في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
رغم مرور أكثر من شهر على دخول اتفاق وقف الحرب في غزة حيّز التنفيذ، فإن المشهد الميداني لا يوحي بسلام يتكرّس، بل بمسرح تتحرك فيه إسرائيل وفق خطة مدروسة لإعادة رسم الوقائع على الأرض تحت غطاء الهدنة.
فالقصف المتواصل، وعمليات النسف الممنهجة، والتجريف داخل ما يُعرف بـ"الخط الأصفر"، تكشف جميعها عن نهج محسوب، لا عن خرقٍ عرضي لاتفاق هش.
إسرائيل -كما يرى محللون- لا تتعثر في تنفيذ الاتفاق، بل تتعمّد إبقاءه في حالة المراوحة، لتكسب الوقت وتفرض واقعا ميدانيا يصعب التراجع عنه لاحقا.
فبينما تنشغل واشنطن بمعالجة "أزمات جزئية" مثل ملف مقاتلي حركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) في رفح أو مشروع القوة الدولية، تعمل تل أبيب في صمت على حسم معركة السيطرة على الأرض، ميدانيا لا تفاوضيا.
وفي هذا السياق، يقول الدكتور إياد القرة، الكاتب والمحلل السياسي من خان يونس ، إن ما يحدث في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية هو "هندسة مقصودة لواقعٍ جديد"، فعمليات المسح والنسف لم تعد تقتصر على الرد العسكري، بل تهدف إلى تفريغ نحو نصف مساحة القطاع من سكانها، وتحويلها إلى نطاق أمني مغلق.
ويضيف في حديثه لبرنامج "مسار الأحداث" أن إسرائيل "تريد عندما تنتهي المراحل السياسية للاتفاق أن تكون قد سبقت الجميع بخطوات على الأرض"، بحيث يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام أرضٍ محروقة لا عودة إليها، ولا بنية تحتية تؤهلها للحياة.
هذا التصور يتقاطع مع تحليل الدكتور مهند مصطفى، الأكاديمي والخبير في الشأن الإسرائيلي، الذي يرى أن تل أبيب تدير الاتفاق بوصفه "أداة تحكم لا خطة سلام".
فنتنياهو -كما يوضح- يدرك أن تفجير الاتفاق محظور أميركيا، وأن العودة إلى الحرب ستُفقده الغطاء الدولي، لذلك يتبنى نهج "الجمود الموجّه"، أي الإبقاء على الوضع القائم دون تقدم نحو المرحلة الثانية التي تتضمن انسحابا أوسع أو ترتيبات دولية جديدة.
ويضيف مصطفى أن هذا الجمود يخدم هدفا إستراتيجيا، وهو ترسيخ تقسيم فعلي لغزة إلى منطقتين، واحدة تحت سيطرة إسرائيلية كاملة، وأخرى تديرها حماس شكليا، لتبدو الهدنة طويلة الأمد وكأنها تسوية أمرٍ واقع، لا اتفاق سلام.
من جهته، يرى الدكتور إبراهيم فريحات، أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا، أن واشنطن ليست مراقبا بريئا لهذه المراوحة، بل طرف مندمج في منطقها.
فالإدارة الأميركية -كما يقول- تعرف تماما أن الخروقات الإسرائيلية ممنهجة وليست دفاعا عن النفس، لكنها تتعامل معها كأمرٍ يمكن احتواؤه ما دام لا يهدد جوهر خطتها السياسية.
ويضيف أن إسرائيل تنتهج سياسة "استنزاف متدرّج" للجهود الدبلوماسية الأميركية، تدفعها إلى الانخراط في تفاصيل ثانوية كقضية المقاتلين، وتبعدها عن القضايا الجوهرية كالانسحاب وإعادة الإعمار، وهي إستراتيجية خبرتها الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عهد أوباما حتى اليوم.
ويؤكد القرة من جانبه، أن ملف المقاتلين في رفح تحوّل إلى "ذريعة جاهزة" لتأجيل الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، فإسرائيل –بحسب تقديره– افتعلت الأزمة لتبرير استمرارها في العمليات الميدانية، واستثمار الوقت في إحكام قبضتها على المناطق الحدودية والأنفاق.
ويشير إلى أن واشنطن، رغم وعيها بذلك، تميل إلى إدارة الأزمة لا حلّها، لأن أي ضغط جاد على إسرائيل قد يهدد استقرار الاتفاق الذي تعتبره إنجازا دبلوماسيا للإدارة الأميركية.
وفي الوقت الذي تواصل فيه واشنطن دفع مشروع "قوة الاستقرار الدولية"، تبدو ملامح القوة المقترحة أقرب إلى صيغة ترضي تل أبيب أكثر مما تلبي احتياجات الفلسطينيين.
فبحسب فريحات، تواجه الخطة الأميركية رفضا أوروبيا وعربيا واسعا لمفهوم "القوة التنفيذية" التي تنزع سلاح غزة، في حين تصر هذه الدول على دورٍ يقتصر على حفظ السلام، هذا الانقسام يمنح إسرائيل مزيدا من الوقت لتكريس واقعها على الأرض، وتثبيت حدودٍ جديدة تحت مسمى "مناطق آمنة".
ويرى مصطفى أن إسرائيل تستخدم هذا التأخير لمصلحتها، إذ تدرك أن أي فشل في تشكيل القوة الدولية سيبقي السيطرة الفعلية بيدها، ويحول غزة إلى منطقة منقسمة فعليا بين شرقٍ تهيمن عليه إسرائيل وغرب محاصر تديره حماس.
ويضيف أن هذه النتيجة، وإن بدت مؤقتة، تمثل بالنسبة لنتنياهو "أفضل صيغة لإدارة الصراع دون تحمل تكلفة الحسم أو إعادة الإعمار".
أما في واشنطن، فيحاول المسؤولون الأميركيون، وعلى رأسهم المبعوث جاريد كوشنر ، إنقاذ الاتفاق بتعديلات شكلية على مسودة قرار مجلس الأمن ، لكن الخلافات العميقة حول طبيعة القوة الدولية ودورها تبقي السيناريو غامضا.
ويشير فريحات إلى أن فشل واشنطن في تمرير القرار سيجعلها في مأزق حقيقي: إما القبول بالأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل، أو المخاطرة بصدامٍ دبلوماسيّ مع حليفتها الأبرز في المنطقة.
في المحصلة، لا تبدو مراوحة الاتفاق فشلا تفاوضيا بقدر ما هي سياسة مقصودة، توظّفها إسرائيل لتقنين ما حققته بالقوة. فكل يومٍ يمر دون انتقال إلى المرحلة التالية يعني تثبيت خرائط جديدة، وتآكل فرص إعادة الإعمار، وشرعنة تقسيمٍ ميداني يتغذى على الصمت الدولي.
المصدر:
الجزيرة