"لا تمسح الدَّم المراق على الأرض، فالدَّم المسفوح من جسد صاحبه لا يعود إليه البتّة أيّاً كان المُتسبّب فيه؛ امسح جبينك المشجوج برفق، امسحني برفق، وإلاّ سأظلّ أتوَجع".
من الرواية
لكل امرئ جرحه، ثمة من يحمل جرحه في جسده وشوما من دماء جافة، وثمة من يحمل جرحه في روحه، كذكريات موشومة في الذاكرة، ومنهم من يحملها حقيبة على ظهره، حقيبة مصنوعة من جلد آبائه وأجداده، تحدثه كلما خطا نحو المجهول، الذي طالما رأى في أرضه مبتغاه، فلا الموانئ استقبلته، ولا المطارات احتفت به، ولا الفيافي الواسعة حافظت على صدى خطواته.
لذلك ظلت جراحه تلوذ به، كلما عنت على باله ذكرياته العميقة من بئر روحه الغائرة في القدم. ورواية "جرح على جبين الرحالة ليوناردو" للكاتب السوري ثائر الناشف، المقيم في النمسا، والصادرة في بيروت عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، تحمل ذات الجراح لبطلها، فهي جراح خالدة، لأنها جزء من روحه التي لا تفنى بعد فناء الجسد، مرتحلة من زمن إلى آخر، ولا تموت إلا بموت صاحبها.
تتناول الرواية، التي وصلت إلى قائمة التسعة كأفضل الأعمال المشاركة في الدورة الحادية عشرة لجائزة كتارا للرواية العربية 2025م، مفهوم "الألم" كفلسفة أدبية، انطلاقا من أن له دورا مهما في فهم التجارب الإنسانية والشخصية. إذ تبين الرواية هذه الفلسفة بتصوير شخصيات تعاني وتتألم، وتوضح كيفية تأثير الألم في حياتهم وتطورهم الشخصي.
تدور أحداث الرواية ما بين النمسا وإيطاليا في القرنين الرابع عشر والحادي والعشرين، وتتناول قصة الشاب الصحفي عيسى الروماني، وهو شاب مهاجر إلى أوروبا من أصول شرق أوسطية.
تسلط الرواية بقعة ضوء على جوانب عديدة من حياة اللاجئ العاطفية والنفسية، ولعل أبرزها تلك الكوابيس والتخيلات التي راحت تطارده، منذ أن أصيب جبينه بجرح عميق، إثر اصطدام رأسه بحافة الكوب.
تتنوع الرؤى والتفسيرات لموضوع الألم بين الروائيين والفلاسفة؛ فقد يكون الألم مصدرا للتحديات والنمو، أو سببا لليأس والانحدار. إذ إن الرواية تطرح من خلال موضوعها الجديد مفهوم فلسفة الجرح في الفكر الإنساني، وتناقش على مدار فصولها العديد من التساؤلات التي عبّر عنها بطل الرواية أثناء لقاءاته بشخصياتها.
يقول الروائي السوري، المقيم في النمسا، ثائر الناشف: "إن الارتحال بهذا المعنى ليس هروبا من الغربة، إنما تأكيد عليها، وتمثيل حقيقي لمكابدها ومرارتها"، ويضيف: "إن الارتحال بحد ذاته رديف الألم، فلولاه -الارتحال- ما كان للألم أن يظهر بجلاء في سطور النص، وأن يرسم صورته النقية بواسطة الجرح الكائن على جبين بطلي الرواية اللذين حملا من آلام الغربة كمنفى ومغترب ذات الآلام التي حملت، إن في أوروبا راهنا أو في مصر سابقا".
تبدأ الرواية باستقبال "عيسى" اتصالا هاتفيا من إحدى الهيئات الصحفية، إذ تعرض عليه العودة إلى عمله الأساسي في حقل الإعلام، فيبتهج كثيرا بعدما أمضى سنوات عدة من الخيبة وفقدان الأمل في بلاد الغربة، ولا يتوانى عن نقل الخبر إلى صديقته "هيلين"، وقد حاول جاهدا تحريك عواطفها تجاهه، لكن دون جدوى.
هنا يخطط عيسى للقاء هيلين بغية إقناعها بحبه لها، ويتماشى ذلك مع محاولته استثمار بشرى عودته إلى الصحافة في سبيل تعزيز موقفه العاطفي أمامها، وحثها على إذابة الجليد بينهما. لكن ما إن يشق طريقه إليها حتى يلتقي صدفة برجل نمساوي يدعى فرانز، على ضفاف نهر الدانوب في فيينا ، فيروي له قصة الرحالة والمؤرخ الروماني ليوناردو، ويخبره عن جرحه وأوجه الشبه بينهما، وأن ثمة مخطوطة نادرة لا تزال موجودة في إحدى القلاع الرومانية، فتستولي الدهشة على عيسى، دون أن يكون بوسعه الطعن في رواية فرانز أو تصديقها.
يقول ثائر الناشف إن عنوان الرواية "مستقى من صلب الحدث، ومرآة الواقع، ودورة الزمن، وجوهر الشخصية، فالجرح -سواء أكان جرح عيسى المادي الراهن أم جرح ليوناردو الروحي- يمثل الحدث، بينما الجبين المدمى هو المرآة العاكسة لأهوال الواقع المرير". ويشير الناشف إلى أن الرحلة "إنما تعبر عن اتجاهات الزمن الماضي والحاضر، بينما لا تلبث شخصية ليوناردو أن تتحد روحيا مع جرح عيسى، فهذا الاتحاد الاستثنائي الفريد شكل جوهر النص المتمم للمضمون".
ويضيف الناشف في حديثه للجزيرة نت، أن معمار الرواية نهض أساسا على "جزئيات العنوان التي نمت تدريجيا في ثنايا النص -المضمون- حتى إنها غدت أحد أهم أعمدة الرواية، ولا شك في أن العنوان وظف نفسه بطريقة تلقائية في سياقات النص، وصنع هوية الرواية المستمدة من العنوان نفسه عن طريق الاعتماد على تلك الأركان والأعمدة الوارد ذكرها أعلاه".
الرواية تمثل منبرا لتقديم تفسيرات مختلفة لتجارب الألم ومعانيها في الحياة الإنسانية، فتظهر جلية عندما يلتقي عيسى بـ"هيلين"، فتبث الأخيرة طاقة سلبية هائلة مردها الحسد واليأس، ولا تلبث أن تصيبه بها، فتنعكس تلك الطاقة عليه، ويتعرض بعدها لجرح في جبينه، ليفاجأ أنه أمام جرح ناطق لا يشبه أي جرح آخر في حياته، جرح لا ينفك يتحدث إليه ويشعر به مثلما يشعر بنفسه، ثم يرتحل معه إلى المستشفى، ويبدأ في استكشاف انطباعات الأطباء والممرضين تجاهه.
وما إن ينصرف مغادرا المستشفى حتى يشاهد رجلا جريحا شبيها به، فيحتار في أمره دون أن يعرف ما إذا كان متوهما أم لا. ولا يكاد يبدأ حديثه إلى الرجل الشبيه حتى يتذكر سيرة حياة ليوناردو التي رواها له فرانز، فيتكشف حينئذ أن جرحه هو روح ليوناردو التي راحت تحاكيه عبر الأماكن التي راح يصلها في الزمن الحاضر.
تنمو في عيسى رغبة قوية في اكتشاف آثار ليوناردو المادية، فيتذكر لقاءه العابر بفرانز، فينطلق إلى البحث عنه لكن دون جدوى. يصادف أناسا جرحى في طريقه إلى فرانز، يتحدث إليهم بلسان جرحه، وهم يتحدثون إليه بلسان جراحهم المرسومة على وجوههم، ويسرد كل جرح قصة صاحبه وأسرار حياته التي لا يستطيع المرء في الأحوال العادية سردها أو البوح بها.
وهنا يكون الألم حافزا قويا للكتابة كما هو الحال بالنسبة لكثير من الكتاب، حيث يجدون في التعبير الفني عن تجاربهم ومشاعرهم وسيلة لتخفيف الألم والتعبير عنه.
وعن دوافع كتابة هذه الرواية، وهل جرح الغربة هو ما دفع الكاتب للكتابة، أم أن الكاتب جعل من الجرح سفينة يعبر منها إلى بر الكتابة؟ يجيب الروائي الناشف: "في الواقع كلا الأمرين معا، إضافة إلى تراكمات وتجارب شخصية سابقة لامست حواف الجسد، ومست جوهر الذات، فجرح الغربة لا يمكن أن ينفصل البتة عن الجرح الحي، سواء أكان جرحا جسديا أم جرحا روحيا." ويؤكد أن الجرح والغربة شكلا "الدافع القوي للكتابة، مثلما شكلا أيضا سمات بطل الرواية".
يخوض بطل الرواية رحلة البحث عن مخطوطة ليوناردو سعيا منه لإدراك الحقيقة، وللوقوف على آثاره، لكنه يمر بصعوبات بالغة أثناء الرحلة، إذ يحاكم بتهمة تزوير جواز السفر، ويتعرف إلى طاقم المحكمة من خلال جراحهم بعدما أسهبت في الحديث إليه، فضلا عن رفض المجتمع له كمهاجر.
فبرز الاغتراب في متن الرواية وأحداثها جليا واضحا من الألم الذي يعانيه اللاجئ في غربته. فهل استطاع الكاتب أن يرسم لوحة الاغتراب الذي عاشه في أوروبا، أم أنه تركها غير مكتملة؟ يوضح الروائي الناشف في حديثه: "في اعتقادي أن الرواية بمحتواها الفلسفي التاريخي لم ترسم لوحة الاغتراب فحسب، بل رسمت أيضا لوحة الألم الذي تسببت فيه الغربة، فضلا عن عدم الاستقرار المكاني والزماني، أو ما يمكن تسميته "دياسبورا"، بحيث أصبح الألم -سواء أكان ألم الكاتب نفسه أم ألم الشخصيات- بمثابة الخيط الرفيع الذي نسجت الرواية على منواله".
ويتابع الروائي السوري: "بينما عكس الاغتراب حالتي الشتات الروحي والجسدي، اللتين ظهرتا بوضوح في سياق النص من ارتحال بطلي الرواية "ليوناردو" و"عيسى الروماني" إلى عوالم مادية بحتة، مضمارها رحلات الزمن الحاضر، وأخرى روحانية خالصة قوامها التواصل مع جروح الآخرين، إذ جعلت تبحر عميقا في ماضي كل شخصية على حدة".
يركز الروائي ثائر الناشف على أهمية الحدث والدافع والتجربة "الخبرات الشخصية" في بناء هيكل الرواية، وابتكار الحبكة، وخلق الشخصيات، ونسج الحوار، شريطة ألا يسبق أحدها الآخر، وألا يلعب دوره في تقرير المصائر ورسم النهايات. لأنه إن تقدم الدافع على الحدث، وغابت التجربة عن الكاتب، فسوف تفقد الرواية رونقها، وتغدو حينئذ مجرد خواطر وتخيلات وإلهام يخص الكاتب وحده، إلهام يحتاج إليه الكاتب إن كان شاعرا أكثر مما قد تحتاج إليه الرواية. كل هذه العناصر الأساسية يمكن استقاؤها من ذلك الثلاثي، حيث كان بمثابة الزاد الذي يستمد منه الروائي القدرة على مواصلة الكتابة الإبداعية.
يصل عيسى إلى بلدة متاخمة للحدود الإيطالية، ويعثر على القلعة الرومانية القديمة، فيجدها قد تحولت إلى كنيسة كاثوليكية، باستثناء بعض الحجرات العلوية التي ظلت جزءا من القلعة. يدلف عيسى إلى إحدى الحجرات، ويشاهد لوحة ليوناردو، فيقف مذهولا وهو غير مصدق لما يرى. وما إن يرفع اللوحة عن الجدار حتى يرى خلفها مخطوطة ومفتاحا قديما، فيتصفح المخطوطة بشغف، ويقرأ بعض أقوال وحكم ليوناردو التي ظل يسمعها طوال الرحلة بصوت جرحه الحي.
وعن اتكاء الرواية على شخصيات أوروبية، كرس الروائي تأثير الاغتراب بطريقة نوعية تفاعلية عبرت عن اتجاهين ذوي هويتين وثقافتين مختلفتين، لكنهما التقتا بعدة نقاط في متن الرواية التي سلطت الضوء كذلك على الشخصية العربية المهاجرة إلى أوروبا، وسط تحديات جمة وقضايا شائكة كالاندماج والمحاكاة والتحول والتبعية.
يعيش عيسى حالة من الشك، وما إن يهبط إلى القبو حتى يشاهد الباب نفسه، فيتأكد عندئذ أنه ليس متوهما، لكنه يفاجأ حينها برؤية فرانز بزي الكاهن، وهو يتلو الأناشيد الكنسية، فيتجه إليه ويسأله عن سر اختفاء اللوحة والمخطوطة، فيكون جوابه البليغ نهاية الرواية.
يمكن القول إن اللوحة التي رسمتها الرواية من خلال شخصية الشاب المشرقي عيسى الروماني ولقائه الحتمي بالرحالة الإيطالي ليوناردو، من شأنها أن تقدم تعريفا جديدا لعلاقة الشرق بالغرب من منظور الاستغراب الأدبي الموازي لمنظور الاستشراق. فعلى الرغم من الخوض والتعمق الموضوعي في مضامين الثقافة الغربية، إلا أن الروائي لم يستطع إخفاء مقادير التأثر بها، على الأقل في بنية السرد ولغة الحوار.