الدوحة- بعد أكثر من 13 عاما من البحث والتجريب والتوثيق، أُعلن في دولة قطر اليوم الاثنين اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية ، ليخرج إلى النور مشروع لغوي عربي غير مسبوق، حمل معه تاريخ الألفاظ العربية مكتوبا بالزمن والدلالة، وموثقا مسارها عبر قرون طويلة من الاستعمال والتحول.
وشكل حفل إطلاق المعجم، الذي حضره أمير دولة قطر سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ، محطة تتويج لمسار بحثي شارك فيه عشرات المتخصصين، جرى خلاله الإعلان رسميا عن اكتمال النسخة النهائية للمعجم مع انتهاء مرحلته الثالثة، بعد تدشين بوابته الإلكترونية الجديدة تزامنا مع اليوم العالمي للغة العربية، إيذانا بانتقاله من مشروع قيد الإنجاز إلى منصة معرفية مفتوحة للاستخدام العلمي.
وباتت بوابة المعجم، بعد اكتماله، تضم رصيدا لغويا ضخما وغير مسبوق، يشمل أكثر من 300 ألف مدخل معجمي، ونحو 10 آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة، إلى جانب ببليوغرافيا تضم أكثر من 10 آلاف مصدر، مما يجعله من أوسع المعاجم التاريخية العربية من حيث التغطية الزمنية والمادة العلمية.
ويعد معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، الذي انطلق العمل عليه عام 2013 بالتعاون مع المركز العربي للدراسات، أحد أكبر المشاريع اللغوية على المستويين العربي والعالمي، إذ يقدم توثيقا تاريخيا دقيقا لمسار الألفاظ العربية وتحولاتها الدلالية عبر نحو 20 قرنا، بدءا من أقدم النصوص العربية الموثقة وصولا إلى العصر الحديث، وفق معايير المعاجم التاريخية الحديثة المعتمدة عالميا.
وخلال الحفل، قام أمير دولة قطر بتكريم عدد من العلماء والباحثين والخبراء الذين أسهموا في إنجاز هذا العمل اللغوي الضخم، تقديرا لجهودهم العلمية ودورهم في إخراج معجم الدوحة التاريخي للغة العربية إلى النور، بعد سنوات من البحث والتدقيق والعمل الجماعي المنظم.
وفي كلمته أمام حفل اكتمال المعجم، قال المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، الدكتور عز الدين البوشيخي، إن المعجم يرصد الكلمات العربية في سياقاتها الزمنية والنصية، ويوثق تاريخ تداولها في النقوش والنصوص، بما يحفظ للمتكلم العربي هويته اللغوية، ويسهم في بناء ذاكرة لغوية مشتركة بين الناطقين بالعربية، من خلال تتبع تحولات الألفاظ ودلالاتها عبر نحو 20 قرنا.
وأوضح البوشيخي أن القائمين على المشروع لم يكونوا يتوقعون، عند الشروع في إعداد معجم تاريخي للغة العربية، أن يقودهم مسار العمل إلى إنجاز مدونة نصية رقمية مهيكلة، وموسومة، ومؤرخة، وموثقة، تضم ما يقارب مليار كلمة، مشيرا إلى أن هذه المدونة باتت تشكل موردا معرفيا فريدا من نوعه، يمكن توظيفه في تطوير نماذج لغوية عربية متقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي .
وأضاف المدير التنفيذي للمعجم الدكتور عز الدين البوشيخي -في حديث للجزيرة نت- أن اكتمال المعجم لا يعني بلوغ الكمال، بل يمثل انفتاحا على المستقبل، وعلى التطوير المستمر، وعلى التفاعل مع الأجيال الجديدة والتكنولوجيا الحديثة، مشيرا إلى أن المشروع يظل قابلا للتحديث والتوسيع بما يواكب تحولات اللغة واستعمالاتها.
وبين البوشيخي أن ما يميز معجم الدوحة التاريخي عن المعاجم التقليدية هو طابعه التاريخي، إذ لا يكتفي بتقديم تعريفات للألفاظ، بل يرصد سياقاتها الزمنية والنصية، ويوثق تطور معانيها عبر العصور، منذ ظهورها الأول، مرورا بتحولاتها، وصولا إلى اندثار بعضها أو إحيائه من جديد، وهو ما يمنح الباحثين قدرة أعمق على قراءة النصوص التراثية وفهم مقاصد مؤلفيها في سياقاتها التاريخية والثقافية.
وفي كلمتها أمام الحفل، اعتبرت وزير التربية والتعليم والتعليم العالي في قطر لولوة الخاطر أن مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية لا ينبغي النظر إليه بوصفه مشروعا لغويا رائدا فحسب، بل باعتباره مشروعا معرفيا حضاريا متكاملا، يعكس فهما عميقا لدور اللغة في التاريخ وفي الحاضر، ويؤسس لقراءة علمية جديدة لمسار العربية وتطورها.
وأكدت الخاطر أن ما يميز هذا المشروع هو جديته وعمقه واستمراريته، في وقت يشهد فيه المشهد الثقافي العربي ميلا متزايدا إلى التعامل الموسمي والاستهلاكي مع الثقافة والفكر واللغة، محذرة من اختزال الحياة الثقافية في فعاليات عابرة، بدل النظر إليها بوصفها مسارا تراكميا طويل الأمد.
وأضافت أن الثقافة ليست منتجا سريع الاستهلاك، بل عملية مستمرة، وأن معجم الدوحة التاريخي يجسد هذا الفهم من خلال عمل علمي منهجي طويل النفس، يبتعد عن الشعبوية ويؤسس لمعرفة رصينة قابلة للبناء عليها.
واعتبرت الخاطر أن هذه التجربة تبعث رسالة مفادها أن البحث العلمي الجاد، وتوفير الموارد والمساحات للحوار الفكري، ما زال ممكنا في المنطقة، رغم التحديات، مؤكدة أن الدوحة تمتلك من الإرث والدور ما يؤهلها لاحتضان مشاريع فكرية نهضوية تسهم في إعادة الاعتبار للإنسان والمعرفة.
من ناحيته، قال المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) سالم بن محمد المالك إن اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي عامل فاعل في إحياء الأمم وبناء الحضارات، مشيرا إلى أن معجم الدوحة التاريخي يمثل نموذجا رائدا للبحث العلمي المنهجي والتوثيق الحضاري للغة.
وأضاف المالك في كلمته أمام الحفل أن المشروع جمع آلاف الباحثين والخبراء لتوثيق أكثر من 300 ألف مدخل معجمي، ويقدم بذلك موردا فريدا للعلماء والطلاب والباحثين، يمكن توظيفه في مجالات متعددة تشمل التعليم والبحث العلمي والتطبيقات التقنية، بما فيها الذكاء الاصطناعي.
وأكد المالك أن اكتمال المعجم يمثل انتصارا للمعرفة والبحث العلمي العربي، ويعكس قدرة المنطقة على إنتاج مشاريع حضارية ذات أثر عالمي، مشيرا إلى الدور المهم الذي قامت به دولة قطر في إنجاح هذا المشروع العلمي الضخم.
أما المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدكتور عزمي بشارة، فقال بدوره إن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية يمثل إنجازا استثنائيا في توثيق تاريخ اللغة عبر مراحل زمنية حاسمة تمتد لقرون، مشيرا إلى أن المشروع لم يقتصر على جمع الكلمات وتدوينها، بل وثق سياقات استخدامها وفهمها في أزمنة مختلفة، مما يتيح للباحثين اليوم قراءة النصوص العربية بفهم تاريخي دقيق بعيدا عن إسقاط المعاني الحديثة عليها.
وأضاف بشارة أن المعجم يوفر مدونة ضخمة ومنظمة، مصممة خصيصا لتسهيل البحث العلمي، ويقدم قاعدة معرفية قيمة لا تقتصر فوائدها على الأكاديميين والأدباء والمثقفين، بل تشمل كل من يهتم باللغة والثقافة، موضحا أن ما يجمعه هذا المشروع من بيانات وتفاصيل لغوية يمكن أن يسهم أيضا في تطوير التطبيقات العربية في علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي.
وأكد بشارة أن هذا المعجم يكشف عن ثراء اللغة العربية وحيويتها، وينفي الادعاءات التي تقول إن العربية عاجزة عن التطور أو مفصولة عن اللهجات العربية المعاصرة، موضحا أن الغالبية العظمى من المفردات الدارجة فصيحة في أصلها، وأن الفجوة بين العربية الفصحى واللهجات المحلية أقل بكثير مما يشاع.
وختم بالقول إن اكتمال المعجم لا يعني الوصول إلى الكمال، بل يمثل إنجازا علميا فريدا بعد 13 عاما من العمل المتواصل، ويظل بحاجة إلى تحديث مستمر، مؤكدا أن المشروع يفتح آفاقا جديدة للبحث والمعرفة، ويعكس قدرة المنطقة على إنتاج مشاريع حضارية رائدة، بما يضع اللغة العربية في مصاف اللغات العالمية الحية.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة