هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN .
قد يتطلب الأمر أمرًا تنفيذيًا جديدًا للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أو توجيهًا ملكيًا يصدره العاهل الأردني عبدالله الثاني للإفصاح عن تفاصيل تمسك الملك بلاءاته، خاصة الأردنية منها، فيما يخص رفض التوطين والوطن البديل رفضا قطعيا. حذّر الأردن قبل سنوات من السابع من اكتوبر، من مغبة تسوية القضية الفلسطينية على حساب الجوار العربي الذي صار -بعد خراب "دول الطوق" باستثناء الأردن ومصر- أكثر تصعيدا بضغط "القنبلة الديمغرافية" التي كانت هاجس إسرائيل منذ عهد رئيسة وزرائها الراحلة غولدا مائير. الحفاظ على يهودية إسرائيل وديمقراطيتها مرتبط بالسكان لا الأرض. القضية ليست "الأرض مقابل السلام" وإنما من يعيش عليها، وكيف يقام ذلك السلام عبر شروط موضوعية لتحقيقه من أمن فأمان فازدهار .
من هنا كانت إجابات الملك في كل مرة سعى فيها مضيفه إلى رفع التوتر والوتيرة الخاصة بعرضه لتحويل غزة من ساحة دمار شامل إلى ريفيرا الشرق الأوسط. شكر الملك -بكل ما عرف به من لباقة وحكمة وحنكة- قيادة ترامب للجهود الرامية إلى التقدم بالجميع إلى "خط النهاية" لتحقيق "الاستقرار والسلام والرفاه" لجميع شعوب المنطقة بما "يوافق مصالح الأردن والأردنيين على نحو خاص "..
وخلافا لما كان متفقا عليه في أن يكون الترحيب التقليدي أمام المدفئة التقليدية الشهيرة خلف المقعدين الأصفرين، والاجتماعات الثنائية في المكتب البيضاوي مغلقة أمام الصحافة، تم استدعاء "البوول الأمريكي وذوي الاعتماد منا لصحفيين لدى البيت الأبيض" قبل المحادثات الرسمية، الأمر الذي باتت الغاية منه جلية في محاولة الضغط وانتزاع أجوبة وإخراجها من سياقها، لدرجة الوقوع في خطأ مقصود أو غير مقصود لقناة الجزيرة، فيترجمة رد الملك الموجز والواضح فيما يخص "ترتيبات تُرضي الجميع" والتي تم توضيحها على نحو قطعي في تغريدات للملك وتصريحات لوزير الخارجية بأن الأردن ما زال على موقفه الرافض للتهجير والتوطين "الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين ".
إحالة عبدالله الثاني الملف برمته إلى الخطة المصرية المرتقبة والمحادثات العربية الخاصة بإعمار غزة دون تهجير أهلها في الرياض بدعوة من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، كانت بمثابة الرد الدبلوماسي -بلغة دبلوماسية- بما يمكن وصفه بلغة ترامب "كاونتر أوفر" بمعنى الرد على العرض. الحصافة الملكية تمكنت رغم محاولات الإحراج العلنية من تحديد السقف الأعلى لما يمكن للأردن تقديمه وهو محصور في الجانب الإنساني الذي بدأ بكسر الحصار الجوي على أهالي غزة قبل 15 شهرا عندما قاد الملك بنفسه أول عملية إنزال للمساعدات الإغاثية التي بدأت أردنية وصارت من بعد عربية وأمريكية وأوروبية وعالمية. حتى ذلك السقف الواضح بلغة الأرقام وهم 2000 طفل غزيّ من مرضى السرطان أو ذوي الحالات الحرجة تم التلاعب برقمهم فجُعل 12 ألفا! مما اضطر مذيعة فوكس نيوز الشهيرة هاريس فوكنر للاعتذار وتصويب الرقم خطيا في تغريدة لاحقة .
لكن سرديات الإساءة والتأزيم ما زالت مستمرة للأسف في أشبه ما يكون بالتخادم الوظيفي بين قوى تزعم أنها مع إنقاذ المدنيين سواء الفلسطينيين أو الإسرائيليين. فيما ترعى عواصم وأطراف مفاوضات هدنتي حزب الله وحماس، تستضيف من يخدم أجندات الراغبين باستمرار حرب السابع من اكتوبر الكارثية ونقل دمار غزة إلى مدن في الضفة الغربية التي بات في حكم المؤكد إعلان ترامب قبل أو بعد الكونغرس تسميتها "يهودا والسامرة"، بالعودة إلى الأسماء "الكتابية" للضفة الفلسطينية بما يخدم رؤى اليمين الإسرائيلي والأمريكي فيما يعرف بالصهيونية المسيحية أو "المسيانية" وبالتالي ينسف فكرة حل الدولتين بضياع شطريها الضفة والقطاع .
يدرك عبدالله الثاني والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وولي العهد السعودي وقادة آخرون في المنطقة من حلفاء أمريكا أن المضي في تحقيق ترامب لوعوده الانتخابية دون الأخذ بمصالح محور الاعتدال العربي إنما يعني مد طوق النجاة لمحور إيران، أو محور الشر كما يسميه رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو. لذلك كانت القمة الأمريكية العربية الأولى بمثابة استطلاع سياسي إعلامي شهدت الصحافة الأمريكية والعالمية، رغم تشكيك بعض أبواق إيران والنظم والتنظيمات المتحالفة أو المتواطئة معها بأنها كانت ناجحة في مقاومة ضغوط ترامب ونتانياهو معا بالتمسك بالخطوط الحمر الخاصة بالأمن الوطني لكل من مصر والأردن والأمن القومي العربي والاستقرار الإقليمي عموما. ترامب نفسه كان قد أخذ على سلفه جو بايدن بأنه دفع حلفاء تاريخيين للابتعاد عن أمريكا باتجاه موسكو وبكين، وأخذ عليه وعلى سلفه باراك أوباما تحالفهما مع الإسلام السياسي وحتى العسكري -المتشددين والإرهابيين- في زعزعة استقرار دول حليفة لأمريكا وغير معادية وربما صديقة لإسرائيل .
وعلى ذكر التناقض الذي يقع فيه بعض الحلفاء في تعاملهم الانتقائي بما يهدد علاقة الشراكة أو الأهداف المشتركة، لا بد من التوقف عند مسألتين فنيتين ربما حتى لا نسيّس الأمور ونأخذها أبعد مما ينبغي. الأولى تتعلق بالحضور الإعلامي الكمي والنوعي في ساحة الاشتباك. غياب صحفيين أردنيين عن القمة أو مراسلين صحفيين للقطاعين العام والخاص الأردني للتغطية المباشرة من داخل البيت الأبيض أو أمام أي معلم أيقوني في واشنطن أو حتى من بوسطن، استغله للأسف دعاة التأزيم سواء من المعروفين بعدائهم لأمريكا أو لترامب أو الأردن ومصر. أما المسألة الثانية فكانت استغلال غير مهني لصور الملك الفوتوغرافية والتلفزيونية خلال اللقاء. ليس سرا أن عبدالله الثاني كما كثير من الناس لديهم حساسية من الإضاءة مما اضطره لحالات كثيرة في التعامل مع مصدر الإزعاج، سواء باتجاه زاوية النظر أو إراحة العينين. من المشين مهنيا استغلال بعض الجهات "الصحفية" المسيسة والمؤدلجة للمشهد وتحميله مواقف أبعد ما تكون عن الحقيقة، مما أعاد للأذهان تجربة شخصية مررت بها قبل 33 عاما في مقر CNN في عاصمة ولاية جورجيا الأمريكية، مدينة أتلانتا. يومها كنت في بعثة تلفزيونية من الأردن ضمن برنامج دولي كان يرعاه تِد تيرنر لإيمانه بدور الصحافة في خدمة الحقيقة وبالتالي إحلال السلام بين الناس قبل الحكومات. يومها سألني رئيس قسم الأرشيف إن كانت هناك أي رسالة سياسية في صورة العاهل الأردني الراحل الحسين ملتحيا، فأخبرته عن محبة الناس وعادة التقبيل ثلاثا على الأقل على الوجنتين مما تسبب بحساسية ولا يعني الأمر أي شيء آخر لا سياسيا ولا دينيا. ربما الشماغ الأحمر هو الأقرب إن أردت اختيار بدائل قلت لمضيفي الخبير المهني، وقد كان.. طبعا إلى جانب مجموعة وافية من الصور التي يتم اختيارها مهنيا وفق معايير متعارف عليها من قبل المؤسسات الصحفية المحترمة. في لحية الحسين وعيني عبدالله ضمانة لقراءة أدق لكلام الملوك وفهم رسائلهم..