في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في مشهد سياسي إقليمي بالغ التعقيد، احتلت العلاقات التركية الإسرائيلية موقعاً متقدماً على خريطة التفاعلات الإقليمية، لا بسبب التصريحات المتبادلة أو التحركات العسكرية المتقطعة فحسب، بل لأن الطرفين يبدوان كمن يسير على خيط رفيع بين التعاون التكتيكي والصدام الاستراتيجي، لا سيما في الجبهة السورية.
ورغم التصعيد اللفظي والتوترات المتكررة، فقد ساد إدراك متبادل وإن كان غير معلن بضرورة تأجيل الاشتباك المباشر، مع اعتماد قنوات تنسيق خلفية لإدارة هذا الاشتباك المؤجل.
تفاهمات غير مكتوبة... وتأجيل الاشتعال
تجنّب تركيا وإسرائيل لأي صدام عسكري مباشر لم يأتِ من باب التهدئة بقدر ما انبثق من توافق اضطراري على تقاسم النفوذ في سوريا.
ففي حين تتحرك إسرائيل من الجو، عبر غارات دقيقة تستهدف الوجود الإيراني ومواقع النظام، تتوسع تركيا على الأرض، بتواجد عسكري مكثّف في شمال البلاد، وهو ما حتّم، بحسب مصادر دبلوماسية، إنشاء "آلية فنية لتفادي التصادم"، بين قوتين تعتبران نفسيهما الأكثر فاعلية على الأرض السورية.
وقد صرّحت وزارة الدفاع التركية سابقاً بأن أنقرة طالبت تل أبيب بوقف "الهجمات الاستفزازية التي تمس وحدة الأراضي السورية"، مطالِبة إسرائيل بالتخلي عن سياساتها التوسعية.
في المقابل، أكّد مصدر أمني إسرائيلي لقناة "سكاي نيوز عربية" أن بلاده "لن تتهاون مع أي قوة عسكرية في سوريا قد تشكل تهديداً لأمن إسرائيل"، مشيراً ضمناً إلى تركيا كقوة مقلقة ضمنياً، رغم غياب المواجهة المباشرة.
إسرائيل تسعى لرسم خرائط جديدة في المنطقة
الخبير السياسي والمستشار السابق في رئاسة الحكومة التركية جاهد توز كشف في تصريحاته لبرنامج التاسعة عبر سكاي نيوز عربية عن أبعاد مقلقة في السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا والمنطقة ككل، معتبراً أن هناك "أجندة واضحة تسعى إسرائيل لتنفيذها".
وقال توز: "نتنياهو صرّح مراراً خلال العام الماضي بأن إسرائيل ستُعيد رسم خرائط المنطقة، وهو ما يشكل تهديداً للأمن القومي ليس فقط التركي أو السوري، بل للمنطقة برمّتها".
وذهب توز إلى اعتبار أن "تحركات إسرائيل داخل العمق السوري استفزاز خطير"، مضيفاً أن "تركيا كقوة إقليمية لا يمكنها القبول بتلك الأجندة، لا سيما وأن طموحات إسرائيل تتجاوز الأراضي السورية، وتمتد بشكل غير مباشر إلى الأراضي التركية نفسها".
تصريحات توز عبّرت عن موقف تركي رسمي تم التعبير عنه عبر قنوات متعددة، خاصة مع تصاعد القلق من أن تشكل التحركات الإسرائيلية في الجنوب السوري رافعة لتحجيم النفوذ التركي في الشمال، أو حتى لإعادة توازنات ما بعد الحرب السورية بشكل لا يخدم المصالح التركية.
ترامب بين الحليفين: وساطة على إيقاع التوازنات
في قلب هذا المشهد، تحرك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لاحتواء التوتر المتصاعد بين الحليفين المتناقضين أنقرة وتل أبيب. وكشفت تقارير إعلامية أن ترامب عرض خلال لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، التوسط لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإزالة المخاوف الإسرائيلية بشأن التعاون التركي - السوري.
