آخر الأخبار

السر المقدّس: لماذا بنى المصريون القدماء الأهرامات؟

شارك
مصدر الصورة

لم يكن بناء الأهرامات في مصر القديمة عملاً عشوائياً بلا مغزى، أو مجرد رغبة في تشييد مقابر حجرية ضخمة لمجد الملوك، بل كان مشروعاً إنسانياً وروحياً وفلسفياً متكامل الأركان، عبّر فيه المصري القديم عن فكره الديني وإيمانه العميق بالحياة والخلود في العالم الآخر بعد موته، فكان الهدف متعدياً للبُعد المعماري، ويمسّ عمق العقيدة الدينية وفكرها الفلسفي المعقّد والمترابط عند المصريين القدماء.

لعبت فكرة الحياة الأبدية بعد الموت دوراً بارزاً في الفكر المصري القديم، وأصبحت مركز العديد من الأنشطة الدنيوية في ذلك الوقت، فمثّلت تلك الصروح المعمارية الهرمية معابد روحية للبعث والاتحاد بالآلهة، وجسّدت في شكلها الهندسي تأملاً فلسفياً لنظام كوني، تأسس على التوازن والتناغم بين الأرض والسماء، والمادة والروح. ولذا، حرص المصري قديماً على حشد كل ما يضمن له تمتعه بحياة أبدية وهو لا يزال على الأرض، ووجد في فكرة تشييده مقبرة هرمية حصينة للملك، تعلو حجرة دفن في باطن الأرض، بداخلها تابوت حجري تُحفظ فيه "مومياء" الملك بعناية فائقة، الضمان الأبدي لاستمرار رحلته في العالم الآخر.

شغلت الأهرامات، ولماذا بناها المصريون، تفكير كثيرين على مدى قرون عديدة، وهو ما دفعهم إلى الخروج عن إطار المنطق في كثير من الأحيان، فأحاطوا الأهرامات المصرية، لاسيما هرم "خوفو" بوصفه أكبر الأهرامات على أرض مصر، بفيض من القصص والأساطير المثيرة عن طريقة البناء ودورها الوظيفي، إلى حد تشكيك البعض في هوية من بنوه وإلى غير ذلك من القصص التي لا تستند إلى أسس تاريخية أو علمية.

ونسعى هنا إلى الإجابة عن بعض التساؤلات، من بينها: لماذا لجأ المصريون إلى الشكل الهرمي لحفظ أجساد الملوك؟ وما هي الدلالة الدينية والفلسفية لبناء هذه الكتل الحجرية الضخمة التي تجاوزت حدود هندستها المعمارية؟ وهل استُخدمت الأهرامات كمقابر فقط، أم كان لها وظائف جنائزية أخرى أوسع نطاقاً؟ وهل ساهم في بنائها أجناس أخرى غير المصريين؟ وأخيراً، هل بُنيت من خلال "تسخير العمال وتعذيبهم" كما روّج البعض؟

"الصعود إلى الشمس"

مصدر الصورة

يُطرح دوماً السؤال: لماذا أراد ملوك مصر القديمة تشييد مقابرهم على شكل هرم؟ وتكمن الإجابة في أنهم رأوا في هذا الشكل المعماري تحديداً أصدق تعبير عن إيمانهم بعقيدة الشمس، التي كانت جوهر العقيدة الدينية في مصر القديمة، ورأوا في الشكل عموماً، وفي القمة الهرمية خصوصاً (التي كانت تسمى في اللغة المصرية القديمة : "بن بن") تجسيداً لأشعة الشمس الهابطة نحو الأرض، فأرادوا دفن ملوكهم في مقابر تتخذ شكل أشعة الشمس التي كانوا يأملون في الصعود إليها عندما يحين موعد البعث من جديد، بحسب الديانة المصرية القديمة.

واعتُبر ملك مصر، في عصر الدولة القديمة (3150-2117 قبل الميلاد)، بمثابة "إله"، فالملك بصفته كائناً مقدساً، يستأثر بطبيعة الحال بكل السلطة في يديه، فالنظام الملكي في مصر القديمة يحتل قسماً خاصاً ومتميزاً داخل حدود الديانة نفسها، وهي حقيقة تؤكدها الأشكال المعمارية لهذه الفترة من أهرامات، كما أن ترتيب وتوزيع المباني يبرهن على علاقة وثيقة توحّد الإله رع (إله الشمس) والملك (الإله)، بل وتخلط بينهما أحياناً.

مصدر الصورة

ويبدو أن الهرم لم يدخل في نطاق عقيدة الشمس إلا في عصر الأسرة الرابعة (2520-2392 قبل الميلاد)، بحسب تقسيم تاريخ مصر القديم إلى أسرات حاكمة عبر مراحله، إذ ترمز الحدود الخارجية لخطوط المثلث إلى أشعة الشمس التي كانت تُمثَّل في أحيان أخرى بحزمة من الخطوط، تتصل بها أحياناً أيْدٍ في نهاياتها (كما حدث في فنون تل العمارنة في عصر الملك أخناتون 1360-1343 قبل الميلاد).

ويقول إسكندر بدوي، في دراسته "تاريخ العمارة في مصر القديمة" إنه "في الدولة الوسطى (2066-1781 قبل الميلاد) اتخذت المباني العلوية للمقابر الشكل الهرمي، كانت قمتها على هيئة هُريم (تصغير هرم)، نُقشت عليه عينا (أوجات) ثم نص يرجو للميت أن يظهر ويشاهد سيد الأفق (الشمس) عندما يرحل عبر السماء".

كما يُلاحَظ التأثير الشمسي، بحسب بدوي، في تقديم عناصر مختلفة كأقسام تؤدى فيها الطقوس الشمسية في المعبد الجنائزي للهرم، وفي دفن قوارب خشبية اكتُشفت في الموقع.

"طريق للأبدية"

مصدر الصورة

أطلق المصريون على الهرم كلمة "مِر" في اللغة المصرية القديمة، وهي تعني "مكان الصعود"، في دلالة واضحة تعكس إيمانهم بأن الهرم وسيلة لـ "صعود روح الملك للسماء للالتحام بالإله رع"، كما اشتُقت تسمية الهرم في كثير من اللغات الأوروبية من الكلمة اليونانية "Pyramis" التي تعني (قطعة الخبز المثلثة)، وهي كلمة أطلقها اليونانيون لتقريب الشكل الهرمي في اللغة عندما زاروا مصر. كما يرى البعض أن كلمة "هرم" سامية قديمة تعني الشكل الهندسي ذا الأضلاع الأربعة التي تلتقي في نقطة مركزية عند القمة، وهو ما تتطلب من المصري القديم خوض الكثير من التجارب والمحاولات للوصول بمقبرته إلى الشكل النهائي للهرم المعروف حالياً.

بدأت إرهاصات فكرة تشييد الهرم عند المصري القديم من بناية حجرية أقدم عُرفت باسم "المصطبة" في الأسرة الأولى الحاكمة (3150-2890 قبل الميلاد)، والتي كانت زواياها متسعة من أسفل، وتقل مع ارتفاع جوانبها.

استدعى الأمر من المهندسين خوض الكثير من التجارب المعمارية التي تكللت بالنجاح في عهد الملك "سنفرو (نب ماعت)" (أول ملوك الأسرة الرابعة 2520-2470 قبل الميلاد)، وذلك عندما نجح مهندسوه في الوصول بالمقبرة إلى الشكل الهرمي الكامل المعروف باسم الهرم الأحمر في منطقة دهشور، وما تبعه من أهرامات كاملة أكثر ضخامة أبرزها أهرامات الجيزة.

