إذا كانت الثقافة تمثل خط الدفاع الأول عن فلسطين وهويتها بعد سلسلة من الإخفاقات السياسية، فمن هنا جاءت أهمية دعم المبدعين الذين يسخرون أعمالهم لإنعاش المشهد الثقافي، ومواجهة محاولات تهويد المدينة المقدسة، والتركيز على هويتها العربية الإسلامية، وكشف مخططات المحتل في سياسته لطمس هويتها.
ومن هذا المنطلق، حصد المبدع محمد عبد الفتاح حليقاوي المركز الأول لجائزة الفكر التنويري العربي ونقد الفكر الاستشراقي عن مؤلفه "السهم والدائرة: الاستشراق والحركة الصهيونية.. من الفكرة إلى الدولة"، التي منحتها مؤسسة فلسطين الدولية في دورتها الـ12 في مايو/أيار الماضي.
وضم المؤلف مجموعة قضايا، كالإطار النظري للاستشراق والحركة الصهيونية، والغرب الإمبريالي بين رهانات الماضي واحتمالات المستقبل، والاستشراق الإسرائيلي، وأبرز المستشرقين اليهود ونتاجهم العلمي، ومؤسسات ومراكز البحث العلمي المرتبطة بالاستشراق الإسرائيلي، وتقديم الرؤية الاستشرافية لمستقبل قضية فلسطين في ضوء العلاقة بين الاستشراق والحركة الصهيونية.
وفي حديث للجزيرة نت، قال محمد عبد الفتاح حليقاوي، الفائز بجائزة إدوارد سعيد في الفكر التنويري ونقد الفكر الاستشراقي: "إن الكتاب يسعى إلى استنطاق واستبصار العلاقة بين الاحتلال تاريخيا ومعرفيا وسياسيا وأخلاقيا، والمسألة اليهودية في الغرب الأوروبي، وضرورة دراسة ماهية الخطاب الاستشراقي الغربي وارتباطاته بالحركة الصهيونية، حيث تأسس الخطاب الاستشراقي الغربي على فكرة أساسية هي إلغاء الآخر الفلسطيني، وأن فلسطين أرض بلا شعب وبلا تاريخ ثقافي، وبهذا انتقل التماهي بين الخطابين الاستشراقي الغربي والصهيوني إلى درجة الاندغام والانصهار، حيث ذهب هذا الاحتلال بعيدا في مغالاته وتكريسه لأبجديات الكراهية والإقصاء والإبادة بحق الشعب الفلسطيني وحقوقه".
وحسب رأيه، فإن الخطاب الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين يرتكز على سردية الاستشراق الغربي، فقد كرس الصهاينة لإسكات التاريخ الفلسطيني أو إلغائه أو اختطافه، ونزع الإنسان الفلسطيني عن تراثه وإرثه وأرضه، في عملية تطهير ثقافي وتاريخي وسياسي لا تقل في ضراوتها عن التطهير العرقي الذي مارسه الاحتلال كثيرا.
وليس ثمة شك أن الخطاب الصهيوني ظل متكئا على مقولة مركزية، وهي أن الكيان الاحتلالي في فلسطين هو الحقيقة والصورة الديمقراطية والليبرالية الوحيدة في المنطقة العربية، وانبثق من تلك التمثيلات أن أصبحت صورة الكيان الصهيوني محاكاة أيديولوجية لمدينة "روما الجديدة"، التي يحيطها "البرابرة"، وهم الشعب الفلسطيني والعربي.
ويرى حليقاوي أن إقدام المفكر والناقد إدوارد سعيد على طرق مسألة الاستشراق يندرج في مسارات تطور فكره بطريقة جدلية أو طباقية، ولم تكن هذه العناصر المعرفية والتاريخية مستمدة من الغرب وحده، وإنما ساهمت الجذور الفكرية، والتجربة الحضارية، والثقافة العربية، والانتماء الوطني في بلورة منهجية إدوارد سعيد.
حيث لم يكن إبداعه الفكري تطورا محضا على مستوى المعنى واللفظ، وإنما كان انفتاحا معرفيا لا حدود له، وبناء محكما ذا فواصل متوالية تملك على الإنسان لبه وتحبس أنفاسه بسبب الإيقاع المتواصل والمنهجية العلمية التي يضفيها على المسائل التي يدرسها.
ولما اجتمع الاثنان: إدوارد سعيد والاستشراق، بصورة حقيقية ومنهجية، تقلصت المسافة بين ذات الدارس الباحث والمفكر والمثقف، وذات المدروس التي يغلب عليها التعالي والارتياب وإلغاء الآخر والإقصاء والتهميش والسيطرة والهيمنة.
ويواصل حديثه بالقول إن خطاب ما بعد الكولونيالية ومضامينه، مع إسهامات إدوارد سعيد الفكرية، بات اتجاها نقديا صارما تأسس على نقض المقولات الغربية والتنميط القاتل، وصولا إلى ارتقاء المشروع الفكري لهذا المفكر، الذي كان يمثل مؤسسة بجهوده العظيمة، إلى مرحلة النقد الإنساني ومناهضة أشكال التمركز الغربي الكولونيالي ومنظومة طمس هويات الآخر.
أما مدينة القدس، فإنها تبرز في معظم محاضراته ومقالاته، ولكنها تتألق في مذكراته "خارج المكان"، حيث تحضر المدينة من خلال رؤى الطفل إدوارد، وهو يسميها قدس فلسطين التي تتمثل في الطالبية والقطمون والبقعة الفوقا والتحتا التي يسكنها الفلسطينيون.
أي أنه يراها مدينة بهوية فلسطينية، لذلك فالقدس في فكر إدوارد سعيد تنصهر بين الإنسان والمكان، وهي رمز الوجود والحضور الفلسطيني في الذاكرة الجمعية، رغم أنها خضعت لاحقا لسرقة كاملة لإنسانها ومكانها وهويتها الفلسطينية.
ولكن لماذا عاداه المستشرقون؟ يوضح حليقاوي أن بعض الباحثين الغربيين، وبالذات أصحاب الاهتمامات المرتبطة بالاستشراق، سعوا إلى تحطيم صورة وفكر إدوارد سعيد، لأن ما قام به من نقد شكل تحديا لمنظومة البناء المعرفي والثقافي والأيديولوجي التي قام الغرب بتشييدها عبر قرون طويلة، وفوق أجساد ملايين الناس الذين تم استعمار بلادهم ونهب ثرواتهم ولغاتهم وثقافاتهم.
فقد انتهج إدوارد سعيد ببحثه في الاستشراق منحى مقاومة الاستعمار والطغيان والإلغاء والسيطرة والهيمنة، وتمثل في منحه هذا أن الاستشراق هو أسلوب فكري قام على تمييز أنطولوجي وأبستمولوجي بين الشرق والغرب، وأسلوب غربي للسيطرة على الشرق وامتلاك السيادة عليه.
كما سعى -والحديث لحليقاوي- إلى ضبط مفهوم الاستشراق باعتباره دراسة الغرب للشرق كوسيلة من وسائل الهيمنة، وبالتالي لا يخلو من المقاصد السياسية والأيديولوجية والثقافية، وبات إسقاطا ثقافيا لعقيدة سياسية على الشرق.
وأضحى النقد السعيدي للاستشراق نموذجا لكشف خطوطه الخلفية، وحوّل مقولات الغرب إلى وجهات نظر تخضع للمحاكمة العلمية والمنهجية.
حاول الكثير من المستشرقين الانخراط في الإجابة عن السؤال الأبرز بخصوص الإسلام: لماذا ينتشر الإسلام ويخرج بعد كل هزيمة من جديد؟ بل ويزداد الإعجاب به من قبل فئات غير متوقعة؟ بل إن أحد المستشرقين ألف كتابا يحمل العنوان التالي: "جاذبية الإسلام"، وهو مكسيم رودنسون.
كما كان للقرآن الكريم واللغة العربية أكبر الأدوار في التأثير بهؤلاء ورؤاهم حول الإسلام والثقافة العربية وعموم التراث المرتبط بهما. واستمر أهل الاستشراق في البحث عن جاذبية الإسلام حتى اليوم دون الاعتراف بما وجدوا.
ويرى حليقاوي أن حرية وكرامة الإنسان، وقيم العدالة والمساواة، ومحاربة الإلغاء والاستبداد، مثلت أبرز تحديات الإسلام والثقافة العربية في مواجهة الغرب. ولكنها تحديات تكشف زيف ادعاء الغرب بالتحضر والإنسانية، ولهذا ظلت هذه الجاذبية مرفوضة على الدوام.
وفي رده على سؤال، قال حليقاوي: كانت الكنيسة في الغرب وقادتها من رجال الدين أصحاب الريادة في التوجه نحو الشرق والاهتمام به، ولهذا كانت طليعة المستشرقين من رجال الدين والقساوسة. وبالتالي، هنالك تماه بين الاستشراق والتبشير، والمصلحة بينهما تجمع أو تفرق بين المجالين.
ولكن القول إن الاستشراق هو الوجه الآخر للتبشير يتضمن حكما تعسفيا يحتاج إلى أدلة وبراهين ودراسات، ولكن لم يمنع ذلك توظيف أحدهما للآخر أو استغلاله أو استبعاده.
ولكن ماذا عن مسؤولية النخبة العربية تجاه القدس؟ أفاد حليقاوي بوجود نشاط ثقافي متنوع داخل المدينة، ولكن التهميش والتغييب يلاحق القائمين على الحراك الثقافي. بيد أن السؤال يمكن أن يكون أكثر إيلاما عندما نتحدث عن دور النخبة المثقفة العربية والإسلامية تجاه المدينة المقدسة، التي تحتاج المزيد من التوعية والدعم والتثبيت، ومواجهة التهويد والطمس.
ولا بد أن يهتم المثقف بالموضوعات البحثية المتعلقة بمدينة بيت المقدس، لأن مدينة بحجم بيت المقدس قداسة وبركة وأهمية تستحق أن نعرف عنها أكثر، وأن نركز جهودنا العلمية في أبحاث عملية قابلة للتطبيق، مع قيام الهيئات العلمية الأكاديمية بعقد مؤتمرات علمية تهتم بمدينة بيت المقدس وبكل القضايا والإشكالات التي ترتبط بها.
كما يجب دعوة الهيئات العلمية ووزارات التعليم العربية إلى إعداد برنامج دراسي يقدم للأجيال الحالية من الأطفال والشباب، الذين لا يكادون يعرفون شيئا عن مدينة بيت المقدس وما تتعرض له من تهويد مبرمج ومخطط، مع تقديم مقترحات لإنجاز وتطوير برامج إعلامية لمختلف وسائل الإعلام العربية، تتابع ما يجري من استيطان وتهويد وقتل للإنسان والمكان والتراث والأشجار والمكتبات.
وقال حليقاوي إن حضور "الآخر" الغربي الطاغي والمهيمن، الذي يبشر بثقافته وقيمه وفلسفته وعقائده على أنها الصواب المطلق وسبيل الخلاص، من خلال قدرات إعلامية هائلة وساحرة تتحكم بعقل الإنسان وحياته، وإنتاج تقني يحكم حركته وحاجاته، يتطلب إعادة تنظيم وفهم "الذات"، والكثير من المراجعة والنقد للخروج من النفق المظلم الذي نعيش فيه.
وحسب رأيه، فلا تزال قضية كيفية التعرف على "الآخر" والتواصل مع أنساقه المعرفية وتجربته الحضارية وخصائصه مسألة شائكة في الفكر العربي والإسلامي الحديث، حيث تشكل عملية ضبط العلاقة مع "الآخر"، الذي تكاد تطبق إشعاعاته على كل الآفاق في العالم، قمة الغاية التي يسعى إليها عالم الأفكار في مجتمعنا العربي.
والتساؤل المشروع: أين هي مشروعاتنا للنهضة في الألفية الثالثة؟ وهذا لا يعني إلغاء أو رفض محاولاتنا الإصلاحية السابقة، وإنما نحن في مرحلة جديدة لها دلالاتها وشروطها واحتياجاتها ومكوناتها وتحدياتها وآفاقها الجديدة.
فالنهضة، كما أرى، تبدأ من مرحلة نقد الذات، الذي يحتاج إلى تشخيص الذات وعودة حقيقية إلى الذات. لأن قراءة الغرب قراءة واعية عبر مشروع الاستغراب، بالتوازي مع تقديم المشروع الحضاري العربي، بات ضرورة تؤكدها طبيعة العصر. وهذا يتحقق بامتلاك ناصية العلم والمنهجية التي تؤكد المنطلقات الواضحة، والأهداف الدقيقة، والوسائل الناجعة.
المشروع الصهيوني في جذوره وبيئته الأساسية كان مشروعا أوروبيا غربيا قبل أن يكون يهوديا. ولولا جذوره الأوروبية المسيحية والتحامه بمشروع الهيمنة الإمبريالية في النصف الثاني من القرن الـ19، لكانت الحركة الصهيونية الآن مجرد تجمع آخر كالتجمعات والطوائف المتعددة وسط الجسم اليهودي العالمي.
أما جوهر المفارقة بين الكولونيالية الغربية والحركة الصهيونية، فإن التلميذ تفوق على أستاذه في مسألة إلغاء الآخر والاستعمار الاستيطاني. ففي الوقت الذي حول الفكر الاستعماري الغربي العالم إلى مادة استعمارية وظفها لمصالحه ومطامعه، كما حدث في الولايات المتحدة الأميركية التي قضى الأوروبيون على سكانها الأصليين، فقد تبلور في ضوء ذلك الفكر الصهيوني الذي تعمق وتكرس في سياقات غربية خالصة، لكنه بات أكثر إمبريالية وعنصرية.
فالاحتلال الصهيوني أعلن منذ بداياته في فلسطين -الحديث لحليقاوي- أن هدفه تفريغ تلك الأرض من أهلها وإظهارها بصورة "الأرض الفارغة"، وهذه ممارسات استعمارية، ليس عبر استغلال السكان، وإنما عملية إفراغ وتحويل من تبقى منهم إلى أيد عاملة.
ومن هنا ذهب الصهاينة إلى الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتطهيرها عرقيا، وسعوا إلى اختراع نظام أبارتهايد منبثق من نظام استعمار استيطاني.
وختم حديثه بالتأكيد أن الصهيونية هي الحل الاستعماري الغربي للمسألة اليهودية. فبعد تفاقمها طُرحت حلول ترمي إلى "تحديث" اليهود واليهودية، انطلاقا من أن أزمة اليهود واليهودية نجمت عن ارتباطهم اقتصاديا وحضاريا بالمجتمع الإقطاعي السائد، وكونهم جماعات وظيفية بلا وظيفة.
لذلك قام قادة الصهيونية بتكريس فكرة نقل الفائض البشري اليهودي من أوروبا إلى خارجها، كما قاموا بتكريس الترانسفير ضد الشعب الفلسطيني إلى خارج أرضهم، وتشكيل قاعدة للاستعمار الغربي.