وأبدى ترامب، وفق ما نقله توز، إدراكاً حقيقياً لحجم الدور التركي في المنطقة، قائلاً إن مواقفه "لم تكن مجاملة بل تعبيراً عن الواقع"، مشيراً إلى أن "تركيا باتت رقماً صعباً في معادلات الأمن الإقليمي، وأي مواجهة بينها وبين إسرائيل قد تتحول إلى صراع إقليمي شامل".
قلق إسرائيلي متزايد من التمدد التركي
وفق تصريحات توز، فإن إسرائيل "تخشى من الوجود التركي العسكري في سوريا"، معتبراً أن تفعيل قواعد عسكرية تركية داخل الأراضي السورية "يقيّد حرية التحرك الإسرائيلي في الأجواء السورية"، وهو ما يجعل تل أبيب "ترى في تركيا خصماً مرناً قد يتحول إلى تهديد مباشر في أي لحظة".
وأشار إلى أن "الخشية الإسرائيلية من القواعد التركية لم تأتِ من فراغ، فالقوة العسكرية التركية معروفة، وقد أثبتت حضورها في ليبيا، وفي ناغورنو قره باغ، وفي عمليات شمال العراق وسوريا"، مضيفاً أن "أي مواجهة بين الجانبين لن تكون محدودة، بل ستكون لها تداعيات إقليمية ودولية عميقة".
الرؤية التركية... سوريا بحاجة إلى إعادة بناء لا إلى إعادة تقاسم
في موقف يعكس البعد الاستراتيجي للرؤية التركية، اعتبر توز أن "القضية لم تعد ترتبط بالأجندة التركية في سوريا فقط، بل باتت ترتبط بمحاولة إعادة تأسيس دولة جديدة في سوريا، دولة بحاجة إلى بنى تحتية ومؤسسات حقيقية".
وشدد على أن "تركيا منذ البداية دعمت المعارضة السورية، واحتضنت ملايين اللاجئين كإخوة، وساهمت في محاولة صياغة نظام سياسي بديل"، مشيراً إلى أن بلاده "لن تقبل أن يُعاد تشكيل سوريا بخرائط إسرائيلية، أو تحت رعاية أجندات توسعية تتناقض مع مصالح السوريين أولاً".
على حافة النار... ولكن دون احتراق
رغم كل ما سبق، أكّد توز أن تركيا "ليست في وارد الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل"، لكنه شدد في المقابل على أن بلاده "لن تتردد في الرد إذا تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمراء".
ولفت إلى أن أنقرة "أرسلت تحذيرات قوية إلى تل أبيب خلال الأسابيع الماضية، على خلفية محاولات إسرائيل التوغل في العمق السوري، والوصول إلى مشارف دمشق"، مضيفاً أن "المواجهة لم تقع، لكن تم أخذ كل السيناريوهات بعين الاعتبار".
حذّر توز من أن "إسرائيل تسعى للبقاء في سوريا كقوة أمر واقع"، مستدركاً: "لكن تركيا لن تسمح بأن تُفرض وقائع جديدة دون مشاورتها أو على حساب أمنها القومي".
اشتباك مؤجل أم توازن رعب؟
يتضح من خلال هذا المشهد المعقّد، أن العلاقات التركية الإسرائيلية باتت تخضع لمعادلة دقيقة من التوازن الحذر. وبينما يتحدث الطرفان عن تهدئة وتفاهمات فنية، فإن الواقع يكشف عن سباق نفوذ محموم في الأراضي السورية، قد يُترجم في أي لحظة إلى اشتباك مباشر ما لم تُضبط إيقاعاته سياسياً.
فهل تنجح القنوات الخلفية والوساطات الأمريكية في تثبيت هذا "الهدوء المتوتر"؟ أم أن البركان الكامن سينفجر مع أول تحرك خارج المعادلات المحسوبة؟