في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
"لقد مصَّت دماء الأمم، وحطَّمت روح الحضارات، وجعلت شعوبا كاملة أسيرة القيود الخفية للاستعباد المالي"، بتلك الكلمات وصف المفكر الروسي ألكسندر دوغين الليبرالية التي يستند إليها النظام العالمي منذ نهاية الحرب الباردة .
يبدو لأول وهلة وكأن الجُملة جزء من طرح اشتراكي أو شيوعي، لا سيَّما أن الكاتب روسي، مما يدفعنا إلى تصوُّر أن ثمَّة صحوة أو نوستالجيا سوفياتية لربما دفعته لكتابة تلك الكلمات. بيد أن دوغين أبعد ما يكون عن اليسار والشيوعية، التي وُلِد وترعرع في ظل هيمنتها ويمقتها بشدة في الحقيقة، بل ويُمجِّد مَن اعتبرتهم أعداءً لها، مثل الفيلسوفيْن نيتشه وهايدغر.
في كتابه "ثورة ترامب"، يتحدَّث دوغين بحماس عن "الثورة" التي يقودها صعود ترامب حول العالم، وتساعد على حد وصفه في إنهاء الليبرالية العالمية، وتبُث الروح من جديد في أفكار الانبعاث القومي والحضاري كما يُعرِّفها المُفكر الروسي.
ترامب في نظر دوغين ليس يمينيا مجنونا، بل انعكاس لصحوة حضارية غربية، ثمَّة مثيل لها على الجهة الأخرى من العالم في روسيا بقيادة بوتين ، وفي الصين بقيادة شي جين بينغ ، وفي الهند بقيادة القومي الهندوسي ناريندرا مودي .
وترامب بالتحديد، بالنظر إلى كونه الرجل الذي قلب الأمور رأسا على عقب في الولايات المتحدة، عُقر دار الليبرالية العالمية، يُعَد صاحب الثورة الأهم.
"بينما تُعَد فترة ترامب الأولى اضطرابا مؤقتا، فإن فترته الثانية وانتصاره الانتخابي يُشكِّل ثورة حقيقية"، بهذه الكلمات يصف دوغين عودة ترامب كي "يزلزل بيروقراطيات واشنطن وبروكسل" (يقصد الاتحاد الأوروبي والدولة الأميركية)، وكيف تُعَد تجسيدا لانبعاث حضاري غربي ضد النخب الليبرالية، وثورة لربما تفوق في أهميتها الانتفاضات التي أسقطت الاتحاد السوفياتي عام 1991، بل وربما الثورة البلشفية نفسها لعام 1917، وهي مبالغة ليست غريبة على كتابات دوغين المليئة بالمبالغات، وليست غريبة على رجل، مثله مثل الكثير من القوميين في روسيا، يُحمِّل السوفيات مسؤولية جزئية عن انسحاق روح روسيا أمام المادية.
"حين ننتصر على أوكرانيا، سنصبح أقوى ألف مرة".
وُلد دوغين في موسكو عام 1962 لأسرة تنتمي إلى المؤسسة السوفياتية، فقد عمل والده جنرالا في الاستخبارات العسكرية، أيقونة النظام والانضباط والتراتبية الحديدية. لكن دوغين، مُتفلِّتا من القبضة الأبوية، أدار ظهره باكرا للسلطة السوفياتية، باحثا عن الخلاص خارجها وخارج أفكارها المادية.
منذ نعومة أظفاره، مال دوغين إلى قراءة الكتب الممنوعة، من نيتشه إلى هايدغر، ومن بلاتونوف ويوليوس إيفولا إلى الغنوصيين المسيحيين، غير آبه بالمناهج الرسمية التي رأى فيها محاولة لتجميد الروح.
عند التحاقه بمعهد الطيران في شبابه، لم يسعَ دوغين إلى إيجاد مهنة، بل إلى نفق سري يمر عبره إلى دوائر التصوُّف والنقاشات الوجودية، حيث انخرط هناك في مجموعات شبابية تمزج بين الميراث الصوفي الأرثوذكسي والغنوصية الأوروبية. كان يبحث عن صيغة جديدة للكينونة، ليست اشتراكية ولا ليبرالية، بل صيغة تأخذ الوجود إلى ما وراء النفعية، إلى الأرض باعتبارها وعاء للروح.
لم يكن تمرُّد دوغين على أبيه مسألة عائلية أو نفسية فحسب، بل لحظة تأسيس لرحلة فكرية وفلسفية تمرَّد فيها على كل ما في النموذج السوفياتي من تغييب للذات في الحزب الحاكم، وعلى كل ما تنطوي عليه الحداثة الأوروبية من تفريغ للمعنى. كان دوغين يشعر أن أباه يُمثِّل دولة لا يرى فيها نفسه، وأنه يحتاج إلى ميثولوجيا (علم دراسة الأساطير) جديدة تملأ هذا الفراغ، حتى تحوَّلت رغبته في القطيعة مع النسق السائد إلى مشروع كُلي يسعى لهدم النموذج الغربي، وبناء رؤية بديلة ترتكز على تقاليد روحية وقومية.
منذ شبابه، طُرِد دوغين من أحد المعاهد التقنية بسبب أفكاره التي وُصفت بـ"الهدَّامة". ومع ذلك لم ينسحب، بل اندفع نحو تأسيس ذاته عبر حلقات ثقافية سرية، قرأ فيها وناقش، وكتب بحثا عن بديل فكري يتجاوز الماركسية المنهارة والليبرالية الصاعدة.
في عقل دوغين يلتقي الفكر الأرثوذكسي بالقومية الروسية، حيث يُطل علينا بوصفه كاهنا يُحرِّك خرائط العالم بقواعد مستوحاة من الميتافيزيقا، مستخدما الفلسفة ذاتها مُحركا لمصير أمة بأكلمها، وينهل من الميتافيزيقا والتاريخ على حدٍّ سواء، عاقدا العزم على أن يمنح روسيا وجهها الإمبراطوري من جديد، وهذه المرة باسم القومية المتمردة على الليبرالية، والمصير الذي تُحتّمه الجغرافيا، وليس باسم الثورات العُمَّالية أو حقوق الكادحين حول العالم.
غير أن هذا السحر الفكري لا يخلو من نذير خطر، إذ سرعان ما يتحوَّل خطاب دوغين، بثقله الأنطولوجي (فرع من الفلسفة يبحث في طبيعة الوجود)، إلى أداة لتبرير النزعات التوسُّعية، ورسم خطوط الدم على الخرائط. في قلب نقده للحداثة، يحفر دوغين سردية متمردة على العقل التنويري، ومؤسَّسة على ميثولوجيا تستعيد فكرة "القدر الأوراسي"، وتجعل من الجغرافيا الروسية مركزا كونيا لصراع الحضارات، ورغم أنه يدَّعي صياغة نظرية سياسية رابعة بعيدة عن الليبرالية والفاشية والشيوعية، فإن الكثيرين في الواقع يرون في فكره خطوطا متقاطعة مع المنظّرين القوميين والنازيين من أربعينيات القرن الماضي.
"إن فكرة الدولة الروسية ضاربة بجذورها في الأديان التقليدية والأرثوذكسية، وفي الشعوب الأصلية لبلدنا، التي تُعد روسيا وطنهم الأم الوحيد".
في كتابه المرجعي "أسُس الجغرافيا السياسية: مستقبل روسيا الجيوسياسي"، قدَّم دوغين رؤيته الكبرى للعالم وقسَّمه إلى حضارتين متصارعتين: حضارة بحرية تُمثِّلها الولايات المتحدة والغرب الليبرالي، وحضارة برية تُمثِّلها روسيا، باعتبارها نواة لإمبراطورية أوراسية روحية تواجه الغرب. لا يقرأ دوغين الجغرافيا على أنها مجرد تضاريس، بل يرى فيها مصير الأمم والدول. وليست الحدود السياسية لديه حدودا بين دول، بل هي عوائق وحواجز بين كيانات روحية ووجودية.
أما فلسفة هايدغر فإنها تُشكِّل عند دوغين الخلفية الفلسفية الأعمق، فمثلما رأى هايدغر أن الغرب انحرف عن سؤال الكينونة، يرى دوغين أن روسيا يمكنها إعادة تصويب هذا الانحراف بالعودة إلى الأرض، لا بوصفها ملكية، بل بوصفها جذرا للهوية.
والأرض في فكر دوغين ليست إقليما، بل مصير، وكل افتراق عن الجغرافيا هو افتراق عن الوجود. وهكذا، يصبح الكيان الروسي الحارس الأخير للحقيقة الوجودية، والمواجهة مع الغرب ليست صراعا على النفوذ، بل صراع على المعنى.
من هنا يولد كتاب دوغين الثاني الأكثر إثارة للجدل "النظرية السياسية الرابعة"، الذي يعلن فيه القطيعة مع ثلاث نظريات سياسية حكمت العالم الحديث: الليبرالية، والشيوعية، والفاشية، داعيا إلى تجاوزها نحو نموذج رابع يقوم على الهوية والتقاليد والروح والأسطورة معا.
هذه النظرية الرابعة ليست مجرد بديل تقني، بل هي مشروع خلاص تتجاوز فيه السياسة ذاتها، وتتحول سؤالا أنطولوجيا، فلا يقدم دوغين هنا برنامجا سياسيا بالمعنى الكلاسيكي، بل يقدم إطارا أنطولوجيا جديدا يربط بين السياسة والكينونة. ولذلك تُعَد نظريته الرابعة محاولة لتجاوز تفكُّك الحداثة عبر استعادة مفردات العالم التقليدي، حيث تُقدَّم فكرة الجماعة المُوحَّدة على الفردانية الغربية، والأسطورة على التقنية، والرمزية على العقل الأداتي.
وجدت النظرية السياسية الرابعة صدى لها في أوساط اليمين الراديكالي الأوروبي، وفي أميركا اللاتينية، وبين بعض الأصوات في الجنوب العالمي الباحثة عن سرديات ما بعد الاستعمار، كما أثَّرت على بعض النُّخَب في أوروبا الشرقية، حيث استُحضرت في النقاشات حول السيادة الثقافية والهوية الحضارية. غير أن هذه النظرية بقيت محصورة في دوائر النخب الفكرية، نظرا لتكوينها الفلسفي العميق ومزاجها الروحي، ولم تجد سبيلا إلى ترجمتها في برامج سياسية عملية.
لا تُشكِّل المسيحية الأرثوذكسية عند دوغين خلفية دينية فقط، بل تُشكِّل أفقا أنطولوجيا متكاملا، فالدين عنده ليس محض ممارسة فردية أو طقسا اجتماعيا، بل منظومة رمزية تحاكي العمق الوجودي للكينونة. وبانفتاحه على التصوُّف الشرقي، وعلى الروح البيزنطية القديمة، جعله يرى في الأرثوذكسية الروسية سر الأمة، وحامل ذاكرتها، وأداة خلاصها من الحداثة المادية.
وقد استعاد في كتاباته رموزا روحية أرثوذكسية مثل القديس الروسي الأشهر، سيرافيم ساروفسكي، ودمجها في مقولات سياسية، ولذا تحوَّلت الكنيسة في فكر دوغين من فضاء تعبُّدي إلى حاضنة رمزية للسيادة. وحين يتحدَّث دوغين عن روسيا بوصفها قوة روحية، فهو يعنيها حرفيا: روسيا بوصفها أمة ذات طاقة ميثولوجية ورسالة حضارية وتجلٍّ أرضي للقداسة.
"على مدار ربع قرن، عمل فلاديمير بوتين من أجل تصحيح الأخطاء الفادحة والنتائج التي أدت إلى سقوط الاتحاد السوفياتي وتدمير أيديولوجيتنا ونظامنا وصناعتنا في التسعينيات".
رغم أنه لم يشغل يوما منصبا رسميا في الدولة، فإن تأثير دوغين امتد إلى دهاليز السلطة الروسية، مُلامِسا جدران الكرملين وإن بقي في الخلفية، لا يظهر في نشرات الأخبار ولا في قوائم المستشارين، لكنه حاضر في صياغة السرديات وفي الدفاع عن بوتين باستمرار، وفي اللغة التي تتبناها الدولة عندما تتحدث عن المصير، وعن العدو، وعن القدر التاريخي. وقد قال في مقابلة مع الإعلام الروسي: "يريدون مني أن أكون وزيرا أو مستشارا رسميا، لكن الحقيقة أنني أعمل من جوهر الفكرة لا من كرسي محدد".
حين ضمَّت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، وقف العالم بين مُشيد ومُندِّد، كلٌّ حسب موقعه في النظام العالمي، لكنّ متابعي دوغين وجدوها أكثر من مجرد استعادة لإقليم ضائع، فقد كانت القرم بمنزلة "أرض مقدسة" استُعيدت باسم روسيا التاريخية، وباسم أوراسيا، لا باسم الدولة الروسية المعاصرة فحسب. أما خطاب الدولة عن الهوية والغرب المُنحَل والحرب المقدسة على الانحطاط الليبرالي، فبدا وكأنه استعارة حرفية من قاموس دوغين.
كانت مضامين كتاب دوغين "أسس الجيوبوليتيك" تصعد من رفوف الكتب لتتحدث على لسان المسؤولين الرسميين. وفي اللحظة التي ضُمَّت فيها القرم وبدا صعود الهوية الروسية أوضح، ظهرت إلى الصدارة عبارات دوغين، مثل "خصوصية روسيا"، و"جدل المصير"، و"الانقلاب على القيم الليبرالية"، وأخذت تتردَّد في خطابات رئيس روسيا فلاديمير بوتين والنخبة حتى صار تمييز مَن يقتبس من الآخر أمرا صعبا. وهكذا بدا أن دوغين أصبح وكأنه "راسبوتين جديد"، فهو لا يُقرر ولا يُصدر الأوامر، لكنه ينفخ الروح في رموز السلطة نفسها ويعيد تشكيل الخيال الجماعي.
لم يكن هذا التداخل وليد المصادفة. فقد درس دوغين في الأكاديمية العسكرية العامة، وتدرب على يديه عددٌ من ضباط الجيش الروسي، وشارك في لقاءات فكرية على مستويات رفيعة، بل إن ابنه الروحي كما يُلقب، الجنرال فلاديسلاف سوروكين، لعب دورا محوريا في تطوير العقيدة العسكرية الروسية الجديدة التي تقوم على المزج بين الحرب النفسية والجيوسياسية والرمزية.
مع اندلاع حرب أوكرانيا سنة 2022، ازداد الحديث عن "روسيا التاريخية" و"الفساد الأخلاقي للغرب" و"المعركة ضد العدمية"، وكلها مفردات وردت في كتب دوغين قبل أن تتداولها ألسنة السياسيين والإعلاميين. في تلك اللحظة، بدا وكأن مشروع دوغين قد انتقل من الهوامش إلى المركز، ومن الحلقات الفكرية إلى ساحات الحرب. في كل ذلك، لم يفرض دوغين نفسه على السلطة، بل أقنعها بأنها بحاجة إلى أسطورة وميثولوجيا وسردية وجودية: "روسيا ليست دولة، بل مصير، وهذه المعركة ليست معركة حدود، بل معركة بين كينونتَيْن".
"إن ألم فقدان الابنة يُشبه موت نصف الروح. لم تكن داريا تلميذة فقط، بل كانت امتدادا لفِكري، ونورا في طريق النظرية الرابعة".
في مساء صيفي من أغسطس/آب 2022، كانت موسكو غارقة بين الاحتفالات الرسمية والقلق المتصاعد من حرب تزداد اتساعا في أوكرانيا، حين دوى انفجار مفاجئ في إحدى ضواحي العاصمة. لم يكن الهجوم يستهدف موقعا عسكريا، ولا مبنى رسميا، بل سيارة صغيرة تحمل على متنها فتاة في مقتبل العمر، هي داريا دوغينا، ابنة الفيلسوف الروسي، التي احترقت في لحظة واحدة، وتركت والدها جاثيا على الأرض، مذهولا، قابضا على رأسه وكأن الكون انهار فوقه.
لم تكن داريا مجرد ابنة بالمعنى العائلي المباشر، بل كانت استمرارا حيًّا لفكر ألكسندر دوغين، فهي صحفية ومحللة سياسية ومثقفة صاعدة، ومَثَّلت التجسيد العملي لأطروحات أبيها، حيث دافعت عن النظرية السياسية الرابعة، وهاجمت الليبرالية الغربية، ودعت إلى فجر أوراسي جديد. في البرامج الحوارية كانت تتحدث بلهجة تشبه صوته، وفي مقالاتها تتردد أفكاره، وكأنها امتداد عضوي له، لا مجرد قريبة دم.
ولكن حتى هذه المأساة تحوَّلت في قاموس دوغين إلى لحظة أنطولوجية. وقد كتب بعد ذلك أن داريا لم تمُت عبثا، بل ارتقت في سبيل "الروح الروسية"، وأن موتها كشف مرة أخرى الفرق بين حضارة تُقدِّم شهداءها قربانا لفكرة كونية، وحضارة تغرق في النسبية العدمية.
وقد جعل دوغين من فاجعته وثيقة إدانة جديدة ضد الغرب، وضد كل مَن لا يؤمن برسالة روسيا "الكونية". وزاد اغتيال داريا من رمزية دوغين داخل التيارات المحافظة والروحانية في روسيا، حيث بدأ البعض يتحدث عنه بوصفه "أبا شهيدا"، و"راهبا سياسيا" دفع ثمن أفكاره من دماء أسرته. وبينما وُجِّهت أصابع الاتهام إلى الاستخبارات الأوكرانية، أخذت مأساة داريا بُعدا تعبويا في الأوساط الأوراسية، باعتبارها ضحية في "حرب الحضارات".
لم تكن داريا حلقة عرضية في حياة دوغين، بل عقدة روحية وفكرية. وكان موتها بمنزلة اختبار لقدرة الفلسفة على الصمود أمام الألم، وقدرة المفكر على تحويل الجرح إلى سردية. وفي عالم دوغين، حتى الموت لا ينتهي عند عتبة الفناء، بل يتحول إلى تَمثُّل جديد للرسالة، إلى صرخة أخرى في ساحة معركة المعنى.
"نحن نحتاج إلى نخبة تفكر في المستقبل، نخبة روسية تراثية ومُحافظة بحق، ونحتاج إلى تلك الفاعلية الروسية في بناء دولتنا".
رغم الهالة الأسطورية التي تحيط بألكسندر دوغين داخل أوساط المحافظين القوميين والتيارات الروحية الأرثوذكسية، فإن فكره لم يسلم من الانتقادات اللاذعة، حتى من داخل روسيا نفسها، بل إن بعض أبرز الأصوات الأكاديمية والثقافية الروسية عبَّرت عن مخاوفها من "المشروع الدوغيني"، واعتبرته انزلاقا خطيرا نحو أيديولوجيا شمولية مُغلَّفة بالفلسفة، بل وصفه بعضهم بأنه متطرف ومن الفاشيين الجُدد.
قبل الدخول في سرد هذه الانتقادات، لا بد من التوقف عند طبيعة العلاقة المعقدة التي يقيمها دوغين مع النخب الثقافية الروسية، فهو لم يأتِ من قلب المؤسسات الأكاديمية الأرثوذكسية، ولا من مسارات المثقفين الليبراليين. لقد كان دوما حالة هامشية تكتسب شعبيتها من قدرتها على تحدي المركز، لكن مع صعود خطابه في أوساط الدولة، تحول الهامش إلى مركز، وهنا بدأ الارتداد.
ففي جامعات مثل معهد موسكو للفلسفة، وأكاديمية العلوم الروسية، حذَّر فلاسفة كبار من انزلاق روسيا إلى "أوراسية وهمية"، مشيرين إلى أن أطروحات دوغين تمزج بين التاريخ والميثولوجيا دون أساس علمي متين، حتى إن أحدهم وصفه بأنه "روائي سياسي أكثر من كونه مفكرا"، بينما قال آخر: "إذا كانت الفلسفة تبدأ بالسؤال، فإن دوغين يبدأ بالإيمان، وهذا خطر على العقل الروسي".
لم تقتصر الانتقادات على المستوى الأكاديمي، بل تعدَّت ذلك إلى تحذيرات من تأثير فكر دوغين على السياسات الداخلية والخارجية للدولة. فالبعض رأى أن تأليه الدولة الروسية وتحويلها إلى كيان ميتافيزيقي قد يبرر القمع، ويمنح غطاء أيديولوجيا للتوسع والنزعة العسكرية. كما اتُّهم دوغين بإعادة إنتاج سرديات إمبراطورية جديدة تُقصي الأقليات، وتُشيطن الآخر، وتختزل العالم في ثنائية "نحن أو هم".
ولعل أبرز الانتقادات جاءت من داخل التيار الأرثوذكسي نفسه، حيث عبَّر بعض رجال الدين المحافظين عن تحفُّظهم على تماهي دوغين مع "أنطولوجيا هايدغر" التي يرون فيها بذورا مادية أو غنوصية لا تتفق مع العقيدة الأرثوذكسية، وقال أحد المطارنة البارزين إن "مَن أراد أن يخدم الكنيسة لا يستدعي نيتشه وهايدغر ليشرح بهما سر المسيح".
وحتى من داخل التيارات القومية الروسية، ثمة مَن رأى أن مشروع دوغين يتجه نحو مغالاة مفرطة في الطوباوية، وأن التأسيس لسياسة تعتمد على الميتافيزيقا والرمز قد يقود إلى فشل كارثي أمام العالم الواقعي المتغير. ولم ينكر هؤلاء أهمية فكره في بعث الروح القومية، لكنهم حذَّروا من تحويل هذا الفكر إلى أيديولوجيا للدولة.
أما في الغرب، فقد وصفه صحفي ألماني بأنه "ساحر يحلم بإحياء روسيا القومية على أنقاض الليبرالية والحداثة، وأخطر من أي أيديولوجي روسي منذ الثورة البلشفية". أما التقرير الأوروبي الشهير فقال عنه: "دوغين هو الدماغ الأيديولوجي وراء العدوانية الروسية الجديدة"، بينما أُدرج على "قوائم العقوبات" ومُنع تداول بعض كتبه وأفكاره في المؤسسات الغربية. ورغم تنديد الجامعات الغربية به، اعترف العديد من الأكاديميين بفرادته؛ إذ يقول أحدهم: "دوغين يقدم خريطة فلسفية للسياسة الروسية لا يمكن تجاهلها إذا أردت فهم بوتين والكرملين".
ومع ذلك، بقي دوغين صامدا وسط هذا الجدل الدائر في الداخل والخارج، بل واستفاد منه أيضا. فالنقد بالنسبة له ليس تهديدا، بل علامة على أنه يخترق الوعي ويؤسس لمرحلة انتقال. أما في نظر أنصاره، فإن هذه الانتقادات تُمثِّل بالضبط ما يحاربه: سلطة النخبة التي تأبى الاعتراف بالمقدس وتُصر على أن تبقى حبيسة النسبية والشك.
وهكذا، صار دوغين داخل روسيا نفسها شخصية حدية: إما نبيا للفجر الأوراسي الجديد، وإما صاحب بدعة فلسفية تقود إلى الهاوية. وما بين هذا وذاك، تستمر "الأسطورة الدوغينية" في التمدد، تغذيها الحروب، وتحميها الطقوس، ويشتد حولها الجدل.
"اليوم يمكننا أن نقول بثقة إن البوتينية انتصرت في الولايات المتحدة.. لقد صوتَّت أميركا من أجل "رجل مثل بوتين".
ما يجعل ألكسندر دوغين ظاهرة تتجاوز الجغرافيا الروسية هو قدرته على اختراق الأدب السياسي العالمي بنبرة روحية خارجة عن المألوف، فهو ليس مجرد فيلسوف في لحظة قومية، بل صانع لغة جديدة في توصيف السلطة والعالم وصراعاته، جامعا بين اللاهوت السياسي، والميتافيزيقا الوجودية، والجيوسياسة الإمبراطورية، ليُقدِّم للعالم نموذجا آخر لما يُمكن أن تكون عليه الدولة، ولما يمكن أن تعنيه السيادة. بعبارة أخرى، لا يقدم دوغين نقدا للعالم الليبرالي وحسب، بل يقدم تصورا بديلا له.
قال هايدغر ذات مرة إن "الطريق نحو المستقبل يمر أحيانا من طرق غير سالكة"، ولذا يبدو دوغين وكأنه استجابة لهذا النداء، شاقًّا لروسيا طريقا بين الأنقاض، مُفعَما بالأساطير والمقدسات. ولعل هذا ما يجعل من فكر دوغين مادة دسمة للباحثين والكُتَّاب حول العالم، من اليمين واليسار على السواء، إذ لا يمكن التعامل معه على أنه ظاهرة هامشية، بل مرآة قلقة لانهيار منظومة فكرية عالمية، ومحاولة روسية لإعادة تشكيل العالم بمُعجَم مختلف.
أحد أبرز أوجه النقد الموضوعي لفكر دوغين يتمثل في نزوعه إلى استخدام فلسفات كبرى -من أفلاطون إلى هايدغر، ومن شميت إلى نيتشه- لإعادة خلق صورة روسية مقدسة عن العالم، دون التوقف عند التناقضات البنيوية لتلك المرجعيات، فهو يُضفي على "الهوية الروسية" طابعا ميتافيزيقيا أبديا، وكأنها خارجة عن التاريخ، مُحصَّنة ضد التعددية أو المراجعة.
لا تقف انتقادات فكر دوغين عند حدود البنية الفلسفية لفكره، بل تتعمق أيضا في طبيعته الأداتية. فدوغين لم يتردد في وضع منظومته الفكرية في خدمة الأجندة الجيوسياسية للكرملين، خصوصا مع غزو أوكرانيا، ما جعله أشبه بـ"فوكو قيصري" يستخدم اللغة لإنتاج السلطة، لا لتحرير العقل. وتُحذِّر بعض القراءات الغربية من أن دوغين يُمَوقِف الفلسفة ويُحيلها إلى مجرد وسيلة لإحياء خطاب إمبراطوري قائم على رفض الغرب، لا باعتباره خصما سياسيا فحسب، بل بوصفه وجودا أنطولوجيا مرفوضا.
وبينما يحاول دوغين منح روسيا دورا "روحانيا-حضاريا" مضادا للغرب المادي، فإن الواقع السياسي يفترض عكس ذلك: خطاب دوغين هو الوجه الثقافي لماكينات الهيمنة، وهو صوت ميتافيزيقي لصدام الدول، لا حوار الحضارات. هكذا يبدو عالم دوغين مشبعا بالأساطير ونقد الحداثة من منطلقات روحية وقومية روسية، لكنه في المحصلة يحمل بين ثناياه بذور الانغلاق، إذ يستبدل عقلانية التنوير بميتافيزيقا شمولية لا تفسر العالم أو تحرره، بل تُقدس الأرض والثقافة، وفقا لهوية واحدة، وأرض واحدة، وإرادة واحدة.
بين هذين الموقفين المتقابلين، يبقى سؤال التلقي نفسه جزءا من فلسفة دوغين، فهو لا يقدم نفسه بوصفه صاحب "نظرية قابلة للفصل عن السياق"، بل بوصفه مجسدا لتجربة فكرية نابعة من قلب الصراع، ومن رحم حضارة تعيش أزمة هوية. ولذلك، فإن الحكم عليه لا ينفصل عن الحكم على ما يُمثِّله: هل نحن مع مشروع متعدد الأقطاب مبني على توازن الرموز والهويات؟ أم مجرد بوابة فكرية لشرعنة صدام الحضارات؟ الحقيقة أن فلسفة دوغين، بتشابكها بين الأنطولوجي والسياسي، تُجبر القارئ على اتخاذ موقف، لأنها لا تعيش في المنطقة الرمادية، بل تُعلي من شأن الانحياز، وتُطالب القارئ بأن يختار موقعه في حرب الوجود.
يثير ألكسندر دوغين، المفكر الروسي الذي يمزج بين الحكيم والمُحرِّض، عاصفة من السجالات في أوساط الأدب والصحافة. فنصوصه حافلة بشحنات رمزية وأصداء نبوءة، تُمسِك بتلابيب القارئ بين إغواء اللغة وصدام الحضارات، فلا تكاد تُفرِّق بين التأمل الفلسفي والبيان السياسي. في كتاباته، تتقاطع صورة الغرب بوصفه عدوا أبديا مع النوستالجيا الروسية، ولذا ثمَّة مَن يراه حكيم الدفاع عن الهوية الأصيلة، وثمَّة من يُصوِّره خطيبا للانغلاق والسلطوية.
قد تُدهشنا رؤى دوغين بسحرها الرمزي، لكنها تضعنا أمام سؤال موجع: متى يصبح الدفاع عن الجذور عائقا أمام احتفاء الإنسان بالتعدُّد؟ وهل ينتج عن تمجيد الهوية إلا غربة الإنسان عن نفسه، حين يُختزل في ترس داخل آلة سردية كبرى لا تحتمل الاختلاف ولا تعترف بالتعدد؟ بين الحماسة والنفور، وبين مَن يرونه فيلسوف الخلاص ومَن يرونه رائد الخراب، يبقى دوغين ظاهرة فكرية فريدة في عالمنا المعاصر، تُثير من الأسئلة أكثر مما تمنح من الأجوبة.
"إن نظرية العالم متعدد الأقطاب لا تزال مساحة غير ناضجة في العلاقات الدولية، لكن أسسها وُضِعَت بالفعل بفضل كتاباتي وكتبي ومقالاتي ومحاضراتي".
في عالم متقلِّب يتفكَّك فيه القديم دون أن يظهر الجديد بَعْد، تبرز فلسفة دوغين وكأنها صرخة تواجه العدم بمعنى ما، وتناور الفوضى بسردية كبرى مُتخيَّلة. لكن السؤال الأكثر إلحاحا: ما الذي ينتظر هذا الفكر الذي يتجاوز اللحظة، ويتعمد الغموض، ويراوح بين الأسطورة والإستراتيجية؟
لا يُعد المستقبل في نظر دوغين مجرد تطور زمني، بل مسرح لملاحم رمزية. ومع أن النظرية السياسية الرابعة لم تتحول إلى أيديولوجيا شاملة كما تمنَّى صاحبها، فإنها تظل كامنة في أذهان جماعات شتى حول العالم تبحث عن خلاص خارج السوق، وخارج التكنولوجيا، وخارج الأنساق الغربية المألوفة. أما في الداخل الروسي، فإن فكر دوغين يبقى ما بقي السؤال الوجودي حول هوية روسيا. فكل أزمة مع الغرب، وكل تشظٍّ للمنظومة الدولية، سيكون فرصة لعودة الخطاب الأوراسي بوصفه خريطة بديلة، بل يمكن القول إن فلسفة دوغين باتت تُشكِّل "اللاوعي الفلسفي" للنظام الروسي، حتى لو لم تُذكر بالاسم.
لكن مصير دوغين، مثل فلسفته، محفوفٌ بالتناقض، فهو من جهة يتحدث بلغة مقدسة في عصر مُفرَّغ من القداسة، ومن جهة أخرى يُستلهم في إستراتيجيات براغماتية ولصالح سلطة بعينها. فهل يمكن للروح أن تستمر في تأطير القرار السياسي دون أن تتحول إلى أداة؟ وهل ينجو دوغين، مفكرا ورمزا، من التشيؤ في آلة الدولة التي تحتاج إليه دون أن تعترف به صراحة؟
يبقى إرث دوغين مفتوحا على الاحتمال. قد يصبح يوما مرجعية عالمية في زمن الانهيارات، أو يتحول إلى نبوءة لم تُقرأ في وقتها، أو مجرد أداة بولغ في تصوير أهميتها، وبالغت هي نفسها في ذلك كما تشير كلماته أعلاه، واستخدمها الكرملين بذكاء في لحظة تدافع وتخبُّط السرديات حول العالم، لكنه في كل الأحوال وضع بصمته بفضل الجدل الذي يثيره باستمرار، وعلاقته بالسلطة، وتحديه لليبرالية العالمية.