في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في خطوة أثارت جدلا واسعا وُصِفت بأنها مثال صارخ على الرقابة المؤسسية، أقدمت مجموعة النشر التربوي التابعة لجامعة هارفارد على إلغاء عدد خاص من مجلة "المراجعة التعليمية" (Harvard Educational Review (HER))، كان مخصصا للتعليم في فلسطين .
ووفق تقرير نشرته "غارديان" البريطانية للصحفية المستقلة أليس سبيري، فإن الإلغاء جاء قبل أسابيع فقط من الموعد المقرر لنشر العدد.
وقد قوبل هذا القرار، الصادر في يونيو/حزيران المنصرم، بإدانات شديدة من أكاديميين اعتبروا أن ما جرى يُمثّل تقويضا خطيرا لحرية البحث الأكاديمي في الولايات المتحدة ، خصوصا في ما يتعلق بالمواضيع المرتبطة بفلسطين.
ويأتي الإلغاء في ظل تصاعد النزاع بين جامعة هارفارد وإدارة الرئيس دونالد ترامب . وذكرت سبيري في تقريرها أن إعداد هذه العدد الخاص بالتعليم في فلسطين على خلفية الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي كانت قد أدت بحلول مارس/آذار 2024 إلى تدمير جزئي أو كامل لجميع جامعات القطاع البالغ عددها 12، وتحويل المدارس إلى ملاجئ.
وفي ضوء هذا الدمار، دعت مجلة "هارفارد للمراجعة التعليمية" -وهي دورية أكاديمية مرموقة عمرها قرن من الزمن- الباحثين من أرجاء العالم كافة لكتابة مقالات تتناول التعليم في ظل الاحتلال، ودور التعليم في حركات التحرر، وكيف يتم تناول قضية فلسطين في المؤسسات التعليمية الأميركية.
وبعد أن وقّع الباحثون عقودا رسمية، وجرى تحرير المقالات بشكل نهائي، أوقفت دار النشر التربوي التابعة لجامعة هارفارد في التاسع من يونيو/حزيران على حين غرة صدور العدد الخاص، متذرعة بـ"عدد من القضايا المعقدة"، مما سبّب صدمة للمؤلفين والمحررين، حسبما علمت صحيفة الغارديان.
بعد أن وقّع الباحثون عقودا رسمية، وجرى تحرير المقالات بشكل نهائي، أوقفت دار النشر التربوي التابعة لجامعة هارفارد في 9 يونيو/حزيران على حين غرة صدور العدد الخاص، متذرعة بـ"عدد من القضايا المعقدة" مما سبّب صدمة للمؤلفين والمحررين
لكن وثائق داخلية حصلت عليها الصحيفة البريطانية تكشف رواية مغايرة. فقد صرح المؤلفون والمحررون بأنهم تعرضوا لضغوط متزايدة من دار النشر، بما في ذلك طلب متأخر وغير معتاد بإخضاع جميع المقالات لمراجعة قانونية من قِبل المستشار القانوني لهارفارد، وهو إجراء نادر عادةً ما يُطبّق على حالات فردية وفي مراحل مبكرة، وليس بعد اكتمال التحرير والتعاقد.
ويرى الكثير من الأكاديميين أن هذه الضغوط ناتجة عن الخوف من ردود فعل سياسية أو قانونية في ظل تصاعد حملة إدارة ترامب ضد الجامعات الأميركية، وسط اتهامات بتغاضيها عن معاداة السامية في الحرم الجامعي.
وقد ردّ العديد من الجامعات بفرض قيود على الاحتجاجات، ومعاقبة طلاب وأعضاء هيئة تدريس دافعوا عن الحقوق الفلسطينية، وتدقيق البرامج الأكاديمية التي تتناول موضوع فلسطين.
وفي رسالة جماعية، وصف المؤلفون مطلب التدقيق القانوني بأنه "سابقة خطيرة"، معتبرين أن إلغاء العدد بالكامل "يوجه رسالة خطيرة للباحثين حول العالم مفادها أن العقود الأكاديمية قابلة للإلغاء وخاضعة للحسابات السياسية".
مؤلفو مادة فلسطين: إلغاء العدد بالكامل "يوجه رسالة خطيرة للباحثين حول العالم مفادها أن العقود الأكاديمية قابلة للإلغاء وخاضعة للحسابات السياسية"
أما مجلس تحرير المجلة، والمكوّن من طلاب دكتوراه في هارفارد، فقد أكدوا أنهم لم يشاركوا في القرار، وأُبلغوا به قبل 30 دقيقة فقط من إعلام المؤلفين بمضمونه. وكتبوا في بيان رسمي أن القرار "يتعارض تماما مع القيم التي قادت المجلة لأكثر من قرن".
ومن وجهة نظر الغارديان، فإن إلغاء عدد كامل من مجلة أكاديمية -وهو أمر لم يُكشف عنه سابقا- يُعد تطورا غير مسبوق في قائمة متزايدة من حالات الرقابة على الخطاب المؤيد لفلسطين، كما يفيد التقرير.
ورغم أن جامعة هارفارد تقاضي الإدارة الأميركية أمام المحاكم بسبب تهديدها بقطع التمويل الفدرالي، فإن تصرفاتها الداخلية، بحسب منتقدين، تتناقض مع موقفها العلني.
وأكد بول بيلسيتو، المتحدث باسم كلية الدراسات العليا في التعليم بجامعة هارفارد، في بيان للغارديان، أن قرار الإلغاء جاء بعد 9 أشهر من النقاشات و"غياب توافق داخلي عام" حول العدد.
أما المؤلفون فكان لهم رأي مختلف. فهذه ثي ريندا أبو الحاج -وهي عالمة أنثروبولوجيا فلسطينية أميركية تعمل في كلية بارنارد التابعة لجامعة كولومبيا، وشاركت في إعداد أحد أبرز المقالات في العدد- تقول إن القرار "يمثل تخليا مؤسسيا عن مهمة الجامعة في الدفاع عن المعرفة والنقد".
وتساءلت: "إذا كانت دور النشر الجامعية نفسها لا تقف إلى جانب حرية الفكر، فما دورها إذن؟"
وفي السياق ذاته، ترى بسيري في تقريرها أن الإلغاء يُعد جزءا من نمط أوسع من الإجراءات، مضيفة أن جامعة هارفارد أقدمت مؤخرا على خفض درجة اثنين من مديري مركز دراسات الشرق الأوسط -أحدهما كتب مقدمة العدد المُلغى- كما ألغت شراكتها مع جامعة بيرزيت في فلسطين، وجمّدت مبادرة في كلية اللاهوت حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، اعتمدت الجامعة تعريفا مثيرا للجدل لمعاداة السامية كجزء من تسوية قانونية مع طلاب يهود، اعتُبر على نطاق واسع أنه يخلط بين معاداة السامية وانتقاد إسرائيل .
كان من المقرر أن يتضمن عدد فلسطين نحو 12 مقالة بحثية ومقالات رأي وكتابات أخرى حول التعليم في فلسطين وإسرائيل والشتات الفلسطيني، بالإضافة إلى الحرية الأكاديمية في الولايات المتحدة
وكان من المقرر أن يتضمن عدد فلسطين نحو 12 مقالة بحثية ومقالات رأي وكتابات أخرى حول التعليم في فلسطين وإسرائيل والشتات الفلسطيني، بالإضافة إلى الحرية الأكاديمية في الولايات المتحدة.
ومن بين تلك المقالات، دراسات حول "الإبادة الأكاديمية"، وهو مصطلح صيغ لأول مرة خلال الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة عام 2008. وتقول الغارديان إن المصطلح يصف التدمير المنهجي الذي طال المؤسسات التعليمية الفلسطينية؛ إضافة إلى تحليلات حول قمع الخطاب الأكاديمي في الجامعات الأميركية، وشهادات مباشرة من معلمين فلسطينيين يعملون في مناطق النزاع.
وكان ربيع إغبارية -وهو طالب دكتوراه فلسطيني في كلية القانون بجامعة هارفارد- قد دُعي لكتابة خاتمة العدد، لكنه رفض التوقيع على العقد بعد أن امتنعت المجلة، في أبريل/نيسان، عن تضمين بند يضمن حريته الأكاديمية.
وقال: "من المخزي أن ترفض مجلة جامعية بندا لحماية حرية التعبير الأكاديمي. والخاتمة التي كتبتها كانت تدور حول إنكار النكبة، أي التلاعب بالحقائق لتأكيد الصهيونية والتحكم في السرد المعرفي المتعلق بفلسطين. ومن المفارقة أن يُمنع نشرها".
نقاد يرون أن ما جرى يُجسد ما يُعرف الآن بـ"استثناء فلسطين" من حرية التعبير الأكاديمي، حيث تُعلّق المعايير والممارسات الأكاديمية المعتادة كلما تعلق الأمر بفلسطين
وطبقا لتقرير الصحيفة، يحاول الباحثون الآن إعادة نشر الأعمال في مجلات أكاديمية أخرى. لكن العديد منهم أعرب عن قلقه من أن ما حدث قد يُثني آخرين عن البحث أو الكتابة عن فلسطين، في وقت يتعرض فيه هذا المجال لضغوط غير مسبوقة.
وقالت تشاندني ديساي وهي إحدى المساهمات في العدد والباحثة في جامعة تورنتو، إن المقال الذي كتبته بالاشتراك مع 3 باحثين فلسطينيين، أحدهم عميد في جامعة الأزهر بغزة، كان توثيقا حيويا لتجربة التعليم أثناء الإبادة. وأضافت: "لقد خسرنا زملاء وطلابا أثناء إعداد هذا البحث. هذا ليس تمرينا أكاديميا نظريا، بل عمل عاجل في وجه الكارثة".
ويرى النقاد أن ما جرى يُجسد ما يُعرف الآن بـ"استثناء فلسطين" من حرية التعبير الأكاديمي، حيث تُعلّق المعايير والممارسات الأكاديمية المعتادة كلما تعلق الأمر بفلسطين.
غير أن ثي أبو الحاج أشارت بتفاؤل مشوب بالحذر، إلى أن ثمة تغييرا حقيقيا جارٍ بالفعل، قائلة: "نرى اهتماما غير مسبوق من الطلاب بدراسة القضية الفلسطينية. هناك وعي جديد يتبلور، والمؤسسات تحاول يائسة السيطرة على السردية، لكنها بدأت تخسرها".