مع تزايد سفر العديد من الناس إلى وجهات سياحية قد تختفي قريباً بسبب تغير المناخ، يناقش الخبراء والمرشدون السياحيون كيف يمكن للسياحة أن تساعد في الحفاظ على هذه الأماكن، إذا ما نُفذت بشكل صحيح.
فعند وصول الكاتب الفرنسي، سيدريك دورو، إلى قمة جبل ناءٍ في آيسلندا، حيث لم يتبقى سوى القليل من الأسطح الجليدية الفريدة، كان أول شيء فكر فيه هو أن هذا المكان جميل جداً، حتى أخبره أحد المرشدين بلطف أن كل شيء حوله كان جليداً.
يقول دورو، متذكراً: "ثم أدركتُ وأنا على قمة الجبل - مازلت أشعر بالقشعريرة وأنا أروي لكم هذا - حينها أدركتُ مدى خطورة الوضع".
كان هذا في عام 2018، وكانت الرحلة الأولى من بين رحلات عدة إلى نهر أوك، الذي عُرف سابقاً باسم نهر أوكيجيكول الجليدي.
وقد نظم هذه الرحلة علماء الأنثروبولوجيا بجامعة رايس.
كان الأساتذة يستكشفون موقع جنازة نهر أوكيجيكول الجليدي (التي أقامتها أيسلندا لأول نهر جليدي ذاب بالكامل بسبب التغير المناخي) وحظيت بتغطية إعلامية واسعة، وكان الكاتب الفرنسي، دورو يرافقهم. وكانت تلك أول لحظة يواجه فيها وجهاً لوجه تغير المناخ، وظلت عالقة في ذهنه منذ ذلك الحين.
وخلال السنوات الأخيرة، بدأ عدد متزايد من السياح في البحث عن تجارب مماثلة أثناء سفرهم لرؤية المعالم والمناظر الطبيعية وحتى لرؤية وجهات سياحية، معرضة إلى الاختفاء بالكامل قريباً وإلى الأبد بسبب تغير المناخ.
ويُعرف هذا النوع من السياحة باسم سياحة الفرصة الأخيرة، أي "زيارة المكان قبل فوات الأوان"، وهي ممارسة سياحية مثيرة للجدل، إذ تشير الأبحاث إلى أن كمية الوقود اللازمة للسفر إلى هذه الوجهات البعيدة قد تُسرع من تراجعها.
لكن المدافعين عن هذا النوع من السياحة، يقولون إنها إذا تمّت بطريقة مسؤولة، يمكن أن تلهم أيضاً المسافرين لحماية الأماكن التي جاؤوا لرؤيتها.
ويتجاوز الإقبال المتزايد على السياحة في الأماكن التي تغمرها المياه بسرعة أو تلك التي قد تذوب أو تتناقص مساحتها بسرعة، قدرتها الاستيعابية في كثير من الأحيان، وآيسلندا خير مثال على ذلك.
منذ الزيارة الأولى لدورو، يتوافد نصف مليون سائح كل عام لزيارة الدولة التي يبلغ عدد سكانها 400 ألف نسمة للقيام بجولات على الأنهار الجليدية.
وقد أظهرت دراسةٌ أُجريت في ستة مواقع جليدية في أوروبا أن ما يقارب نصف الزوار كانوا مدفوعين برغبةٍ في رؤية الجليد قبل ذوبانه.
ورغم أن السياحة في هذه المواقع لا تؤدي بالضرورة إلى الحفاظ عليها، إلا أن تعلّق السائح بها قد يُسهم في تمهيد الطريق نحو تغييرٍ هادف.
تدرس روبين كونديس كريج، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة كانساس، التحديات القانونية المتعلقة بالحفاظ على البيئة.
ومع تزايد أعداد الأشخاص الذين يسافرون لرؤية الشعاب المرجانية والأنهار الجليدية والأرخبيلات المهددة بالاختفاء، تحذر روبين كونديس كريج من أنه بدون التعريف بأهمية تلك المناظر الطبيعية والتعامل معها بحذر، "سيدوس ملايين الأشخاص على منظر طبيعي هش يحاول التكيف مع تغير المناخ"، كما حدث في أجزاء من منتزه يوسمايت الوطني.
ورُصدت التأثيرات السلبية للزائرين الذين يسافرون بشكل جماعي إلى النظم البيئية الهشة.
ومع ارتفاع درجة حرارة البحار واستمرار القوارب التي تعمل بالغاز في جلب المزيد من الناس إلى الحواجز المرجانية، شهد هذا النظام البيئي الضخم مؤخراً أسوأ ابيضاض للمرجان على الإطلاق.
وتعرضت الشعاب المرجانية في إندونيسيا وهاواي أيضاً لأضرار بسبب السائحين، وقد يستغرق قاع البحر سنوات عديدة للتعافي من تأثيرات قوارب الاستكشاف.
فقد ظلت مدينة البندقية تعاني تحت وطأة تزايد الإقبال السياحي المتزايدة لعقد من الزمن.
ومع تزايد أعداد السائحين الذين يسافرون إلى القارة القطبية الجنوبية كل عام، دخلت أنواعاً حية جديدة تُسمى "الغازية" بالإضافة إلى إنفلونزا الطيور، مما أدى إلى تدمير فصيلة حيوان الفقمة المائي المحلي هناك.
والحاجز المرجاني العظيم هو منتزه بحري شيدته أستراليا في ثمانينيات القرن العشرين للحفاظ على الحياة البحرية العالمية والتنوع البيولوجي.
وهناك مؤشرات أيضاً على أنه في حين أصبح بعض زوار المواقع السياحية التي تندرج تحت مسمى "الفرصة الأخيرة "أكثر اهتماماً بالبيئة، فإن قلة منهم فقط، تغير سلوكهم ليصبحوا سفراء فعالين للتغيير.
ومع ذلك، فإنه من غير المرجح أن تختفي سياحة "الفرصة الأخيرة"، ففي عام 2024، نشرت روبين كونديس كريج، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة كانساس، بحثاً يوضح كيف ستؤثر الاستجابات البشرية، كالحزن مثلاً، على تكيف المنتزهات مع تغير المناخ.
وكان أبرز ما خلُصت إليه دراسة كريج هو أن أولئك الذين يشرفون على العديد من الوجهات السياحية التي تندرج تحت سياحة "الفرصة الأخيرة" غير مستعدين للتعامل مع مشاعر الفرح والحزن المتغيرة، التي يشعر بها الزوار عندما يزورون هذه الوجهات.
وترى كريج أن المرشدين السياحيين ومديري المتنزهات يجب أن يكونوا قادرين على توجيه مشاعر الزوار لاتخاذ إجراءات للمساعدة في الحفاظ على هذه المواقع، ولكن في الوقت الحالي، ما زالت المسؤولية بشأن معرفة كيفية التصرف بشكل أخلاقي، على عاتق السياح أنفسهم.
وتعتقد كريج أن على الزوار إظهار الالتزام قدر الإمكان انطلاقاً من المسؤولية الأخلاقية، ولتحقيق ذلك، فإنها توصي بمراعاة ثلاثة أمور:
أولاً، هل تسافر إلى الموقع بطريقة صديقة للبيئة؟ ثانياً، هل تشارك في نشاط لا يضر بالمناظر الطبيعية عند وصولك؟ ثالثاً، ما هي إجراءات الحفاظ على البيئة التي يمكنك اتخاذها عند عودتك إلى الوطن؟
وتختلف إجابات هذه الأسئلة باختلاف المواقع ومنظمي الرحلات السياحية. فلنأخذ القارة القطبية الجنوبية كمثال، تُعرف هذه القارة غالباً بـ"الحدود النهائية للعالم"، وهي تجذب الآن أكثر من ضعف عدد الزوار مقارنةً بموسم 2018-2019.
هذا الزخم له ثمن باهظ، سواء من الناحية المالية أو البيئية: إذ تبدأ أسعار الرحلات البحرية عادة بـمبلغ 7500 جنيه إسترليني (10 آلاف دولار) وتنبعث من تلك الرحلات كمية من الكربون تُعادل ما ينبعث من شخص واحد في المملكة المتحدة خلال عام.
وتوصي آشلي بيرين، المرشدة السياحية في شركة أورورا إكسبيديشنز، المسافرين الذين يرغبون في زيارة القارة القطبية الجنوبية بالبحث عن منظمي الرحلات السياحية الذين يحدّون من عمليات الهبوط بناءً على نشاط الحياة البرية؛ وأن يكونوا أعضاءً في الرابطة الدولية لمنظمي الرحلات السياحية في القارة القطبية الجنوبية، التي تدعم السفر الواعي بيئياً؛ وتدمج التعليم والعلوم في التجربة.
وأوضحت بيرين أن التواصل الواضح مع المسافرين خلال الرحلة يساعدها على تحديد توقعاتهم فور وصولهم إلى القارة القطبية الجنوبية.
ولا تُعلن شركة أورورا، التي تُقدم جولات سياحية لمجموعات صغيرة إلى القارة القطبية الجنوبية عن مواقع هبوطها، مما يمنح المرشدين السياحيين، مثل بيرين، مرونة أكبر لتجنب المناطق المزدحمة أو تلك التي تعشش الحيوانات البرية بالقرب منها.
ويستطيع الزوار أيضاً المشاركة في أنشطة "عِلم المواطن" لتتبع السحب والطقس وجمع البيانات حول هجرة الطيور وتحديد مواقع الضرر في الحياة الطبيعية.
ويشير مصطلح "عِلم المواطن" إلى المشاريع العلمية التي تتضمن مشاركة فعالة من قبل الجمهور في المساعي العلمية، إذ يمكن للمواطنين المشاركة في جميع مراحل البحث.
وبالنسبة لبيرين، تُعد كل رحلة فرصةً لمشاركة وحماية بعض الأماكن التي تُحبها.
وتقول: "أعتقد أن هناك مقولةً لديفيد أتينبره ( ناشط بيئي عمل كمقدم برامج في هيئة الإذاعة البريطانية وقدم وثائقيات عن الطبيعة والبيئة)، وهي أن الناس لن يحموا ما لا يعرفوه، نحتاج أن يذهب الناس لرؤية هذه البيئات ليقعوا في حبها، ويحموها".
والأمر مشابه عند الحاجز المرجاني العظيم.
يمارس أندي راتر - وهو مرشد شعاب مرجانية وخبير في رحلات فرانكلاند أيسلندز- الغوص والغطس حول الحاجز المرجاني منذ عقود.
وبالنسبة له، فإن السياحة الخاصة بالنظام البيئي من المرجح أن يكون لها تأثير إيجابي؛ فهي فرصة لتشجيع الناس على الاهتمام بجميع الشعاب المرجانية، وليس الاهتمام فقط بالحاجز المرجاني العظيم.
ويقول راتر، إن "السياحة مفيدة للتثقيف ونشر الوعي. ويميل الناس إلى الاهتمام فقط بالأمور التي يشاركون فيها بشكل أو بآخر، لذا أعتقد أن هذا النوع من السياحة إيجابي للغاية بالنسبة للبيئة".
ويقترح راتر على السائحين زيارة الحاجز المرجاني العظيم لفترة أطول من رحلة يوم واحد، وأن يتعلموا مُسبقاً مهارات الغطس أو الغوص إن أمكن .
ويوضح أن ذلك يُساعد الزوار على الاستمتاع بالشعاب المرجانية الشاسعة، ويمكن أن يُساعدهم أيضاً على اكتشاف النظم البيئية القريبة من موطنهم.
ووفقاً له، يتعين على السائحين أيضاً اختيار شركات سياحة لديها عالِم أحياء بحرية أو مرشد سياحي رئيسي للشعاب المرجانية، والتأكد من أن الشركة لديها برنامج مراقبة أسبوعي، للشعاب المرجانية.
فالشعاب المرجانية ضخمة للغاية، لدرجة أن المسوحات المنتظمة التي تُجريها شركات السياحة تُساعد على جمع بيانات شاملة، وبعض الشركات (بما في ذلك شركة راتر) تدعو السياح للمشاركة من خلال مشاريع علمية يشارك فيها المواطنون.
وقد درست العالمة المتقاعدة، نادين مارشال، كيف أن الرابط التي كونه المسافرون والسائحون مع الحاجز المرجاني العظيم تجسد في صورة ما عرف بـ"حزن الشعاب المرجانية".
ووجدت مارشال أن الناس أبلغوا عن مستوى مرتفع من حزن الشعاب المرجانية بعد وقائع التبييض (ابيضاض الشعب المرجانية).
وعلى عكس السكان المحليين، الذين شاهدوا تغير الشعاب المرجانية بمرو الوقت، كان الزائرون لأول مرة يحزنون على شيء لم يروه من قبل (حالة الشعاب المرجانية قبل تبييضها) وهو ما يشير إلى أن الناس يمكن أن يكوّنوا بسرعة، رابطاً عاطفياً قوياً مع مكان ما، الأمر الذي قد يزيد من احتمالية تكوّن سلوك صديق للمناخ.
وتقول مارشال: "من الجيد أن نشعر بالحزن، لأنه مُحفِّز، خاصةً عندما يكون سببه سوء إدارتنا لكوكبنا. إنه يُثير فينا الرغبة بأن نكون أفضل وأن نتغير أو أن نكون بنّائين".
وبالنسبة للكاتب الفرنسي، سيدريك دورو، يكمُن السر في الحزن الجماعي ثم تحويل هذه المشاعر إلى أفعال.
وبعد عودته من أيسلندا، ساعد دورو في تنظيم وتنسيق مهرجان في ليون لمناقشة تحديات تغير المناخ والحلول الممكنة له.
ويقول: "أعتقد أن الحزن على مشاهدة مناظر طبيعية خلابة وهي تختفي لا يكفي، تقع على عاتقنا مسؤولية، ومشاعرنا تُذكرنا بذلك".