في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في الوقت الذي يطالب فيه السوريون بتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المتورطين بجرائم الحرب والانتهاكات بحق أبناء الشعب السوري، لا تزال الإدارة السورية الجديدة تتبع نهجا حذرا في إقرار آليات واضحة للعدالة الانتقالية.
وفي حين تتوالى إعلانات الأمن العام القبض على عدد من المسؤولين الأمنيين والعسكريين المتهمين بارتكاب جرائم في عهد نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد ، أطلقت خلال الأشهر الماضية سراح عددٍ منهم أو أبرمت تسويات معهم.
ويشير المنتقدون إلى أن هذه الإفراجات لم تُسبق بأي خطوات قضائية معلنة، ولم تتبعها تبريرات رسمية.
ويعد فادي صقر أحد قادة مليشيا الدفاع الوطني من أبرز الأسماء التي أفرج عنها النظام، إضافة إلى محمد حمشو الذي يعد الذراع الاقتصادية للرئيس المخلوع، واللواء طلال مخلوف القائد السابق في الحرس الجمهوري، الذي ظهر في أحد مراكز التسويات.
كما تفاجأ السوريون بظهور وزير الداخلية الأسبق محمد الشعار على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية بعد أيام من تسليم نفسه للأمن العام، دون معرفة ما إذا كان قد أطلق سراحه.
وترى شريحة واسعة من السوريين أن إطلاق سراح هذه الشخصيات يمثل نكسة للعدالة، ويعيد إنتاج ثقافة الإفلات من العقاب التي اتهم بها النظام المخلوع.
ويتساءل آخرون هل هذه المصالحات ضرورة أمنية أم تسوية سياسية على حساب دماء الضحايا؟ وما الذي يدفع الحكومة الجديدة لتجاوز المحاسبة في مرحلة يفترض أنها تأسيس لدولة العدالة والقانون؟
رغم تأكيد الرئيس السوري أحمد الشرع خلال مؤتمر النصر أنه منذ إطلاق العمليات العسكرية، لم يصدر عفواً عمن ارتكب جرائم منظمة، وأن الحكومة مستمرة بملاحقة "الرؤوس الكبيرة المجرمة"، فإن غياب المحاكمات العادلة لرموز النظام، وعدم وجود مسار واضح لتطبيق "العدالة الانتقالية" لحد الآن رغم النص عليه في الإعلان الدستوري، أدى إلى تعاظم مشاعر النقمة بين السوريين الذين فقدوا أحباءهم وتعرضوا لانتهاكات جسيمة، مما يفتح الباب واسعا لعمليات الثأر الفردي.
ويحذر مراقبون من أن سياسات العفو إن لم تقترن بمحاسبة ومكاشفة قد تتحول إلى شرارة جديدة لصراعات داخل المجتمع، مما يسهم في تقويض جهود المصالحة الوطنية، خصوصاً في مناطق لا تزال تعاني من انقسامات عميقة نتيجة لسنوات من العنف والانتهاكات.
وفي هذا السياق، كشف معهد دراسة الحرب في واشنطن، عن تصاعد لافت في وتيرة العمليات التي تنفذها مجموعات معارضة سابقة ضد عناصر من نظام بشار الأسد، في ما وصفه المعهد بـ"العدالة الانتقامية"، وذلك رداً على فشل الحكومة الانتقالية السورية في محاكمة ومحاسبة المتورطين في جرائم بحق السوريين.
ووفق التقرير الصادر في 21 أبريل/نيسان الجاري، شكّل مقاتلون معارضون سابقون في مدينة حلب "قوة مهام خاصة" هدفها اغتيال عناصر من النظام السابق، وبدأت هذه القوة بتعقبهم في أنحاء من المحافظة.
ويذكر التقرير عدداً من عمليات الانتقام منها ما وقع في محافظة حمص، عندما أقدم مقاتل (معارض سابق) في 20 أبريل/ نيسان الجاري على قتل قناص من جيش النظام، قال إنه تسبب بمقتل أفراد من عائلته خلال سنوات الحرب، حيث ذكر المقاتل أنه قدّم سابقاً شكوى رسمية ضد القناص، لكن تجاهل السلطات لقضيته دفعه لـ"أخذ العدالة" بيده.
ويشير المعهد إلى أن هذه العمليات -مهما كانت دوافعها- تعكس غياب آليات العدالة الانتقالية، وتؤكد أن تجاهل ملفات المحاسبة يعيد إنتاج دائرة العنف.
وفي 11 يناير/كانون الثاني الماضي تداول ناشطون صوراً لإعدام ميداني بحق مختار حي دمر بدمشق مازن كنينة، المتهم بالتعاون مع سرية المداهمة 215 المسؤولة عن اعتقال وقتل العشرات، إلا أن وكالة الصحافة الفرنسية ذكرت أنها لم تتمكن من التحقق من صحة الصورة والمقطع بشكل منفصل.
يبدو واضحا من خلال مراقبة تعامل الحكومة السورية مع ملف أتباع النظام المخلوع أنها تعمل على تحقيق توازن دقيق بين ضرورات العدالة من جهة، ومتطلبات الاستقرار الأمني والاجتماعي في المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا من جهة أخرى.
وبناء على ذلك، يرى مراقبون أن إطلاق سراح بعض الشخصيات، لا يعكس تجاهلاً لجرائم المرحلة السابقة بقدر ما يعبر عن محاولة لاحتواء التوترات الداخلية.
وتعليقاً على ما سبق، يوضح الباحث في مركز الحوار السوري نورس العبد الله، أن النهج العام للسلطة حالياً يتوجه نحو تحقيق الاستقرار، وتقديم أولويات القضايا الحالية على معالجة انتهاكات النظام المخلوع.
وتتمثل دوافع الحكومة السورية لاتباع هذه السياسة -بحسب حديث العبد الله للجزيرة نت- في معالجة المناطق الملتهبة والشرائح الاجتماعية التي كانت حاضنة للنظام، مما يشجع مسلحي نظام الأسد، كتلاً وأفراداً، على ترك السلاح وتسليمه، ويساعد على حقن الدماء مقابل عدم الملاحقة.
ويستدرك العبد الله أن هذا النهج قد يكون مفهوماً ومقدراً من قبل السوريين بشرط أن يستثني المسؤولين عن الجرائم الكبيرة والانتهاكات الجسيمة، وأن يكون مؤقتاً لحين البدء بمسار العدالة الانتقالية.
من ناحيته، أفاد مصدر سياسي خاص في دمشق للجزيرة نت بأن غاية الحكومة من كل هذه الإجراءات هو تثبيت أركان الحكم في هذه المرحلة، وبحسب المصدر فإن الشرع شدد في لقاءته على أهمية إعطاء الأمان لرؤوس الأموال الكبيرة التي كانت مؤيدة للنظام في سبيل تشجيعها لمتابعة عملها مقابل دعم الدولة بنسبة معينة.
وأضاف المصدر أن العفو عن بعض الشخصيات الكبيرة جاء في سياق سعي الحكومة لاستقطاب الحاضنة الشعبية التي تنتمي إليها هذه الشخصيات، لترسيخ دعائم السلم الأهلي.
وكان الرئيس الشرع أوضح في تصريحات سابقة أن هناك خيطًا رفيعًا مهمًا جدًا بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، مضيفاً "إن فرطنا في حقوق الناس، فهذا سيؤثر على السلم الأهلي، وإن تشددنا بالمطالبة في حقوق الناس، أيضًا سيؤثر على السلم الأهلي، وستحصل حالة من الفزع".
لا تقتصر حسابات العفو عن بعض رموز النظام المخلوع على التوازنات الداخلية فقط، إذ يرى مراقبون أنها تحمل رسائل خارجية أيضاً، تسعى من خلالها الحكومة إلى تقديم نفسها للعالم كدولة تتجنب سياسات الانتقام وتحترم مبادئ العدالة الانتقالية من جهة، وتعكس صورة سوريا الجديدة البعيدة عن أن تكون نسخة عن ممارسات النظام السابق من جهة أخرى.
وبعد سقوط النظام، أعلنت الإدارة السورية الجديدة عفواً عاما عن جميع العسكريين المجندين في صفوف قوات النظام، إلى جانب إنشاء "مراكز تسوية" في جميع المحافظات لتسليم الأسلحة وتسوية أوضاعهم، بشرط عدم تورطهم في مجازر أو جرائم حرب.
وفي هذا السياق، يرى عميد كلية الحقوق في جامعة حلب، إسماعيل الخلفان، أنه بالإضافة إلى سعي الحكومة لكسب كل أطياف الشعب السوري من خلال حالات العفو عن بعض رموز النظام، فإن هذه الإجراءات تحمل رسائل سياسية خارجية، تخاطب من خلالها المجتمع الدولي.
وتستخدم سياسة العفو هذه، بحسب حديث الخلفان للجزيرة نت، كأداة دبلوماسية لتقديم الحكومة الجديدة كسلطة مسؤولة ومتسامحة مع كل فئات وطوائف المجتمع السوري، مما يعزز جهودها في الحصول على الدعم وتوسيع الاعتراف الدولي بها.
وينفي الخلفان وجود أي ضغوط دولية في هذا المجال بشكل رسمي، لأن هؤلاء الأشخاص ارتكبوا جرائم ومسؤولون عن انتهاكات، "لكن ربما يكون هناك مطالبات بشكل غير مباشر من بعض الأطراف لتقصي الحقائق وتهدئة الوضع، والتريث بالمحاسبة ليس إلا".
ومنذ سقوط النظام، تكررت مطالبات المنظمات الحقوقية الدولية لتحقيق العدالة، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، إذ أكد رئيس لجنة التحقيق الأممية بشأن سوريا باولو بينيرو أن اللجنة مستعدة للتعاون مع الإدارة السورية الجديدة لملاحقة مرتكبي الجرائم في عهد نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد ومحاكمتهم أمام القضاء الدولي.
وأضاف، في مقابلة صحفية في 11 يناير/كانون الثاني، أن هناك آلافا من مرتكبي الجرائم في عهد الأسد يجب محاسبتهم.
من ناحيته، قال المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، في إحاطة له أمام مجلس الأمن، في 12 فبراير/ شباط الماضي، إنه أوضح للسلطات المؤقتة في دمشق أن بعثته مستعدة لتقديم المشورة والدعم في مختلف المجالات، وأشار المبعوث الأممي إلى أن من مسؤولية السلطات العمل على إطار شامل لإحقاق عدالة انتقالية في سوريا.
رغم المطالبات الشعبية بمحاكمة رموز النظام المخلوع وأتباعه من المتورطين في الانتهاكات والجرائم، فإن خبراء قانونيين يشيرون إلى وجود عقبات تواجه سوريا الجديدة في طريق تحقيق العدالة خلال هذه المرحلة، وتتمثل هذه العقبات بغياب المؤسسات القضائية المستقلة، وافتقار المنظومة القانونية إلى بنية متماسكة وموثوقة.
وفي حديثه للجزيرة نت يلخص المحامي والباحث في القانون الدولي، محمد الحربلية، هذه التحديات بالنقاط التالية:
بدورها، أنشأت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قاعدة بيانات شاملة تتضمن تفاصيل الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ومسؤولوه طيلة 14 عاما، وتضمنت القوائم أسماء 16 ألفا و200 شخص ثبتت مسؤوليتهم عن الجرائم أو ارتباطهم بها.
وفي سياق متصل، يوضح عميد كلية الحقوق في جامعة حلب، المحامي الخلفان، أن الحكومة الحالية غير قادرة على إصدار قوانين؛ لأن رئيس الجمهورية بموجب الإعلان الدستوري لا يملك صلاحية تشريعية، كما لا يوجد حالياَ مجلس شعب من أجل سن التشريعات.
لكن الخلفان شدد في هذه الحالة على ضرورة أن تطمئن الحكومة الشعب بعزمها على المحاسبة والمحاكمة لكل المجرمين، خاصة وأن الإعلان الدستوري نص على العدالة الانتقالية وعلى آلياتها، إذ كلما تأخرت معالجة هذا الملف، تزعزعت الثقة بهذه الحكومة.
وكان وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة أكد في لقاء مع تلفزيون "العربي"، على أن التسويات لا تلغي عملية المحاسبة القانونية اللاحقة، وهي لضبط الأوضاع وعدم السماح بالفوضى، وتثبيت الوضع الحالي ريثما يتم التعاطي مع هؤلاء الأشخاص عن طريق السلطات المختصة، مؤكدا أن "من عليه قضايا جنائية أو تعذيب يجب محاسبتهم عن طريق المؤسسات القضائية".