غاليبولي- في مرفأ مدينة غاليبولي الذي لطالما استقبل قوارب الصيادين الإيطاليين، ترسو سفينة ليست كغيرها، لا تحمل سائحين ولا ترفع أعلام شركات، بل تستقبل وجوه أشخاص مفعمين بالأمل، وعليها الاسم التراثي الفلسطيني القديم "حنظلة".
عُرف "حنظلة" طفلا في رسوم رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي ، يظهر بقدمين حافيتين مديرا ظهره وكأنه يقول للعالم "لا ألتفت حتى تعود فلسطين "، لكنه ظهر اليوم بهيئة أخرى، على شكل سفينة محملة بالطعام والأدوية وشحنات من الضمير الإنساني، وكأن العلي يعود مجددا ليس بريشة، بل بسفينة صغيرة محملة بإيمان عنيد لكسر الحصار عن قطاع غزة .
أما سلطات غاليبولي وسكانها، فقد استقبلوا النشطاء الدوليين على متن السفينة بتسهيل كل العقبات اللوجستية وبلفتات فنية وثقافية تعبر عن تضامن كبير لكسر حصار غزة بحركة رمزية لكنها موجعة في وجه الصمت الدولي.
وأشاد عضو اللجنة الدولية لكسر الحصار أنس نيروخ بالمساعدات والتسهيلات التي توفرها سلطات غاليبولي لطاقم السفينة، مؤكدا وجود تعاون كبير من البلدية وعناصر الشرطة وسلطات الموانئ التابعة لها.
وأوضح للجزيرة نت أنه تم تنظيم أول نشاط الثلاثاء الماضي للترحيب بالسفينة، حيث قام متضامنون إيطاليون مع أطفالهم بخطوة رمزية، تمثلت في زراعة شجرة زيتون في قلب ساحة المدينة.
كما ألقى نيروخ كلمة نقل من خلالها عبارات الشكر من أهل فلسطين والسلام من بلاد الشام، أكد فيها أن دعمهم لن ينسوه، وأنهم يقفون في الجهة الصحيحة من التاريخ، وسيفتخر أطفالهم بما يقومون به اليوم، مضيفا أن "هذه الشجرة ستُثمر وستكون شاهدا على تقديمكم خطوة إنسانية في هذا العالم".
وأشار المتحدث إلى الاجتماع الذي عقد مع السلطات البحرية أمس الأول الأربعاء من أجل بحث بعض الأمور المتعلقة بتأخير موعد انطلاق السفينة حنظلة إلى يوم الأحد المقبل بسبب ظروف تقنية، قائلا "كانوا متفهمين جدا رغم كل الصعوبات والترتيبات المرتبطة، بما في ذلك تخصيص مكان لها في ميناء غاليبولي".
ومنذ وصولها إلى الميناء، يتوافد العشرات كبارا وصغارا للتعبير عن تضامنهم، سواء للتعرف على طاقم "حنظلة" والتقاط الصور، أو لتنظيم أنشطة فنية ووقفات موسيقية، بالإضافة إلى جولات بالدراجات الهوائية في أرجاء المدينة لشباب يحملون العلم والكوفية الفلسطينيين.
وبلفتات تجمع بين الإبداع والبراءة، منح الأطفال الدمى الخاصة بهم ورسوم للنشطاء لتقديمها إلى أطفال غزة، كُتب عليها "السلام" و"الحب" بألوان مختلفة.
ومن بين المنظمين لهذه المبادرة، قالت ماريغالا للجزيرة نت "نحن هنا لدعم أسطول الحرية، نرسم مع أطفالنا رسوما، سواء للأطفال في المنزل أو لبيعها وجمع بعض المال لإعطائها لسفينة الحرية. نحن جميعا هنا لنقول كفى ل لإبادة الجماعية ، وكفى 100 عام من الاحتلال غير الشرعي لفلسطين. فلسطين حرة".
بدوره، قال باولو -وهو أب لطفلين- للجزيرة نت "أخبرني بعض الأصدقاء عن السفينة فقررت المجيء مع أطفالي لإرسال رسومهم وألعابهم المفضلة، لا نساعدهم بالكثير للأسف، لكننا نعتقد أن هذه المبادرات الرمزية سترسم ابتسامات جميلة على وجوه أطفال فلسطين".
وبالقرب من السفينة، تجمع العشرات من السكان المحليين أمس الخميس، بعضهم جاء وهو يعرف جيدا تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وآخرون اكتفوا بالصمت، كمن يحدق في مشهد لا يفهم كل تفاصيله، لكنه يعرف أنه صادق.
وفي هذه المدينة الصغيرة الشاهدة على حروب القرن الماضي، وقف الأهالي هذه المرة أمام نوع آخر من المواجهة، ليس بالبنادق، بل بقلوب مشدودة إلى الضفة الأخرى من المتوسط.
ووضع العلم الفلسطيني على واجهة قلعة غاليبولي الإيطالية، وهي حصن ذو أهمية تاريخية ومعمارية عميقة في المدينة، فقد شهد هذا البناء الذي يعود تاريخه إلى العصر الروماني تحولات عديدة في ظل قوى حاكمة مختلفة، وجعلها موقعها الإستراتيجي على البحر الأيوني (أحد أفرع البحر الأبيض المتوسط ) حصنا دفاعيا بالغ الأهمية، يحمي المدينة من الغزوات على مر القرون.
ومنذ إعادة افتتاحها عام 2014، لا تعتبر هذه القلعة مركزا ثقافيا ووجهة سياحية شهيرة فحسب، بل أصبحت رمزا للصمود والقوة نظرا لتاريخها السابق، ولتاريخها اليوم باحتضانها سفينة حنظلة، التي من المقرر أن تبدأ رحلتها الأحد القادم لكسر الحصار عن أهالي غزة الصامدين في وجه قصف الاحتلال الغاشم.
وقالت ماريا، وهي من سكان غاليبولي، للجزيرة نت "نتابع الأخبار ونشاهد ما يحدث للفلسطينيين من إبادة وتجويع، إنهم يعيشون كابوسا حقيقيا، ولهذا لا نرى هذه السفن كقوارب عائمة فقط، بل رسالة إنسانية وسياسية مفادها كفى ظلما وحصارا، وهي مرحب بها في مدينتنا دائما".
كانت بداية أنشطة اللجنة الدولية لكسر الحصار عام 2009 عندما تمكنت من دخول غزة برا، تلاها تنظيم قوافل بحرية مثل قافلة أسطول الحرية " مافي مرمرة " في مايو/أيار 2010، وأسفر اعتداء جيش الاحتلال عليها آنذاك عن استشهاد 10 نشطاء. وقبل ذلك، نجحت سفينتان في الوصول إلى القطاع، ثم استمرت المحاولات حتى يومنا هذا.
وتوجهت سفينة "نور" عام 2011 من مدينة كافالا إلى تركيا، وكانت شبه سرية لكن تم توقيفها في ميناء فتحية، وبعد ذلك بـ4 سنوات انطلقت سفينة "جوليان" من اليونان، ثم قافلة أخرى في صيف 2018 حملت اسم "رزان النجار" لكنها لم تنجح بسبب عقبات من السلطات اليونانية.
وفي يونيو/حزيران الماضي، تمت قرصنة السفينة " مادلين " من قبل زوارق إسرائيلية عندما كانت تبحر في المياه الدولية، وكان على متنها 12 ناشطا وناشطة، نصفهم من حاملي الجنسية الفرنسية.
وفي هذا الإطار، يرى أنس نيروخ، عضو اللجنة الدولية لكسر الحصار، أن "مادلين" حققت أهدافها وأوصلت رسالتها، مشيرا إلى أنه استضاف 3 من ركابها في الأردن بعد إطلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي سراحهم.
ومن أمام السفينة حنظلة، أضاف نيروخ للجزيرة نت أنه "كان من الجيد زيارتهم للأردن لأن طبيعة وتضاريس البلاد لا تختلف عن التضاريس الفلسطينية، فشعروا كأنهم فعليا في فلسطين".