كان الهرم "طريق الأبدية" ووسيلة لصعود الملك إلى السماء، كما ذكرنا، لاسيما وأن المصريين كانوا يؤمنون بأن الموت ليس نهاية المطاف، بل بداية حياة أخرى ورحلة للروح إلى عالم الخلود، وقد اعتُبر الهرم "درجاً سماوياً"، كما يجسّده بوضوح الشكل المعماري للهرم المدرّج الذي بناه الملك جسر (زوسر) (أول ملوك الأسرة الثالثة 2584-2565 قبل الميلاد)، وهو بناء على شكل درجات سلّم "تصعد عليه روح الملك المتوفى إلى السماء للاتحاد بالإله رع"، إله الشمس، الذي يمثّل النور والبعث والحياة الأبدية.

مصدر الصورة

ويرى بعض العلماء أن الهرم، إلى جانب رمزيته الشمسية، كان أيضاً رمزاً للطاقة الإلهية التي "ترفع روح الملك صاعداً إلى السماء"، فالملك بعد وفاته يتحول إلى "أوزير"، إله العالم الآخر، ويصير خالداً كالإله، وشريكاً له في رحلته اليومية عبر السماء، فجاء تصميم الهرم ليخدم تلك الفكرة.

وحرص المصري عند بناء الهرم على أن يكون مستودعاً أميناً لحفظ جسد الملك (المتوفى) بغية حماية روحه واستمراره في الحياة الأبدية، نظراً لما يحتله الجسد في العقيدة المصرية من مكانة بالغة الأهمية، إذ كانوا يعتقدون أن جسم الإنسان يتكون من عدة عناصر أبرزها الجسد، الجانب المنظور للعين، والـ "با" (الروح) وهي شخصية الإنسان في عالم الأروح، وتُصوَّر دائماً على شكل طائر له رأس إنسان يحمل ملامح الشخص المتوفى ذاته، في إشارة لشخصه وروحه عندما تغادر الجسد بعد الموت إلى السماء، وكانت الـ "با" تعود إلى زيارة الجسد من حين لآخر.

أما العنصر الثالث في جسم الإنسان هو الـ "كا" (القرين)، واعتقد المصري أنه روح مادية تولد مع الإنسان، من مادة خفيفة لا تُرى، مثل الهواء، تكون علي شكل صاحبها وصورة مطابقة له تماماً. وبعد الموت تلازم "الكا" الجسد حتى تعود "البا" فيتحدان معا، "الكا" و"البا"، ليدخل المتوفى بعد ذلك إلى حقول النعيم الأبدية، التي أُطلق عليها حقول "يارو"، في حالة عبور الشخص محاكمته في يوم الحساب بنجاح، أو هلاكه الأبدي إذا أُدين في تلك المحاكمة.

بناء على ذلك آمن المصريون بأن "البا" و"الكا"، الروح والقرين، لا يمكنهما استمرار رحلتهما نحو الأبدية بدون جسد محفوظ وسليم، لهذا، كانت الأهرامات تُبنى بتصاميم تضمن أعلى درجات الأمان لحماية مومياوات الملوك من لصوص المقابر والعوامل الطبيعية، مما يضمن لروح الملك عودتها ثانيةً إلى الجسد خلال طقوس البعث والخلود، وهو ما دفع المعماري إلى تصميم حجرات دفن داخلية معقدة وممرات سرّية، جُهّزت بالقرابين والتماثيل والنصوص المقدسة التي تُعين الملك في رحلته إلى العالم الآخر.

وحرص المصري على تزويد حجرات الدفن هذه بمجموعة متكاملة من الأدوات وقطع الأثاث التي استعملها الملك في حياته الدنيوية، فضلا عن كميات من المأكولات، بغية الحفاظ على الجسد وقرينه الـ "كا" للحياة الأبدية في جو يماثل ما اعتاده الشخص على الأرض.

كما ارتبطت فكرة بناء الهرم برمزية دينية أخرى جسّدت نظرية خلق الكون، المعروفة بـ "التل الأزلي"، التي ترى أن العالم، قبل بدء الخليقة، كان عبارة عن محيط من المياه، أُطلق عليها في الفكر الديني القديم (نون)، عندما لم يكن هناك أي إنسان أو كائن حي، كان داخل هذا المحيط تل، واستطاع الإله رع إله الشمس أن يخلق نفسه بنفسه، ومن داخل هذا "التل الأزلي" خلق العالم كله وبدء التكوين، لذا اعتُبر الهرم إعادة تمثيل رمزي لهذا التل المقدّس، الأمر الذي منح الهرم بعداً كونياً أكثر قداسة، فأصبح الهرم عند المصري القديم مكاناً مقدساً ووسيطاً بين عوالمه.

ومن أبرز النصوص الدالة على الرمزية الدينية العميقة للأهرامات ما يطلق عليه في الأدب الديني "متون (نصوص) الأهرام"، وهي أقدم النصوص الدينية المقدسة المكتوبة في العالم، وظهرت لأول مرة في أهرامات ملوك الأسرة الخامسة والسادسة (2392-2117 قبل الميلاد) في سقارة.

وتحتوي هذه النصوص على صلوات وتراتيل وتعاويذ تهدف إلى تسهيل عبور الملك إلى العالم الآخر، وحمايته من الأرواح الشريرة التي قد تعترضه أثناء رحلته، وتمكينه من الاتحاد بالإله، كما تشرح تلك النصوص كيفية تحوّل الملك إلى "نجم خالد" في السماء، وهي صورة دينية تجسّد فكرة الخلود الروحي.

وتشير العالمة الفرنسية كلير لالويت في دراستها "الفراعنة في زمن الملوك الآلهة" إلى مقتطفات من تلك النصوص لمشهد صعود الملك للسماء نذكر منها على سبيل المثال: "كم جميل مشاهدة الملك، وقد شدّ جبينه بعصابة مثل (الإله) رع، وارتدى نقبته مثل (الإلهة) حتحور.. في حين يصعد إلى السماء بين إخوته الآلهة".

ويضيف النص: "كم جميلة الرؤية، كم هو مهيب تأمل هذا الإله عندما يصعد إلى السماء، كما يصعد أبوه آتوم (الإله) إلى السماء، إن الـ (كا) فوقه، ومفاتن أساليبه السحرية إلى جواره، والخوف الذي يثيره في النفوس عند قدميه".

كما كان الهرم بناءً مركزياً في مجمع شاسع يضم عدداً من المراكب الخشبية الموضوعة في حُفر موازية له، كما هو الحال بالنسبة لهرم الملك خوفو، والتي يُطلق عليها اسم "مراكب الشمس"، والتي كانت تمكن الملك من السفر عبر السماء للانضمام إلى رع في "أرض النور".

"معمار هندسي من أجل الخلود"

شيّد ملوك عصر بداية الأسرات الملكية مقابرهم على هيئة مستطيل فوق سطح الأرض، بني من الطوب اللبن واصطلح على تسميتها بـ "مصطبة"، ثم تطورت المقبرة الملكية في عصر الدولة القديمة من الشكل المدرج في عهد جسر وسخم خت في سقارة إلى الهرم ذي الطابقين في عهد حوني في ميدوم، إلى الهرم المنكسر الأضلاع في عهد سنفرو في دهشور، إلى الهرم الكامل لأول مرة في العمارة المصرية القديمة في عهد سنفرو.

ويشير هذا التطور الفني في عمارة المقابر الملكية على هذا النحو إلى أنه كان "محلياً ومصرياً"، لم يتأثر بأي فكر خارجي، كما روّج البعض، الأمر الذي يدحض الأساطير التي تنسب بناء الأهرامات إلى أقوام أخرى أو أفراد من قارة غرقت في المحيط الأطلنطي وغيرها من القصص التي لا تستند إلى أي أساس تاريخي أو منطقي.

