تشهد الساحة الريادية العالمية تحولا هادئا لكنه جوهري؛ فبدلا من السعي وراء الأسواق الواسعة، يتجه رواد الأعمال في عام 2025 نحو أسواق محدودة ومجتمعات دقيقة التخصص. هذا الاتجاه، الذي يُعرف باسم ريادة الأعمال المتخصصة أو العمودية الدقيقة، يعيد تعريف مفهوم النجاح في عالم الشركات الناشئة.
ووفقا لتقرير صادر عن شركة "تو بي أسوشييتس" لعام 2025، فإن أكثر الشركات صمودا ونجاحا هي تلك التي "تملك مجالها الخاص"، وتقدّم منتجات موجهة بعناية لمجتمعات صغيرة لكنها شديدة الولاء. وفي عصر يسوده فائض العرض والشخصنة والتحليل الخوارزمي، يبدو أن المستقبل ينتمي إلى المتخصص لا إلى العام.
ولطالما ارتبط مفهوم ريادة الأعمال بالتوسع، فكلما كان السوق أكبر اعتُبر المشروع أكثر جاذبية. لكن الاقتصاد الرقمي قلب هذه المعادلة.
فمنصات مثل "شوبفاي" و"إتسي" و"سابستاك" تمكّن اليوم رواد الأعمال من الوصول مباشرة إلى جماهير صغيرة من دون الحاجة إلى بنية تحتية ضخمة.
ويشير تقرير "مؤسسة سويزبرينور" لعام 2025 بعنوان "نماذج ريادية لتجربتها في 2025" إلى أن المشاريع الفائقة التخصص يمكن أن تحقق ربحية عالية حتى مع مبيعات محدودة، لأن الزبائن في هذه القطاعات الصغيرة على استعداد لدفع أسعار أعلى لقاء القيمة المخصصة.
بهذا المعنى، تقوم الريادة الدقيقة على العمق لا الاتساع، وعلى بناء علاقة متينة مع المجتمع بدلا من مطاردة حصة مؤقتة من السوق.
وتعد التكنولوجيا بمنزلة الركيزة الأساسية لهذه الموجة الجديدة من ريادة الأعمال المتخصصة والدقيقة فالتحليلات القائمة على الذكاء الاصطناعي، والاستهداف الدقيق عبر وسائل التواصل، وأدوات البرمجة المنخفضة الكود، تمكّن المؤسسين من تصميم وتسويق حلول فائقة التخصص بسرعة غير مسبوقة.
ويكشف تقرير "شوبفاي" عن اتجاهات المشروعات الصغيرة لعام 2025 أن نحو 68% من الشركات الإلكترونية الجديدة تستهدف شرائح فرعية ضمن صناعات قائمة مثل مستحضرات التجميل النباتية، أو منتجات العافية للحيوانات الأليفة، أو أدوات الإنتاجية الداعمة للأشخاص ذوي التوحد.
ووفق منصة "إكسبلودينغ توبيكس"، يعكس هذا الاتجاه تحولا ثقافيا أعمق، فالمستهلكون يفضّلون العلامات التجارية التي "تفهمهم" أكثر من تلك التي "تصل إلى الجميع".
وباستخدام أدوات مثل "شات جي بي تي" و"ميدجورني" و"ماجيك ستوديو" من "كانفا"، بات بإمكان رائد أعمال واحد إنشاء هوية تجارية احترافية واختبار السوق خلال أيام قليلة، وهو ما جعل الشركات الصغيرة تنافس المؤسسات التقليدية من حيث سرعة الابتكار.
وتقوم ريادة الأعمال الدقيقة على الانتماء لا التسويق. فالمشاريع الناجحة لا تبيع فقط، بل تبني مجتمعات قائمة على القيم المشتركة والصدق والهوية.
فعلى سبيل المثال، حققت علامة العناية بالبشرة "توبِكَلز" قاعدة جماهيرية مخلصة من خلال التركيز على أصحاب الأمراض الجلدية المزمنة، وهي فئة طالما تجاهلتها الشركات الكبرى.
وفي العالم العربي، تبرز مشاريع مثل "متشا" للأزياء الأخلاقية، و"حكيني" لتقديم الإرشاد النفسي باللغة العربية، كنماذج لنجاح الأسواق الصغيرة عندما تُخدم بصدق.
ويؤكد تقرير "هابسبوت" حول اتجاهات ريادة الأعمال لعام 2025 أن "رائد الأعمال المستقبلي هو جزء من القبيلة التي يخدمها"، أي إنه ينجح لأنه ينتمي فعلا إلى جمهوره.
لكن هذا النموذج من ريادة الأعمال الدقيقة لا يخلو من التحديات، فالإفراط في التخصص قد يحدّ من التوسع، ويعرّض المشاريع لخطر تشبع السوق أو تقلّب الطلب.
ويحذر تقرير "سترايب" من أن على رواد الأعمال الدقيقين التخطيط مبكرا لما يسميه "التوسع الأفقي"، أي الانتقال إلى منتجات مكمّلة أو أسواق جديدة بمجرد نضج الشريحة الأصلية.
وتعتمد هذه المشاريع ماليا على نماذج الإيرادات المتكررة، مما يجعل فقدان عدد محدود من العملاء مؤثرا بشدة على الاستدامة.
كما أن خوارزميات المنصات الرقمية تميل إلى مكافأة الحجم والتفاعل الكمي، لا الدقة والجودة، وذلك يفرض على هذه المشاريع الاستمرار في الإبداع والتفاعل للحفاظ على الظهور.
وفي الاقتصادات الصاعدة، يشكل ريادة الأعمال المتخصصة فرصة تنموية فريدة، ففي أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، حيث تندر الشركات العملاقة، يمكن للمؤسسين السيطرة سريعا على قطاعات محلية صغيرة.
وفي مصر على سبيل المثال، بدأت منصة "إلكوتش" كخدمة تدريب لياقة شخصية بالعربية قبل أن تتوسع إلى برامج تعاف للشركات. وفي نيجيريا، انطلقت "ثرايف أغريك" كمشروع لربط المزارعين الصغار بالمستثمرين المحليين، ثم توسعت عبر غرب أفريقيا.
ويشير تقرير "المنتدى الاقتصادي العالمي" لعام 2025 حول ريادة الأعمال المستدامة إلى أن هذه المشاريع غالبا ما تجمع بين الربح والأثر الاجتماعي، وتنسجم مع أهداف التنمية البيئية والمجتمعية.
وتشير تحليلات إلى أن الموجة التالية من ريادة الأعمال الدقيقة ستقودها البيانات والذكاء الاصطناعي. فالأدوات التحليلية التنبؤية وتقنيات التصميم التوليدي باتت تتيح تخصيص المنتجات لكل مستخدم على حدة، بحيث يصبح كل مستهلك "قطاعا دقيقا" بحد ذاته.
وتتوقع مجلة "هارفارد بزنس ريفيو" أن "التخصيص المجهري" سيحل محل التقسيم التقليدي للسوق بحلول 2030، وأن الشركات التي توفّق بين الرؤية الإنسانية والبيانات الذكية ستكون قائدة المرحلة المقبلة.
أما المشاريع المحلية الصغيرة، من المخابز والمصممين إلى مدربي الصحة، فباتت تستخدم الذكاء الاصطناعي لأتمتة الأعمال الإدارية، وتخصيص وقتها لبناء علاقات إنسانية مباشرة مع العملاء. إنها معادلة جديدة تجمع بين التقنية الفائقة واللمسة الشخصية.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة