آخر الأخبار

"سيطلقون النار عليك إذا بقيت": الحياة داخل "المنطقة المحظورة" في العراق

شارك
مصدر الصورة

تقع قرية سيرجال الخلابة في جبال كردستان العراق. على مدى أجيال، اعتمد القرويون مثل شيروان سيرجال في معيشتهم على زراعة الرمان واللوز والخوخ، وجمع الثمار البرية والتوابل من الغابات المحيطة.

لكن قرية سيرجال، التي تبعد 16 كيلومتراً (10 أميال) عن الحدود مع تركيا، أصبحت محاطة بشكل متزايد بالقواعد العسكرية التركية المنتشرة على المنحدرات.

إحدى هذه القواعد، القائمة في منتصف السفح الغربي، تُطلّ على القرية من الأعلى، بينما تُشيَّد قاعدة أخرى في الجهة الشرقية.

جرى بناء ما لا يقل عن سبع قواعد هنا خلال العامين الماضيين، من بينها قاعدة بالقرب من سد صغير ينظم إمدادات المياه لقرية سيرجال، مما جعل الوصول إليه محظوراً على السكان.

"هذا بكل تأكيد شكل من أشكال احتلال الأراضي الكردية [كردستان العراق]"، يقول شيروان، البالغ من العمر 50 عاماً، والذي فقد الوصول إلى جزء من أرضه.

"لقد دمّرها الأتراك".

مصدر الصورة

تواجه قرية سيرجال الآن خطر الانجرار إلى ما يُعرف محلياً باسم "المنطقة المحظورة" - وهي شريط واسع من الأراضي في شمال العراق تأثّر بالحرب التي تشنّها تركيا ضد حزب العمال الكردستاني، الذي أطلق تمرده في جنوب تركيا عام 1984.

تمتد "المنطقة المحظورة" على طول الحدود العراقية مع تركيا تقريباً، وتصل في بعض المناطق إلى عمق 40 كيلومتراً (25 ميلاً)

تقول منظمة "فرق صنّاع السلام"، وهي منظمة حقوقية معنية بحقوق الإنسان ومقرها في كردستان العراق، إن مئات المدنيين قُتلوا في ضربات جوية وهجمات بطائرات مسيّرة داخل وحول "المنطقة المحظورة ".

ووفقاً لتقرير صادر عن برلمان كردستان عام 2020، أُجبر الآلاف على مغادرة أراضيهم، كما أُفرغت قرى بأكملها بسبب الصراع.

تقع قرية سيرجال الآن في خط المواجهة الأول في حرب تركيا ضد حزب العمال الكردستاني.

عندما زار فريق تحقيقات "بي بي سي آي الخدمة العالمية" المنطقة، كانت الطائرات التركية تقصف الجبال المحيطة بالقرية بعنف، في محاولة لاجتثاث مقاتلي حزب العمال الكردستاني، الذين ينشطون منذ زمن طويل في كهوف وأنفاق شمال العراق.

احترقت مساحات واسعة من الأراضي حول سيرجال نتيجة القصف.

ويقول شيروان: "كلما أقاموا قواعد جديدة كلما ازداد الوضع سوءاً بالنسبة لنا".

مصدر الصورة

شهدت تركيا توسعاً سريعاً في وجودها العسكري داخل "المنطقة المحظورة" خلال السنوات الأخيرة، لكن حتى الآن لم تكن هناك معرفة علنية بحجم هذا التوسع.

وباستخدام صور الأقمار الصناعية التي قام خبراء بتحليلها، إلى جانب تقارير ميدانية ومصادر مفتوحة، توصلت بي بي سي إلى أن الجيش التركي بنى، حتى ديسمبر/كانون الأول 2024، ما لا يقل عن 136 منشأة عسكرية ثابتة في شمال العراق.

ومن خلال شبكة قواعدها العسكرية الواسعة، باتت تركيا تسيطر فعلياً على أكثر من 2000 كيلومتر مربع (772 ميلاً مربعاً) من الأراضي العراقية، بحسب ما توصل إليه تحليل بي بي سي.

وتكشف صور الأقمار الصناعية أيضاً أن الجيش التركي شقّ ما لا يقل عن 660 كيلومتراً (410 أميال) من الطرق لربط منشآته العسكرية. وقد أدت هذه الطرق إلى إزالة الغابات، وخلّفت أثراً دائماً في تضاريس جبال المنطقة.

رغم أن بعض هذه القواعد يعود إلى التسعينيات، فإن 89 في المئة منها أُنشئ بعد عام 2018، وهو العام الذي بدأت فيه تركيا بتوسيع وجودها العسكري في كردستان العراق بشكل ملحوظ.

لم ترد الحكومة التركية على طلبات بي بي سي لإجراء مقابلات، لكنها تمسكت بموقفها بأن قواعدها العسكرية ضرورية لدفع خطر حزب العمال الكردستاني، الذي تصنّفه أنقرة وعدد من الدول الغربية، بما في ذلك المملكة المتحدة، كمنظمة إرهابية.

مصدر الصورة

قد تُعطي بلدة قاني ماسي، وهي عاصمة ضاحية فرعية تبعد 4 كيلومترات فقط (2.5 ميل) عن الحدود العراقية التركية، وتوجد أجزاء منها ضمن المنطقة المحظورة، لمحة عمّا قد تُواجهه قرية سيرجال مستقبلاً.

كانت قاني ماسي مشهورة بإنتاج التفاح، لكن لم يتبقَّ فيها الآن سوى عدد قليل من السكان.

المزارع سلام سعيد، الذي تقع أرضه تحت ظل قاعدة تركية كبيرة، لم يتمكن من زراعة كرمه منذ ثلاث سنوات.

ويقول لبي بي سي: "بمجرد أن تصل إلى هنا، تحلق فوقك طائرة مسيّرة، وإذا بقيت، سيطلقون النار عليك".

وكان الجيش التركي قد أنشأ أول قاعدة له هنا في التسعينيات، ومنذ ذلك الحين يعمل على تعزيز وجوده فيها.

القاعدة العسكرية الرئيسية للقوات التركية، التي تحتوي على جدران خرسانية مضادة للانفجارات، وأبراج مراقبة واتصالات، ومساحات تسمح بتحرك ناقلات الجنود المدرعة داخلها، تُعد أكثر تطوراً بكثير من النقاط العسكرية الصغيرة المنتشرة حول سيرجال.

سلام، شأنه شأن بعض السكان المحليين الآخرين، يعتقد أن تركيا تسعى في نهاية المطاف إلى ضم هذه الأراضي.

ويضيف: "كل ما يريدونه هو أن نغادر هذه المناطق".

مصدر الصورة

نفوذ محدود

بالقرب من قضاء كاني ماسي، رصد فريق "بي بي سي آي عن كثب كيف دفعت القوات التركية فعلياً بحرس الحدود العراقي، المسؤول عن حماية حدود العراق الدولية، إلى التراجع.

في عدة مواقع، كان أفراد حرس الحدود يتمركزون داخل الأراضي العراقية، مقابل القوات التركية مباشرة، غير قادرين على الوصول إلى خط الحدود تجنباً لأي اشتباك محتمل.

يقول اللواء فرهاد محمود مشيراً إلى سلسلة جبلية على الجانب الآخر من الوادي، على بعد نحو 10 كيلومترات داخل الأراضي العراقية: "النقاط التي ترونها هناك هي نقاط تركية".

ويضيف: "لا يمكننا الوصول إلى الحدود لمعرفة عدد هذه النقاط".

يُنظر إلى التوسع العسكري التركي في كردستان العراق – المدفوع بصعود تركيا كقوة مسيّرات وبميزانية دفاع متزايدة – على أنه جزء من تحول أوسع في سياستها الخارجية نحو مزيد من التدخل في شؤون المنطقة.

وبالمثل، سعت تركيا إلى إنشاء منطقة عازلة على حدودها مع سوريا للحد من نفوذ الجماعات السورية المسلحة المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني.

في العلن، أدانت الحكومة العراقية الوجود العسكري التركي داخل البلاد. لكن خلف الأبواب المغلقة، استجابت لبعض مطالب أنقرة.

في عام 2024، وقّع الجانبان مذكرة تفاهم للتعاون في محاربة حزب العمال الكردستاني.

لكن الوثيقة، التي حصلت عليها بي بي سي، لم تتضمن أي قيود على وجود القوات التركية داخل العراق.

يعتمد العراق على تركيا في مجالات التجارة والاستثمار وأمن المياه، بينما ساهم الانقسام السياسي الداخلي في إضعاف قدرة الحكومة العراقية على اتخاذ موقف حازم.

ولم ترد الحكومة الوطنية العراقية على طلبات بي بي سي للتعليق.

في الوقت نفسه، يتمتع حكّام إقليم كردستان العراق شبه المستقل بعلاقة وثيقة مع أنقرة قائمة على المصالح المتبادلة، وغالباً ما قللوا من شأن الأضرار التي لحقت بالمدنيين جراء العمليات العسكرية التركية.

يسيطر الحزب الديمقراطي الكردستاني، العدو اللدود لحزب العمال الكردستاني، على حكومة إقليم كردستان. وقد تولّى رسمياً زمام الحكم منذ عام 2005 عندما منح الدستور العراقي الإقليم وضعاً شبه مستقل.

أسهمت العلاقات الوثيقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وتركيا في نجاح إقليم كردستان اقتصادياً، وعززت موقفه سواء في مواجهة خصومه السياسيين في المنطقة، أو في تعامله مع الحكومة العراقية في بغداد، التي يخوض معها صراعاً من أجل نيل مزيد من الاستقلالية.

حاول هوشيار زيباري، وهو عضو بارز في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، إلقاء اللوم على حزب العمال الكردستاني في وجود تركيا داخل إقليم كردستان العراقي.

قال هوشيار زيباري لبي بي سي: "إنهم (الجيش التركي) لا يؤذون شعبنا، ولا يعتقلونهم، ولا يتدخلون في شؤونهم أو أعمالهم. تركيزهم، وهدفهم الوحيد، هو حزب العمال الكردستاني".

ولا يبدو أن الصراع يوشك على الانتهاء، رغم دعوة عبد الله أوجلان، الزعيم المعتقل منذ وقت طويل لحزب العمال الكردستاني، في فبراير إلى مقاتليه بإلقاء السلاح وحل التنظيم.

استمرت تركيا في قصف أهداف عبر إقليم كردستان العراق، بينما أعلن حزب العمال الكردستاني مسؤوليته عن إسقاط طائرة تركية مسيرة الشهر الماضي

وفي حين تراجعت الحوادث العنيفة في تركيا منذ عام 2016، وفقاً لإحصاء أجرته منظمة الأزمات الدولية، وهي منظمة غير حكومية، فإنها تصاعدت في العراق، حيث يواجه المدنيون في منطقة الحدود مخاطر متزايدة من الموت والنزوح.

وكان من بين القتلى آلان إسماعيل البالغ من العمر 24 عاماً، وهو مريض بالسرطان من المرحلة الرابعة، الذي أصيب بهجوم جوي في أغسطس 2023 أثناء رحلته إلى الجبال مع ابن عمه هاشم شاكر.

وقد نفت القوات التركية تنفيذ الهجوم في ذلك اليوم، لكن تقريراً للشرطة اطّلعت عليه بي بي سي ينسب الحادث إلى طائرة مسيرة تركية.

عندما قدم هاشم شكوى في محكمة محلية بشأن الهجوم، اعتقلته قوات الأمن الكردية واحتجزته لمدة ثمانية أشهر بشبهة دعم حزب العمال الكردستاني - وهي تهمة ينفيها هو وعائلته.

وقال إسماعيل تشيشو، والد آلان: "لقد دمرنا ذلك. إنه مثل قتل العائلة بأكملها".

وأضاف: "هم (الأتراك) ليس لهم حق في قتل الناس في بلادهم وعلى أرضهم".

لم ترد وزارة الدفاع التركية على طلبات بي بي سي للتعليق. لكنها أكدت في تصريحات سابقة لوسائل الإعلام أن القوات المسلحة التركية تلتزم بالقانون الدولي، وأن تخطيط وتنفيذ عملياتها يستهدف الإرهابيين فقط، مع الحرص على تجنب الإضرار بالمدنيين.

اطّلعت بي بي سي على مستندات تشير إلى أن السلطات الكردية قد تكون قد تصرفت لمساعدة تركيا على التهرب من المساءلة عن الضحايا المدنيين.

كشفت الوثائق السرية التي اطلعت عليها بي بي سي أن محكمة كردية قد أغلقت التحقيق في مقتل آلان، قائلة إن الجاني غير معروف.

شهادة وفاته - التي أصدرتها السلطات الكردية واطلعت عليها بي بي سي - تقول إنه توفي نتيجة "شظايا متفجرة".

ويؤدي عدم ذكر أن الضحايا الذين قتلوا جراء الغارات الجوية قد توفوا نتيجة للعنف، بدلاً من حادث، إلى صعوبة حصول العائلات على العدالة والتعويضات التي يحق لهم الحصول عليها بموجب القانونين العراقي والكردي.

وقال كاميران عثمان من "فرق السلام المجتمعي"، وهي منظمة غير حكومية تتابع الضحايا المدنيين: "في معظم شهادات الوفاة، كتبوا فقط أن سبب الوفاة "انفجار".

وأضاف: "قد يكون أي شيء انفجر".

وتابع: "أعتقد أن حكومة إقليم كردستان لا تريد تحميل تركيا المسؤولية عمّا تفعله هنا".

قالت حكومة إقليم كردستان إن "عدداً من الضحايا" الذين سقطوا في النزاع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني قد تم توثيقهم كـ "شهداء مدنيين"، مما يعني أنهم قُتلوا بشكل غير عادل ويحق لهم التعويض.

بعد ما يقرب من عامين على مقتل آلان، لا تزال عائلته تنتظر، إذا لم يكن من أجل التعويض، فعلى الأقل من أجل الاعتراف من حكومة إقليم كردستان.

قال إسماعيل: "كان بإمكانهم على الأقل إرسال تعازيهم - نحن لا نحتاج تعويضاتهم".

وأضاف: "عندما يذهب شيء، يذهب إلى الأبد".

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا