تركتُ منزل عائلتي في العشرينيات من عمري، وبعيداً عن بيتي اكتشفت ظهور أول شعرة بيضاء في رأسي. وقعها كان مختلفاً، شعرت بالحزن ولم أكن أعرف السبب، من بعدها تكاثر الشيب، وفي غضون سنوات ظهرت مئات الشعرات البيض.
مع كل شعرة بيضاء كنت أسأل نفسي: هل أصابني الخوف فأبَيضّ شعري، كما يقول معظم المحيطين بي؟ هل حزنت أكثر من اللازم؟ هل كبرت في العمر فعلاً؟ هل البرد القارس يسبب الشيب؟ بعدها بدأت أتابع صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي تروّج للوصفات الطبيعية لتغطية الشيب، وهناك وجدت مئات الآلاف من النساء حول العالم في عمر العشرينيات يعانين من ظهور الشعر الأبيض، ويبحثن عن طرق لتغطيته. فلماذا نشيب؟
توجهت بالسؤال للبروفيسور ديسموند توبين، مدير معهد تشارلز لعلوم الجلد في جامعة دبلن، فحدد ثلاثة أسباب رئيسية لظهور الشعر الأبيض: "العمر والتوتر والوراثة هي الأسباب الأكثر شيوعا لظهور الشعر الأبيض. بالنسبة للغالبية العظمى من الأشخاص يرتبط الأمر بالعمر؛ إذ أن بصيلات الشعر هي جزء من الجلد، والجلد يشيخ، وكذلك بصيلات الشعر، كما أن التوتر المرتبط بالعمر يسبب خللا في عمل الخلايا، التي تفرز الأصباغ المسؤولة عن لون الشعر، المسماة بالميلانين".
كما أن بداية ظهور الشيب، وإن كان سيظهر أم لا، أمر متعلق إلى حد كبير بالجينات. فإذا كان والداك وأجدادك شابوا في سن الشيخوخة، فمن المحتمل جدا أن يظهر الشيب عندك في عمر متأخر.
وبسبب العوامل الجينية، لاحظ العلماء المهتمون بالجلد والشعر أن المنحدرين من أصول عرقية معينة يمكن أن يشيبوا أسرع من غيرهم؛ فغالبا ما يشيب الناس من أصول قوقازية أسرع، مقارنة بمن ينحدر من أصول أفريقية.
استطلعت آراء بعض المواطنين العرب في القاهرة ودبي ودمشق والرباط عن أسباب الشيب، وبالفعل خمّن البعض الأسباب الصحيحة للشيب، واتفق الجميع على أن "التوتر والهم والمسؤوليات هي العوامل المسؤولة بشكل رئيسي عن ظهور الشيب". وهو أمر مفهوم في منطقة يعاني معظم شبابها من البطالة، كما تتردى فيها الأوضاع المعيشية بصورة غير مسبوقة.
لكن بعض من سألناهم ظنوا خطأ أن الشيب يرتبط بأحوال الطقس وطبيعة الطعام الذي نتناوله.
وبحسب بروفيسور توبين، هذا أمر غير صحيح؛ فالطقس والطعام الذي نتناوله لا يسبب الشيب، كما أن الاعتقاد بأننا أصبحنا نشيب في وقت مبكر أكثر من أي وقت مضى، غير مثبت علمياً حتى الآن، بل العكس هو الصحيح. فبحسب دراسات علمية صادرة حديثاً، أصبح متوسط عمر الإنسان أكبر، وأصبح معدل ظهور الشيب يتراجع عما كان عليه في السابق.
ويضيف أن هذه الدراسات تعجز عن رصد عدد من يظهر لديهم الشيب مبكراً في الوقت الراهن، بسبب انتشار استخدام مستحضرات تلوين الشعر حول العالم.
وبحسب شركة "يورو مونيتور إنترناشيونال" لأبحاث السوق، تنفق النساء العربيات على مستحضرات التجميل، ومن بينها صبغات الشعر، ما يتجاوز 25 مليار دولار سنويا، وتعد السعودية الأكثر إنفاقا على جميع أنواع مستحضرات التجميل بمبلغ يصل إلى 1.5 مليار دولار سنويا.
ومن غير الممكن منع ظهور الشيب على الإطلاق، لكن يمكن وقف زحف الشعر الأبيض وزيادته عبر اتباع طرق تغذية سليمة تعتمد على تناول الخضر والفواكة بكثرة، فهذه المأكولات تعادل، على الأقل، عملية الأكسدة التي تحدث مع تقدم العمر. وإذا تمت السيطرة على عمليات الأكسدة، التي تحدث داخل الجسم، بحسب بروفيسور توبين، يمكن السيطرة على نمو المزيد من الشعر الأبيض. كما أن تناول أطعمة غنية بحمض الفوليك يمكن لها أن تساعد في وقف نمو المزيد من الشيب.
ويعتقد كثير من الباحثين أنّ ظهور الشيب في مراحل عمرية مبكرة للغاية كعمر المراهقة مثلا، يمكن أن يكون دليلا على خلل ما داخل الجسم كنقص الفيتامينات التي يحتاجها الجسم أو نقص عناصر غذائية أساسية، ومن الممكن أن يكون دليلا على بعض الأمراض. وبحسب بروفيسور توبين، لابدّ من مراجعة طبيب مختص في حال ظهر الشيب لمن هم دون الـ 20 عاما.
ولا يعتقد الباحثون أن الشيب يرتبط بالوجود في بقعة جغرافية معينة؛ فالتلوث مثلا لم يثبت علمياً تأثيره على لون الشعر، فالأشعة فوق البنفسجية تدمر ألياف الشعر الموجود حالياً لكنها لا تغير لون الشعر الذى سينمو. كما أن التلوث بعودام السيارات يزيد معدل شيخوخة الجلد، لكنّ تأثيره على لون الشعر لم يثبت عمليا.
يحرص ملايين الرجال والنساء على تغطية الشيب، وذلك تحت وجود ضغط اجتماعي، باعتبار الشيب دليلاً على تقدم العمر. إلا أنه نمت مؤخراً وعلى مستوى العالم، حركة تشجع على التعايش مع الشعر الأبيض، والتوقف عن صبغه، وهي ضمن حركة أوسع لتشجيع الجمال الطبيعي.
ومن بين القائمين على حملة توعوية تحمل اسم "الفضيّ هو الأجمل"، وتهدف إلى تشجيع النساء على الإبقاء على شعرهن الأبيض دون صبغ، التقينا منى ماهر.
تحولت منى من ربة منزل إلى موديل إعلانات بسبب شعرها الأبيض، وتقول لبي بي سي: "لأسباب وراثية، ظهر الشيب في رأسي منذ العشرينيات من عمري. وكنت دائما أصبغه لأتهرب من التعليقات السخيفة، مثل: شكلك قبيح.. لا تزالين صغيرة لكنك تبدين في عمر أكبر...، أو تبدين وسط صديقاتك كأنك أمهنّ" .
عندما أتمت منى 49 عاماً، قررت أن تترك شعرها الأبيض كما هو حتى غطى الشيب رأسها.
في البداية كانت تكترث كثيراً للتعليقات التي كانت تسمعها، لكنها مؤخراً لم تعد كذلك، وتضيف: "في البداية توقفت عن صبغ شعري لأسباب صحية، حيث كان لجسمي رد فعل تحسسي بسببها، ولكن بعد أن تركت شعري الأبيض، وبفضل الشيب أصبحت مطلوبة للعمل في الإعلانات وعروض الأزياء".
منى وعشرات أخريات يسعين لتشجيع الصغيرات في السن على الإبقاء على شعرهن الأبيض وعدم إخفائه.
التقيت أيضا بساندرا ميليك، وهي خبيرة تجميل مصرية، يغطي الشيب رأسها، وهي لا تزال في أوائل الثلاثينيات.
تقول ساندرا: "ظهر شيب في شعري عندما كنت في عمر الــ 16 لأسباب وراثية؛ لم أتوجه وقتها للطبيب، وفي نفس الوقت لم أصبغه إلا مرتين فقط، لكني أحب شعري بهذا اللون، وأعتقد أنه يجعلني مختلفة ومميزة".
توقفت ساندرا عن صبغ شعرها وتحاول من خلال عملها وعبر وسائل التواصل الاجتماعي تشجيع مزيد من الفتيات على الإبقاء على شعرهن الأبيض كما هو دون صبغه.
وشجع ظهور عدد من النجمات مؤخراً بشعرهن الأبيض المزيد من النساء و الرجال على التصالح مع هذا اللون وتغيير الصورة النمطية بشأنه؛ فمثلا بدأت الممثلة المصرية، سوسن بدر، والموديل الجنوب-أفريقية الأصل، ماي ماسك، الاحتفاء بشعرهن الأبيض والظهور به في مناسبات عالمية وأمام عدسات الكاميرات.
واستخدمت ملونات الشعر في الثقافات المصرية القديمة والرومانية، لكنها لم تظهر في شكلها الذي نعرفه الآن قبل مطلع القرن العشرين.
ومع انتشار صورة "ربة المنزل المثالية" في الثقافة الشعبية في الخمسينيات، بدأت علامات تجارية مثل لوريال L'Oréal و Clairol بتسويق صبغة شعر آمنة تستخدم في المنزل.
واستهدفت هذه المنتجات التجارية مباشرة النساء اللاتي أردن البقاء بمظهر شاب، ومع الزمن بدأت هذه العلامات التجارية تتوجه إلى الرجال.
تتداول بعض النساء اللاتي يقدمن على صبغ الشعر الأبيض، وهي عملية تحتاج لتكرارها كل شهر تقريباً، أن صبغ الشعر على المدى الطويل يعزز نمو مزيد من الشيب، فإلى أي مدى يدعم العلم هذا التصور؟
بحسب مدير معهد تشارلز لعلوم الجلد في جامعة دبلن، لا دليل علمي على ذلك، فما نراه من الشعر هو الجزء الميت منه والجزء الحي من الشعر عميق جدا، يبعد من 2 - 4 ملليمترات من فروة الرأس. ومن غير المرجح أن أي شيء يوضع على السطح يمكن أن يؤثر على لون الشعر، الذي سينمو من داخل فروة الرأس، فغالبا ما يدخل إلى الجسم يؤثر بشدة على لون الشعر النامي كنوع الأكل أوالأدوية التي يتعاطاها الشخص وليس ما يضعه على الشعر من الخارج.
ويساعد تقليل مستويات التوتر لدى الأفراد على وقف نمو المزيد من الشعر الأبيض لديهم.
وبحسب دراسة علمية نشرتها مؤسسة "إي لايف ساينس" الأمريكية غير الهادفة للربح، كان بروفيسور توبين أحد الباحثين الرئيسيين فيها، فإن تقليل مستوى التوتر الذي يتعرض له الإنسان لا يوقف نمو المزيد من الشيب وحسب، وإنما يمكن أن يعيد الشعر الأبيض إلى لونه الأصلي، خاصة بين الأصغر سنا.
وقد أجريت الدراسة على 397 شخصاً، ووجد الباحثون أن 10 مشاركين في الدراسة تحول شعرهم من اللون الأبيض إلى اللون الأسود بعد تقليل مستوى التوتر الذي كانوا قد تعرضوا له.