آخر الأخبار

الحريدية أم البندقية.. كيف تصادمت العقيدة العسكرية مع الدين بإسرائيل؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

منذ عقود، اعتمدت المؤسسة الإسرائيلية سياسة "التأجيل الإستراتيجي" في التعامل مع التوترات البنيوية داخل مجتمعها، عبر صفقات مرحلية أبرزها "الستاتوس كوو"، الذي ضمن إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية مقابل صمتهم السياسي.

ويعود استخدام مصطلح "رسالة الستاتوس كو" إلى الوثيقة التي أرسلها بن غوريون عام 1947 لرئيس حزب "أغودات يسرائيل"، حيث وضع فيها أسس التوافق بين العلمانيين والحريديم في إسرائيل المستقبلية، متناولا قضايا مثل التعليم المستقل لهم، وقدسية السبت، وقوانين الكشروت (الحلال)، وقد أصبحت هذه الرسالة مرجعية لعلاقات الدين والدولة.

ومع أن هذه السياسة نجحت في تأجيل الاصطدام، فإنها لم تزل جذور التناقض العميق بين الهوية الدينية الصارمة وإطار الدولة العلمانية، ومع تصاعد التحديات الأمنية ونزيف الجنود في الميدان، بدأت هذه التهدئة التاريخية تتهاوى، لتكشف عن خطوط تصدع لم يعد ممكنا احتواؤها.

تصاعد التوترات و"انهيار التهدئة التاريخية"

في صباح 28 أبريل/نيسان الماضي، وتحديدا أمام مكتب التجنيد في قاعدة "تل هشومير"، ظهر أحدث فصول هذه الخلافات، إذ اصطدم تياران من داخل المجتمع الحريدي نفسه -نحو 250 شابا حريديا استجابوا للاستدعاء، بحسب صحيفة "يسرائيل هيوم"- وتوجهوا للتجنيد في "لواء الحشمونائيم"، وهو عدد كافٍ لتشكيل سريّتين -واحدة نظامية وأخرى احتياطية- سيخضع أفرادها لتدريبات تمتد 8 أشهر.

إعلان

في المقابل، تجمّع العشرات من أنصار الفصيل الأورشليمي المتشدد في محاولة لمنعهم من الدخول، رافعين لافتات حملت عبارات رافضة للتجنيد، في مقدمتها الشعار الذي بات مرادفا لهذا الصراع "نموت ولا نتجنّد"، واصطدموا مع الشرطة التي تدخلت لتفريقهم بالقوة.

وقد جاء هذا المشهد التصادمي بعد إصدار المحكمة العليا أمرا احترازيا يُمهل الحكومة حتى 24 يونيو/حزيران لتبرير تقاعسها عن إصدار أوامر تجنيد تتناسب مع احتياجات الجيش، مما أضفى بُعدا سياسيا وقانونيا على التوتر، وجعل من "تل هشومير" رمزا لتحول الصدام من الهامش إلى صلب النقاش الوطني.

وبهذا، تتجاوز الاحتجاجات حدود القواعد العسكرية وتمتد إلى عمق الشارع الحريدي، حيث يترسخ الرفض ويُعاد إنتاجه بأدوات دينية وشعبية. ومع اقتراب ساعة الحسم من المحكمة العليا، يتحول ملف التجنيد إلى اختبار ملامح الاحتلال نفسه: هل هي التوراة.. أم البندقية؟

صراع الهوية

منذ بداية المشروع الاستعماري الصهيوني، سعت النخبة الحاكمة في إسرائيل إلى تشكيل هوية قومية موحدة لليهود في الشتات، معتمدة في ذلك على الجيش الإسرائيلي كأداة أساسية لتعزيز "المواطنة الإسرائيلية" وفق معايير علمانية. وكان الهدف من هذه السياسة إزالة الانتماءات الدينية التقليدية لصالح سردية "الكيان الحديث".

لكن هذا المشروع اصطدم بمقاومة قوية من التيار الحريدي المتشدد، الذي يرفض من حيث المبدأ شرعية الاحتلال ويسعى للحفاظ على هويته الدينية.

وبالنسبة لهذا التيار، خاصة الفصيل الأورشليمي، تعتبر المؤسسة العسكرية مؤسسة دنيوية تهدف إلى فرض مشروع سياسي مرفوض يتناقض مع التعاليم الدينية اليهودية، ويعمل على تغيير وعي الفرد بعيدا عن الشريعة والتوراة.

وتتناقض الهوية الحريدية، التي تلتزم بتعاليم دينية صارمة، مع الهوية العلمانية، إذ يرفضون الحداثة الغربية ومظاهرها (التكنولوجيا، وسائل الإعلام، الاختلاط بين الجنسين)، ويعيشون في مجتمعات منغلقة نسبيا، عكس التي يروج لها الجيش الإسرائيلي.

إعلان

ويبلغ عددهم في إسرائيل، وفقا لتقرير إحصائي صدر في ديسمبر/كانون الأول 2023، نحو 1.28 مليون نسمة، ما يعادل 6.13% من إجمالي السكان.

وعلى الرغم من أن بعض الحريديم يشاركون في العملية السياسية لأسباب براغماتية، فإن الغالبية العظمى لا تعترف بشرعية الدولة أو الجيش.

في هذا السياق، يقول المحلل السياسي المختص بالشأن الإسرائيلي، أيمن الحنيطي، إن التناقض الجوهري بين الهويتين يتسع بشكل خاص في مسألة الخدمة العسكرية، حيث تصبح هذه الخدمة نقطة الفصل بين الانتماء للدولة العلمانية والحفاظ على الهوية التوراتية.

بالنسبة للحريديم، لا يعد التجنيد مجرد واجب وطني، بل هو تهديد مباشر لوجودهم واستمرارية مجتمعهم، مما يجعل قضية التجنيد محورية في صراعهم على الوجود.

وقد ظهر هذا التناقض بوضوح في أعقاب هجوم حماس المباغت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما استخدم التيار الحريدي، وخاصة جناح ساتمار المعادي للصهيونية، ما حدث في مهرجان نوفا لتجديد رفضه للعلمانية، الجيش، والدولة الصهيونية . واعتبر أن الانحراف عن الدين هو سبب الكارثة، بل ذهب إلى حد تبرير الهجوم ضمنيا كعقوبة إلهية.

ويعد ساتمار أحد فروع الحريديم الحسيديين، يرفض الصهيونية وشرعية إسرائيل، على عكس معظم الحريديم الذين يعيشون بالداخل. ويمتنع أتباعه عن التصويت أو تلقي التمويل الحكومي، مما يجعله الأكثر تشددا في رفض الكيان الإسرائيلي.

ذكرت صحف مثل "دير ييد" و"دير بلات" -التابعتين لتيار ساتمار- أن إسرائيل هي التي "أشعلت نار الحرب" بسبب سياساتها تجاه الفلسطينيين واستفزازهم.

ووصفت وسائل الإعلام الحريدية المشاركين في الحفل بأنهم "شباب فاسدون يشربون ويتعاطون المخدرات وسط عيد مقدس"، كما هاجمت وجود رموز بوذية و"الانحلال الأخلاقي"، كون ذلك يتعارض مع معتقداتهم الدينية.

مصدر الصورة يهود متشددون منتمون إلى جماعة ساتمار الحسيدية خلال احتجاج سابق (الفرنسية-أرشيف)

في مواجهة التجنيد

وبالتزامن مع قرار المحكمة العليا في يونيو/حزيران 2024، القاضي بتجنيد الحريديم وفرض عقوبات على المؤسسات الدينية التي لا تمتثل لذلك، ظهرت أولى ملامح الانفجار بين الهويتين. فرغم هذه القرارات، فإن البيانات الأخيرة أظهرت أن استجابة الحريديم كانت ضئيلة جدا، مما يعكس عمق رفضهم للتجنيد رغم الضغط القانوني.

إعلان

وفي إطار المواجهة، شكلت منظمات الحريديم، فصيل القدس، وهو مركز اتصال يعمل على مساعدة الشباب الحريدي على التهرب من التجنيد، وفقا لصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية.

هذا الفصيل (المركز)، الذي يمثل جزءا من التيار الليتواني في اليهودية الأرثوذكسية المتشددة، يعمل على تزويد هؤلاء الطلاب بالاستشارات القانونية والشرعية التي تهدف إلى مساعدتهم في تجنب الخدمة العسكرية، والوقوف في وجه الاعتقالات المحتملة بسبب رفضهم التجنيد.

ويعمل الخط الساخن بشكل استباقي، إذ يخاطب الشباب الذين تلقوا أوامر أو يفكرون في التجنيد ليقنعهم بعدم القيام بذلك، وذلك من خلال توزيع منشورات وإعلانات وبطاقات تحتوي على معلومات ضد الخدمة في الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى تزويدهم بأرقام لمراكز المساعدة لمن يتلقون الأوامر، وفقا للصحيفة ذاتها.

ووراء التمسك برفض الالتحاق بالجيش بُعد نفسي واجتماعي مهم، إذ كشفت دراسة نُشرت في مجلة "فرونتيرز إن سايكولوجي" أن الخدمة العسكرية لا تساهم في دمج التيار الحريدي بالكيان الإسرائيلي، بل تعزز شعورهم بالعزلة والرفض، في حين ينظر الحريديم للتجنيد كخيانة عقائدية، مما يعرض المجندين للنبذ المجتمعي وفقدان هويتهم الدينية.

وعلى صعيد آخر، قالت الدراسة إن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تسعى إلى إعادة تشكيل وعي المجندين بما يتماشى مع أفكاره القومية، مما يؤدي إلى أزمة توتّر حول مفهوم الذات، إذ يجدون أنفسهم في صراع داخلي بين عقيدتهم وواقعهم داخل جيش الاحتلال.

ويرتبط هذا البعد النفسي مباشرة بما وصفه تقرير صادر عن "معهد صموئيل نعمان" بأزمة هوية وجودية داخل إسرائيل، حيث تحول الانضمام إلى الخدمة العسكرية إلى أداة فرض النموذج الصهيوني على التيارات الرافضة له، وأصبح الصراع بين الكيان وحريديمه عميقا ولا يمكن حله من خلال قرارات حكومية أو قضائية، بل هو تعبير عن تناقض جوهري بين مرجعيتين: دينية تقليدية وعلمانية قومية.

مصدر الصورة الدراسة: الحريديم يجدون أنفسهم في صراع داخلي بين عقيدتهم وواقعهم داخل جيش الاحتلال (رويترز)

تجنيد الحريديم بين الضرورة والمأزق

يواجه جيش الاحتلال أزمة متصاعدة في استقطاب المجندين من الحريديم، فقد كشفت إذاعة "كان ريشيت بيت" أن معدلات الاستجابة لأوامر التجنيد في الثلث الأول من العام بلغت فقط 20%، وتراجعت في الثلث الثاني إلى 5%. وحتى أبريل/نيسان، لم يحضر سوى 994 مجندا من أصل 10 آلاف دعوة.

إعلان

وهذا الفشل دفع جيش الاحتلال إلى إصدار آلاف مذكرات الاعتقال، إلى جانب تفعيل "أوامر 12" التي تفرض قيودا على السفر للرافضين. كما اضطروا إلى خفض سقف التوقعات في بعض الوحدات، مثل لواء "نيتساح يهودا" المخصص للحريديم، الذي تقلص هدفه من 140 إلى 120 مجندا.

وفي محاولة لاحتواء الأزمة، صرّح الجيش بأن هذا اللواء "يتيح الدمج بين التوراة والخدمة"، لكن هذا الطرح لم يُقنع الشارع الحريدي، الذي يرى فيه محاولة للالتفاف على موقفه العقائدي.

ويرى محللون أن الأمر لا يتعلّق فقط بالخدمة العسكرية كواجب، بل بمن سيدفع كلفة الصراع ويخوضه فعليا. وبحسب المحلل أحمد فهيم، فإن أبناء التيار الحريدي لا يرون مصلحة في تعريض أنفسهم للخطر، ويفضّلون البقاء على هامش المعركة، بينما يدفع آخرون، غالبا من الطبقات العلمانية أو القومية، الثمن الميداني.

ومع ذلك، تسعى حكومة بنيامين نتنياهو لتقديم تنازلات على أمل تحقيق "احتواء ناعم" للحريديم داخل المنظومة العسكرية، بدلا من فرض الدمج القسري، فقد خُصصت قاعدة تدريبية منفصلة تسمى "معسكر تيبيتز" في غور الأردن جُهّزت بما يتلاءم مع أنماط الحياة الدينية الصارمة، بدءا من السماح بارتداء "ملابس السبت" خارج أوقات الخدمة، وفرض ساعة إلزامية يومية لدراسة التوراة، وفقا لصحيفة تايمز أوف إسرائيل.

كما سُمح للجنود باستخدام هواتف "كوشِر" وهي محجوبة عن وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات غير الضرورية، بحسب الصحيفة ذاتها، وذلك حفاظا على الخصوصية الدينية.

ولم تقتصر الخصوصية على الجوانب المعيشية فقط، بل انسحبت أيضا على المستوى القيادي، فبحسب المصدر نفسه، عُيِّن كولونيل أرثوذكسي، أفينوعام إيمونا، على رأس اللواء، في محاولة لطمأنة المجندين بأن مرجعيتهم الدينية لن تكون مهددة داخل المؤسسة.

في هذا السياق، يضيف المحلل أحمد فهيم أن إصرار المؤسسة العسكرية والمعارضة السياسية على الالتحاق بالجيش لا يهدف فقط إلى سد النقص العددي، بل يُعد جزءا من سعي أوسع لتحقيق العدالة الاجتماعية داخل الاحتلال. فهناك إدراك متزايد بأن كلفة الحرب يجب أن تكون موزعة بالتساوي بين جميع فئات المجتمع، لا أن تتحملها فئة واحدة دون الأخرى.

إعلان

كما عبّر عن مخاوف من احتمال حدوث تمرد عسكري في المستقبل، إن استمرت الاستثناءات للحريديم دون محاولة فعلية لتحقيق التوازن.

وتتطابق هذه القراءة مع حالة الاستياء المتنامية داخل الشارع الإسرائيلي من استمرار إعفاء أبناء التيار الحريدي من الخدمة العسكرية. فالكثير من الإسرائيليين، خاصة من الفئات العلمانية والقومية، يرون أن هذا الاستثناء يخلق تفاوتا في الالتزامات تجاه الدولة، ويعمق أزمة الثقة بين مكونات المجتمع، ويزيد من الانقسام الاجتماعي، لا سيما في ظل التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحرب الجارية، بحسب وسائل إعلام عبرية.



هل ينفجر الائتلاف الحكومي بسبب التجنيد؟

تُعدّ أزمة الانضمام إلى الخدمة العسكرية واحدة من أكثر القضايا حساسية داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل، وتهدد بشكل مباشر استقرار حكومة نتنياهو، التي تعتمد على دعم حاسم من حزبي "شاس" و"يهدوت هتوراه". فقد لوّح الحزبان بالانسحاب أو الامتناع عن دعم قوانين رئيسية إذا لم يتم تمرير قانون يعفي شبابهما من الخدمة العسكرية.

في المقابل، يواجه نتنياهو ضغوطا متزايدة من الأحزاب القومية، وعلى رأسها كتلة "الصهيونية الدينية"، التي تعتبر استمرار الإعفاءات إخلالا بمبدأ تقاسم الأعباء، خصوصا في ظل الخسائر التي تكبّدها جمهورها خلال الحرب الأخيرة.

ومع تدخل المحكمة العليا ومطالبتها الحكومة بفرض عقوبات على الرافضين، تعقّد المشهد السياسي بشكل أكبر، ليصبح صداما بين مؤسسات الدولة، والدين، وتوازنات الائتلاف، وفقا لمراقبين.

وفي هذا السياق، يرى الحنيطي أن تنفيذ قرار المحكمة قد يضع الحكومة في موقف حرج، إذ من المحتمل أن يدفع الأحزاب الحريدية إلى الانسحاب. ولتفادي ذلك، يحاول نتنياهو الالتفاف على الأزمة عبر تعزيز نفوذه داخل الجهاز القضائي، لا سيما عبر تغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة.

وهذا التوجه، بحسب الحنيطي، لا يعكس مجرد أزمة سياسية آنية، بل يكشف عن صراع أعمق على معنى إسرائيل، وبين من يسعى لتكريس السيطرة الحزبية على مؤسسات الحكم، وبين من يتمسّك باستقلال القضاء كضمانة للديمقراطية.

أما المحلل أحمد فهيم، فيرى أن القضية مرشحة للتصعيد، ليس فقط على مستوى الحكومة، بل في الشارع الإسرائيلي نفسه، مع تزايد الشعور بعدم المساواة. ويعتقد فهيم أن التجنيد سيُفرض على الحريديم عاجلا أم آجلا، سواء بقي نتنياهو في الحكم أو غادره، في ظل الضغوط الشعبية والسياسية والمؤسساتية المتنامية.

إعلان

على مفترق شرعية الكيان، بات الانفجار ليس مسألة "إذا"، بل "متى" و"بأي ثمن". فلم يعد ممكنا بناء الكيان موحدا على أساس استثناءات دائمة. الالتحاق بالجيش الإجباري للحريديم قد يكون الشرارة، لكنه يكشف هشاشة المنظومة برمتها، ويُنذر بأن أي تسوية مستقبلية تتطلب أكثر من صفقات ظرفية، بل إعادة تعريف لمفهوم الكيان نفسه، بين توراة تُصوغ الولاء وبندقية ترسم الحدود.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا