالمصادفة هي العامل الأساسي في اكتشاف العديد من الظواهر العلمية، إذ تجري ملاحظة الجديد أثناء اختبار ظاهرة أخرى معروفة. وبينما لم تكن ظاهرة أشباه الموصلات وموادها معروفةً لدى علماء الطبيعة حينئذٍ، كانت محاولات تفسير ماهية الكهرباء والإيصال الكهربي الشغلَ الشاغل لعلماء تلك الحقبة في القرن 18.
وأثناء عمل مايكل فاراداي على مركبات مختلفة، بغية فهم أثر الحرارة على الإيصال الكهربي وعلى كبريتات الفضة (Ag2S) بشكل خاص، لاحظ سلوكاً مختلفاً عن المعادن المعتادة، التي يقل إيصالها الكهربي مع ارتفاع درجة الحرارة، وهذه كانت اللبنة والشرارة الأولى.
وكعادة علماء الطبيعة، لم يكن ما وصل إليه فاراداي كافيا لشرح تلك الظاهرة، فتلا ذلك العديد من المحاولات، التي من أهمها التجارب التي أجراها ويلوبي سميث عام 1873، حين لاحظ أن قطعة من السيلينيوم (Se) تصبح عند تعرضها للضوء ناقلة للكهرباء، في اكتشاف غيّر مفهومنا عن المادة تماماً.
وهكذا تعاقبت التجارب، وسعى العلماء سعيًا حثيثًا نحو كشف مكنون تلك المواد ذوات الخواص المختلفة، إلى أن جاء عام 1908، ودرس كل من جوهان كونيشبيرغر وكي. شيلينغ، التغير في التوصيلية الكهربية مع الحرارة، ولاحظا أن هناك مواد تختلف عن المعادن والعوازل، إذ تقل مقاومة بعضها بارتفاع درجة الحرارة.
وعند عام 1914، اقترح كونيشبيرغر، أستاذ الفيزياء بجامعة فرايبورغ الألمانية، ولأول مرة، وصفًا رياضيًا أقرب إلى الدقة للمواد الصلبة تبعًا لتأثر إيصالها الكهربي بالحرارة، وقدّم بناء على ذلك تقسيمًا ثلاثيًا للمواد الصلبة:
المعادن؛ وهي المواد التي يقل إيصالها الكهربي عند تعرضها لحرارة مرتفعة. المواد العازلة؛ وهي المواد التي يتحسن إيصالها الكهربي تحسنًا طفيفًا إذا ما تعرضت لدرجة حرارة مرتفعة جداً. الموصلات المتغيّرة كما أسماها، والتي ستُعرف فيما بعد باسم "أشباه الموصلات"، وهي المواد التي يزيد إيصالها الكهربي بمجرد تعرضها لارتفاع طفيف في درجة الحرارة.
وعلى الرغم من أن العالم الإيطالي الشهير أليساندرو فولتا، قد استخدم مصطلح أشباه الموصلات، فإن المصطلح لم يشتهر إلا مع جوزيف فايس، تلميذ كوينشبيرغر، الذي صكّ المصطلح بالألمانية "Halbleiter"، وهو ما يعني حرفيا "نصف الموصل".
ولم تتوقف الاكتشافات عند هذا الحد، بل مهدت الطريق لاختراعات غيرت مجرى التاريخ، كان أبرزها "الترانزستور"؛ هذا المكوّن الصغير الذي قلب العالم رأساً على عقب. وبفضل هذا الاكتشاف الثوري، حاز مبتكروه على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1956.
"يجب أن نفعل ذلك على وجه السرعة، لأن الصينيين أبدوا نيتهم للدخول في هذا الجانب، وإن لم نسبقهم، فنحن هلكى لا محالة!".. هكذا علّق أحد مسؤولي تطوير رحلات المركبات في وكالة الفضاء الأوروبية، متحدّثاً عن النقص الذي ينبغي على الأوروبيين تداركه، بعد شرحه لأهمية تطوير الخلايا الشمسية المعتمدة على السيليكون، باعتبارها بديلاً فعالاً لغاليوم أرسينايد (GaAs) كمصدر للطاقة في المركبات الفضائية.
يُعدّ السيليكون ثاني أكثر العناصر وفرة في القشرة الأرضية بعد الأوكسجين، إذ يُشكّل نحو 28% منها، ويتواجد بكثرة في رمال الصحراء، ومن هنا تحديداً يبدأ كل شيء!
تمرّ صناعة أشباه الموصلات بخمس محطات رئيسية: الأولى؛ استخلاص السيليكون النقي من الرمال، والثانية؛ صبّ السيليكون على شكل قوالب معدنية، والثالثة؛ تحويل القوالب إلى رقاقات دقيقة، والرابعة؛ عمليات التصنيع الأولية (Frontend) بحسب الغرض الصناعي، والخامسة؛ عمليات التصنيع النهائية (Backend)، ثمّ في المحصلة يخرج لنا المنتج النهائي الذي نعرفه: معالج، شريحة ذاكرة، حسّاس كاميرا، أو غيره.. كلّ ذلك يبدأ من حفنة رمل تحت أقدامنا.
ومن المهم معرفته، أن كل خطوة من تلك الخطوات تحتوي على تفاصيل في غاية التعقيد والتداخل، وتتضمن الكثير من العمليات الكيميائية والفيزيائية، وجيش من المختصين والمشرفين والمهندسين والعلماء، الذين يقومون على تطوير هذه العمليات.
لكن ما لا يقل إثارة عن هذه العمليات الدقيقة، هو أن صناعة أشباه الموصلات ليست محصورة في دولة واحدة، ولا حتى قارة واحدة. صحيح أن هناك دولاً أكثر إسهاما من غيرها في خطّ إنتاج معيّن، لكن تبقى خارطة الإنتاج العالمية موزّعة بتعقيد شديد. فمثلاً؛ تتربّع هولندا على عرش العالم في صناعة آلات "النحت الضوئي" (Photolithography) عبر شركتها العملاقة ASML، وهي آلات تُستخدم في خطوة واحدة فقط من مرحلة التصنيع الأولية (Frontend).
في المقابل، تهيمن دول -مثل الصين والنرويج- على المراحل الأولى من صناعة أشباه الموصلات، والمتمثلة في استخلاص السيليكون من الرمال ومن ثم صبّه في سبائك وقوالب معدنية.
هذا التداخل والتكامل شديد التعقيد في العملية الإنتاجية، يجعل من المستحيل استغناء دولة عن أخرى. ومع ذلك، تسعى كل من الصين والولايات المتحدة بقوة إلى توطين كامل سلسلة التصنيع داخل حدودها، خشية أن تظل رهينة للآخرين في قطاع هو حرفيًا "شريان العالم الحديث".
بعد كلّ ما سبق، لن يبدو مُستهجَناً معرفة أن الأثر الاقتصادي لسوق أشباه الموصلات هائل، فقد بلغ حجم سوقها -بمختلف تطبيقاتها- نحو 550 مليار دولار عام 2025، ومن المتوقع أن يصل إلى 650 مليارا في العام التالي، ليستمر بالنمو حتى يتجاوز تريليون دولار بحلول عام 2034.
ومن اللافت للانتباه، أن معدل نمو هذا السوق يفوق نمو سوق المشتقات البترولية، بل سيبلغ ضعفه تقريباً بحلول الموعد نفسه.
ويتفاوت حجم هذا السوق بحسب عوامل متعددة، كأدوار الدول المساهمة ومراحل التصنيع ونوع التطبيق. فالصين على سبيل المثال، تهيمن بشكل كامل على سوق أشباه الموصلات المتعلق بالطاقة الشمسية، ولا تدانيها أي دولة في هذا التطبيق.
على الجانب الآخر، تتفوق تايوان في مراحل التصنيع الأولية للرقائق الدقيقة تحت مستوى 10 نانومترات، وهي مرحلة تكاد تحتكرها، تليها كوريا الجنوبية، في حين لا تُعد الصين والولايات المتحدة من الدول الرائدة في هذا المجال.
قد لا يتعجب المرء إذا أدرك الأهمية الاستراتيجية لهذه الصناعة، خاصة إذا ما علمنا أن كل الجهود المبذولة في مجال الذكاء الاصطناعي والحواسيب الكمومية (Quantum computers) مرهونة بتطوير رقائق ذات كفاءة تشغيلية عالية، فالسباق المحموم اليوم ليس خاصاً بتطوير الهواتف المحمولة أو السيارات، بل يتعدّاه إلى الطائرات المسيرة والصواريخ الدقيقة. ومن يتحكم في هذه التقنية، يحسم الصراع لصالحه، وتكون له الكلمة العليا في حروب الميدان، وما نحن عما يجري في فلسطين وأوكرانيا ببعيد!
لهذا السبب، فإن النزال الشرس بين الصين وبين الولايات المتحدة وأوروبا لا هوادة فيه. أتذكر صاحبنا الذي كان يحذّر من انطفاء شمس القارة العجوز إذا ما أتيح للصين قيادة تطوير ألواح الطاقة الشمسية كمصادر طاقة للمركبات الفضائية؟ تخوّفه هذا، يحيلنا إلى أن النزاع لم يعد مقتصرا على الأرض، بل يمتد إلى سمائها أيضًا.
ولعل هذا ما دفع كريس ميلر، صاحب المؤلَف الشهير "حرب الرقائق" (Chip war)، إلى الاقتباس بذكاء من الرواية الأسترالية "فتيات الترانزستور" الجملة التالية: "كن يرتدين زيّاً غربيّاً، ويتمايلن تمايل الشرقيات في غنجهن!".
وكي نزيد الأمر إيضاحًا، ففي عام 2022 أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن، مرسوما سُمي "قانون الرقائق" (Chip Act)، وذلك بعد أزمة كورونا التي كشفت هشاشة سلاسل التوريد العالمية، وأثرت بالسلب على إنتاج الرقائق، تحديداً في تايوان، وهو ما أصاب الصناعات المرتبطة بالرقائق بالشلل (وهي غالب الصناعات في الحقيقة!).
وعلى إثر ذلك، تصاعدت وتيرة التوتر بين الولايات المتحدة والصين، بعدما أشيع عزم بكين احتلال تايوان، ليس فقط بسبب الخلافات السيادية التاريخية، ولكن أيضاً لما تمثله الجزيرة اليوم من ثقل تقني عالمي، وبالتالي الاستحواذ على تقنية ومقدرات مصنع TSMC؛ أحد أهم منشآت إنتاج الرقائق المتقدمة في العالم.
وبموجب هذا القانون، أمدت إدارة بايدن شركات الرقائق بحوالي 53 مليار دولار، خُصّص قرابة 20% منها للتطوير والبحث العلمي، كما أغرت كل العاملين في المجال بخصم ضريبي يصل إلى 25%، في محاولة لاستعادة زمام المبادرة ومنع انزلاق التقنية من قبضة الغرب.
كذلك، دق الاتحاد الأوروبي ناقوس الخطر، فأصدر قانونا يمنح العاملين في المجال قرابة 45 مليار دولار، في سبيل الاستقلال عن تصنيع أشباه الموصلات خارج دول الاتحاد.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن ألمانيا في عهد مستشارها أولاف شولتز -الذي وصف أشباه الموصلات بأنها "بترول القرن 21"- دعمت سوق أشباه الموصلات بنحو 40 مليار دولار، فاستقطبت مثلاً شركتي Intel الأميركية وTSMC التايوانية، وأدمجتا مع نخبة الصناعات الألمانية مثل Bosch وInfenion، في مشروع أطلق عليه اسم ESMC، في خطوة استباقية لنقل التقنية التايوانية إلى أوروبا واستقلالها عن العالم.
كل ذلك، دفع الصين إلى المسارعة في حيازة التقنية بشتى السبل. ففي عام 2023، سرق أحد العاملين الصينيين بشركة ASML الهولندية -المتخصصة في تصنيع آلات الطباعة اليدوية- معلومات وبيانات حسّاسة من الشركة.
وفي إطار الحرب المحتدمة بين الصين والولايات المتحدة، أوعزت الأخيرة للحكومة الكندية باعتقال منغ وانزو، المديرة المالية وابنة مؤسس شركة "هواوي" الصينية، المنافس الأبرز لشركة "آبل"، وذلك أثناء مرورها بمدينة فانكوفر.
هذا عدا عن العقوبات التي وقّعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فترة رئاسته الأولى، على الشركة ذاتها، والتضييق الذي فرضه على الصين لمنعها من الوصول إلى التقنيات المختلفة والمتعلقة بمراحل تصنيع أشباه الموصلات. ولهذا كلّه، فإن وصف ما يجري بأنه "حرب"، ليس مجازاً ولا مبالغة.
من البدهي، أن كل أمة من الأمم تصبو إلى أن تكون في المصاف بين أقرانها، ومع هذا النزاع المحموم لإيجاد موطئ قدم في عالم القرن 21، لا بد أن نضع نصب أعيننا المساهمة ولو في زاوية من الزوايا فيما يتعلق بأشباه الموصلات.
ومن طبيعة التقنية الحديثة أنها تعتمد بشكل كبير على المختصين في المجال، وهذا ما لا ينقصنا كعرب، فالمختصون في مراحل تصنيع أشباه الموصلات، سواء في الصناعة أو في المجال الأكاديمي، ليسوا قلة. صحيح أننا بحاجة إلى المزيد، خاصة إذا ما علمنا أن العالم أجمع، باستثناء الصين، يعاني من قلة المختصين المشتغلين في المجال، إلا أن ما هو موجود اليوم قد يشكل نواة أولى لبناء مشروع علمي صناعي واعد.
ومّما يشكل فرصة إضافية، أن الاستثمار في إنشاء مراكز البحث العلمي المختصة بصناعة أشباه الموصلات ليس حكرا على دولة من الدول، وهذه الميزة الأساسية لهذا الصناعة، مما يجعلها مجالاً مفتوحاً لكل من امتلك الإرادة والرؤية، خصوصاً إذا ما تم الاشتغال بالمراحل التي لا تمثل خطرًا وجوديا على القوى العظمى.
فعلى سبيل المثال، لا يعتبر مجال استخلاص السيليكون من الرمال مُعقّداً جداً، خصوصاً أن عالمنا العربي الإسلامي يحوي مساحات شاسعة من الرمال ذات الجودة العالية، إذ تحتوي على نسب عالية من السيليكون النقي. وهذا ما أدركته إحدى الشركات الألمانية، فشرعت قبيل اندلاع الحرب في السودان، بفحص السيليكون الموجود في رمال البلاد، ولم يُسمع لها خبر منذ ذلك الحين!
ألا يُذّكر ذلك باتفاق الخديوي إسماعيل، الذي منح المستعمر الحقَ في الانتفاع من قناة السويس مقابل مبلغ يصعب تذكره لضآلته؟! فلا أدري: هل هذا مما يخفى على المختصين والمهتمين -وما أكثرهم- أم أن العيب فينا، أم تُرانا لا نتعظ من التاريخ فنكون كالذين يكررون مآسيهم بأيديهم، أم أن الحال كما قال الشاعر:
لو كنتُ مِن مَازِنٍ لم تَسْتَبِحْ إِبِلِي بنو الَّلقِيطَةِ مِن ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَا
لكننا لسنا من مازنٍ ولا مازن منّا..