ويرى رمضان عبده في دراسته "تاريخ مصر القديم" أن السبب في بلوغ عمارة المقابر الملكية إلى هذه الدرجة من الضخامة والإتقان عاملان "أولهما تقديس الملك؛ إذ لابد أن يقيم الناس له بناءً عظيماً يشرف منه على العالم الآخر كما كان يشرف عليهم في الدنيا شامخاً مرتفعاً يراه الناس في كل مكان، وثانيهما حب المصريين للفنون، وهو ما دفعهم إلى إيجاد محاولات جديدة في تطور عمارة المقابر".

وأول من نعرفهم من مهندسي فن العمارة المصرية القديمة هو المهندس والوزير "إيمحوتب" (الأسرة الثالثة 2584-2520 قبل الميلاد)، مهندس الهرم المدرّج للملك جسر بسقارة، والذي أشرف على المجموعة المعمارية للملك، وإليه يرجع الفضل في البناء بالأحجار بدلاً من الطوب والخشب، اللذين كانا يستخدمان من قبل.

ومما لا شك فيه أن إيمحوتب استعان من أجل هذا العمل الضخم بعدد كبير من العمال، جرى تزويدهم بالطعام والشراب والملبس والمأوى والرعاية المطلوبة، وكانت مجموعته المعمارية ونهجه بمثابة اللبنة الأولى لتطوير معماري سار عليه آخرون خلال عصور ملكية لاحقة، وأثمر عن بناء أعظم الأهرامات والصروح الحجرية.

ويرى رمضان عبده علي في دراسته أن "فكرة (إيمحوتب) في البداية كانت تتمثل في تشييد مقبرة مثل المصطبة، ويبدو أن إيمحوتب كان متأثراً بأفكار دينية جعلته يحوّلها إلى هرم مدرّج، ربما لكي يمثل صعوداً للملك نحو معبد الشمس وعالم السماء".

كانت المقابر الملكية في البداية خالية من أي مدونات، واعتباراً من الأسرة الخامسة (2392-2282 قبل الميلاد)، نُحتت مدونات على أسطح جدران حجرات الدفن والممرات المجاورة، لتكون بمثابة تعاويذ تساعد الملك المتوفى، عند صعوده إلى السماء، مثل هرم (ونيس أو أوناس) في سقارة خلال الفترة 2312-2282 قبل الميلاد، أما المصاطب فقد غُطيت جدرانها بالنقوش والنصوص بغية أن تتيح للمتوفى أن يحيا من جديد، إلى أبد الآباد، لحظات مختارة من حياته التي كان يعيشها على الأرض.

كما حرص الملك على عدم بناء هرمه منعزلاً عن عالمه الذي كان يعيشه قبل مماته، وهكذا تجمعت أهرامات ملوك وأهرامات ملكات أصغر حجماً في صفوف طويلة، عند حافة الصحراء، متجهةً جميعها إلى ناحية الغرب، أما مقابر رجال البلاط الملكي، ببنائها العلوي المستطيل، فقد اصطفت على امتداد ما يشبه "شوارع"، حتى لا تنفصل حاشية الملك بعد الوفاة عن ملكها وراعيها.

ويقول العالم الفرنسي فرانسوا دوما في دراسته "حضارة مصر الفرعونية" إن علينا "ألا نظن أن الأهرامات كانت مجرد مقابر، فقد كانت تحشد من حول الملك، في العالم الآخر، مختلف الأنشطة التي كانت معروفة في البيئة المحيطة".

ويضيف: "نجد منذ الأسرتين الأوليين أن مقابر الأفراد لا تبعد عن المصاطب الملكية، ولكن ليس في وسعنا أن نفهم بوضوح دلالة هذه المباني الجنائزية، إلا ابتداء من حكم الملك جسر وغايتها خدمة (كا) الملك ومن يحيطون به في الأبدية".

وتقول لالويت في دراستها: "هكذا من ميدوم جنوباً وحتى الجيزة شمالاً، اصطفت (حقول) أهرامات ملوك مصر، بدءاً من الأسرة الرابعة وحتى الأسرة السادسة (2282-2117 قبل الميلاد)، فإبان كل عهد من هذه العهود، كانت حياة الدولة تتمركز حول الهرم، وبالفعل، كلما ارتقى ملك عرش البلاد، ينشأ مقر جديد، وينشط العمل لتشييد هرم جديد".

ويلفت إسكندر بدوي في دراسته إلى أن الاختلاف الكبير بين المباني الطقسية المختلفة في مجموعة الملك جسر، والتخطيط المحكم للمعبد الجنائزي لهرم الملك خع-ف-رع (2437-2414 قبل الميلاد)، من عصر الأسرة الرابعة، يشير إلى "فترة طويلة من التطور، المعماري والفكري".

أما عدد الأهرامات الموجودة على أرض مصر، فيشير العالم المصري زاهي حواس في دراسته "معجزة الهرم الأكبر" إلى أن "عدد الأهرامات يصل إلى نحو 118 هرماً منتشراً من أسوان في الجنوب حتى (أبو رواش) في الشمال".

"هل بنى الملوك أهراماتهم بتسخير العمال وتعذيبهم؟"

لطالما روّج بعض علماء الغرب مزاعم تفيد بأن أهرامات مصر شُيّدت بسواعد "العبيد"، في صورة تكرّس فكرة "الاستغلال والاضطهاد" في بناء أعظم معجزة معمارية في التاريخ، بيد أن الاكتشافات الأثرية الحديثة، والنصوص المصرية القديمة، كشفت صورة مغايرة تماماً، عن مجتمع عرف التنظيم والدقة، ووفّر للعاملين في المشاريع الكبرى، مثل بناء الأهرامات، حقوقاً معيشية تعكس تقديراً كبيراً لدورهم.

وتشير الأدلة المستخرجة من مواقع العمل، مثل الجيزة ودير المدينة، على أن العمال الذين شاركوا في بناء الأهرامات لم يكونوا عبيداً للدولة، بل كانوا عمالاً يتمتعون بالمهارة ويعيشون في مساكن مخصصة لهم، ويحصلون على طعام، ورعاية صحية، وفترات راحة، كما كشفت بعض النصوص والنقوش عن أسماء فرق العمل، وبعض القادة الذين نالوا تكريماً بعد وفاتهم، وهو ما ينفي الصورة النمطية التي لطالما ارتبطت بجهودهم.

كان الرحّالة اليونانيون، وعلى رأسهم المؤرخ هيرودوت، أول من أسهم في ترويج أساطير تحدثت عن استخدام نظام "تسخير العمال ومعاملتهم بطريقة غير إنسانية" وإجبار الملوك لأفراد الشعب على تشيد أبنية كهرم خوفو على سبيل المثال.

ويورد العالم الفرنسي نيقولا غريمال، في دراسته "تاريخ مصر القديمة"، نموذجا لتلك الأساطير اليونانية وبعض ما زعمه هيرودوت، مثل: "لم يترك (خوفو) شراً إلا واقترفه، بدأ بإغلاق جميع المعابد، وحرم المصريين من تقديم القرابين، وأمرهم بالعمل لحسابه...، كانوا يعملون في مجموعات تتناوب كل ثلاثة أشهر، تتألف كل مجموعة من مئة ألف فرد...، استغرق العمل في بناء الهرم نفسه 20 عاماً".

ويلفت غريمال، في انتقاده لما قاله هيرودوت، إلى إن موسم الفيضان وارتفاع منسوب مياه النيل كان موسماً تضع فيه الأيدي العاملة نفسها تحت تصرف الملك وفاءً له بحق ما يتمتع به عليهم من سلطة، مضيفاً: "كان الفلاحون يشكّلون غالبية الأيدي العاملة في ذلك الوقت، وفي ظروف العمل الموسمي هذه"، وأضاف غريمال أن هيرودوت "كان يحلو له أن يبرز قساوة حكمه فيما رواه عن مصر".

جدير بالذكر أن مصر كانت في ذلك الوقت بلداً زراعياً في المقام الأول، وكانت الأراضي الزراعية في مجملها ملكاً للملك وكهنة المعابد، وإن كان ذلك لا ينفي وجود ملكيات خاصة لفلاحين كانوا يعيشون في حدود ما تنتجه أراضيهم، وكان عمل الفلاح يخضع لرحمة فيضان مياه النيل، الذي ينظم حياته الاجتماعية والمهنية.

كما كانت تحكم المصريين القدماء دوافع روحية ودينية في شتى تفاصيل حياتهم، بما في ذلك أداء العمل في تشييد المباني الحجرية الضخمة مثل الأهرامات، لذا غاب عن ذهن من يروجون فكرة لجوء الملوك إلى تسخير العمال في بناء مقابرهم وصروحهم، أن تلك الدوافع الروحية كانت المحرك الأساسي لكل سلوك، على مستوى الفرد والجماعة والدولة.

ويقول عبد المنعم عبد الحليم سيد، أستاذ التاريخ القديم بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، في دراسته "المغالطات والافتراءات الصهيونية على تاريخ وحضارة مصر الفرعونية والرد عليها وتفنيدها من واقع الأدلة الأثرية"، إن الدوافع الروحية عند المصري القديم برزت في اعتقاده بأنه "سيُبعث بعد الموت ويعيش حياة في العالم الآخر مطابقة تماماً لحياته الدنيا".

ويضيف: "من أهم أركان هذه العقيدة اعتقاده (المصري القديم) بأن الفرعون الذي كان يعيش في رعايته في الحياة الدنيا هو نفسه الفرعون الذي سيعيش في رعايته في الحياة الآخرة بعد البعث، وأنه كلما أخلص في خدمة هذا الفرعون في الحياة الدنيا، وفي مقدمة مظاهر هذا الإخلاص المساهمة في بناء مقبرته، التي ستحمي جسده لتتوافر للفرعون فرصة البعث، فإن هذا سيُقَابل بإغداق هذا الفرعون من إنعاماته عليه في الحياة الأخرى".

ويضيف: "من هنا، كان العمال المصريون عندما يرفعون الكتل الحجرية الثقيلة يعتقدون أن هذا العمل سوف يضمن لهم حياة أخرى سعيدة، فكان هذا الاعتقاد يمدهم بطاقة روحية تبلغ أضعاف الدوافع المادية من أجور مجزية أو مكافآت مغرية".

وتؤكد الباحثة الفرنسية لالويت هذا الرأي في دراستها قائلة: "إن تنفيذ هذه الأبنية العملاقة لم يتطلب كما زعم اليونانيون، وكما تريد أن تصوره أفلام هوليوود، الاستعانة بحشود من العبيد، يُضرَبون ضرباً مبرحاً بالسياط".

وأضافت: "كان العمال الذين شيّدوا الأهرام من المصريين دون سواهم، معظمهم من الفلاحين الذين جُندوا مع جنود تركوا ورائهم بعض وحدات الجيش، كما تشير بعض نقوش رسموها على كتل حجرية، مازالت مرئية في الوقت الراهن".

وتؤكد لالويت أن هؤلاء الرجال كانوا يعملون لتأمين أبدية "الملك الإله وحمياتها، وكانوا على وعي تام بأهمية عملهم، يحركهم إيمان راسخ، كما سيحرك في زمن لاحق بعد مئات السنين، جهود بناة الكاتدرائيات في الغرب الأوروبي".

ويلفت العالم المصري زاهي حواس في دراسته "معجزة الهرم الأكبر" إلى أن الهرم "كان مشروع مصر القومي وشارك فيه الجميع، لأن الشعب يجب أن يشارك في أن يكون الملك إلهاً".

ويضيف: "أكد كشف مقابر بناة الأهرام أنهم لم يُسَخَّروا لبناء الهرم، ويدل على ذلك أنهم بنوا مقابرهم بجوار الأهرام، ووضعوا داخل مقابرهم مقتنيات أثرية تساعدهم على الحياة في العالم الآخر مثل الملوك والأمراء والموظفين".

ويقول حواس: "العمال الذين كانوا ينقلون الأحجار كانت تُدفع أجورهم عن طريق العائلات المنتشرة في صعيد ودلتا مصر، كواجب قومي للمشاركة في إنجاز المشروع الديني القومي. أما رؤساء العمال والفنانون والنحاتون، فكانوا يعملون لدى الملك وتدفع الدولة أجورهم، وكانت الأجور عبارة عن حبوب شعير وقمح وجعة".

وأضاف في حوار سابق أجراه لصحيفة الأهرام: "بناءً على ما وجدناه، نعتقد أن عدد العمال الذين شاركوا في بناء الهرم يصل إلى نحو 10 آلاف عامل كانوا يعملون طوال اليوم، ويتم تغييرهم طبقاً لحاجة العمل عن طريق العائلات الكبيرة التي تمدهم بما يحتاجونه من طعام وخلافه".

وقال حواس: "كان عدد العمال يزداد أثناء فيضان النيل الذى كان يغرق الأراضي الزراعية فلا يجد الفلاحون عملا، فيتجهون للعمل في بناء الهرم الذى كان من أهم أسباب نمو العبقرية المصرية في البناء والحضارة".

كما اكتُشفت مقابر وفرت أدلة أثرية جديدة على الحياة الدينية للعمال، وأشارت نصوص أخرى إلى أن عائلات في صعيد مصر ودلتاها كانت ترسل يوميا 11 عجلاً و 23 خروفاً لإعاشة العمال، وفي المقابل كانت الدولة لا تحصل منهم على ضرائب.

ومما لا شك فيه أن اكتشاف مقابر العمال بناة الهرم في هضبة الجيزة تعد نقطة تحوّل في تسليط الضوء على طبيعة العمل، وقدمت أدلة تنفي كلياّ، دون لبس، كل ما يشير إلى أن البناء خضع لنظام تسخير العمال، أولها أن هذه المقابر تقع مباشرة إلى جوار المجموعة الهرمية "الملكية" في الجيزة، وهو ما جعل بعض العلماء يؤيدون الرأي القائل بأن الملك ربما أوصى بدفن عماله إلى جانبه وفاء لهم دون تمييز طبقي، مثلما كان يفعل مع حاشيته، كما ذكرنا.

ويضيف رمضان عبده علي في دراسته: "عُثر على مخبز كان القائمون على هذه المقابر يعدون الخبز فيه، ويوزعونه على العمال مع الثوم والبصل، وعُثر أيضاً على أطباق فخارية لتقديم الطعام للعمال".

وأضاف: "عُثر إلى الشرق من هذه المقابر على بقايا قريتين، عاش في إحداهما العمال، وعاش في الأخرى الفنانين والمشرفين".

والثابت أن السلطة القائمة على بناء الهرم كانت تغير العمال كل ثلاثة أشهر بما لا يخل بأعمالهم الأساسية في زراعة الأراضي، كما عُثر على رفات تشير إلى حدوث إصابات أثناء العمل وخضوع أصحابها للعلاج، بل أجريت لبعض إصابات العمل تلك عمليات جراحية لعلاج بعض الكسور، وهو ما يشير إلى أن الدولة وفرت نظاماً للرعاية الصحية لهؤلاء العمال.

لقد بنى المصريون أهراماتهم لتأمين حياة أبدية لملوكهم، وفقاً لمعتقد ديني معقّد ومترابط، ومثلت بناءً جمع بين الوظيفة المعمارية والدينية والفلسفية، فلم تكن بالنسبة لهم مجرد مبانٍ ضخمة أقيمت في قلب الصحراء خارج حدود المدينة، بل جسّدت رؤية حضارية ونظرة دينية أكثر عمقاً، فكانت القبر، والمعبد، والرمز، والطريق إلى السماء في آنٍ واحد.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار