في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تبدأ الحكاية من شاشة رقمية عليها صورةٌ مُحكمة الإضاءة، مربّعة الحواف، تُبرز علبة كرتون صغيرة تحمل طفلةً اسمها منى تبلغ من العمر 4 سنوات لا أكثر، جُمعت أشلاؤها المجمدة في صندوقٍ صار تابوتًا مؤقتًا.
في مقطعٍ آخر، أطفال فلسطينيون يتلمّسون أرضًا مثقلة بالشظايا، يلتقطون بقايا أحبّتهم في أكياس بلاستيكية بيضاء. وعلى طرف شارعٍ هادئ، يسير طفلٌ وحيد قبل أن يختفي من الكادر بضربة "دقيقة" لطائرة مسيرة.
كل شيء هنا عالي الدقة: الصوت واضح، الألوان حادّة، والقتل نظيف كما لو أنّه منتجٌ بصري ذو تكلفة إنتاجية عالية. التكنولوجيا لا تنقذ الأرواح بقدر ما تُجمِّل مشهد إزهاقها، وتُسوِّق التفوّق العسكري بوصفه سموًّا أخلاقيًا وحقًّا للطرف الأقوى في تقرير من يبقى ومن يباد.
كان الاعتقاد، حتى وقتٍ قريب، أنّ العالم لو امتلك هذه الأدوات الرقمية في السابق لربما كان الوضع قد تغير. اعتقد أنه إذا كان هذا العالم المتطور يدرك فظائع نظام الأسد الأب إبّان مجزرة حماة في سوريا الثمانينيات، أو تجميع اليهود في معسكر أوشفيتز بألمانيا النازية في الأربعينيات، أو هجوم الصرب على مدينة سربرنيتسا في البوسنة صيف العام 1995، لربّما استطاع إيقاف بعض تلك الفظائع.
لكن اليوم، وبعد عامين من البثّ المباشر لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، نعرف أنّ الصورة وحدها لا توقف شيئًا، لكنها استطاعت إسقاط السردية الإسرائيلية.
نعرف أيضًا أنّ الغضب العالمي ليس موزّعًا بالتساوي؛ نكاد نستطيع توقّع العناوين إذا كان الطفل إسرائيليًا أو أوكرانيًا، وأن نتوقعها أيضًا مبنية للمجهول ومنكِرة للقاتل ومقللة من المأساة إذا كان فلسطينيًا.
هنا تتبدّى مفارقة العلم والإنسانية في عصرٍ يُحسن قياس كل شيء بالنانو والفمتو، لكنه يعجز عن قياس الألم وقيمة البشر على مسطرة واحدة.
ومع الوقت، بدا أن الاستهداف لا يبدأ بالقنابل، بل بالكلمات ومعركة المصطلحات والصراع على المعنى، وبمفرداتٍ تُعاد صياغتها حتى تُجرِّد الآخر من إنسانيته. فالمجازر لا يمكن أن تجري بلا سرديات تُبررها وتجرّد الضحية ومعرفته وحضارته من أي قيمة.
وبهذا لا تبدأ الإبادة في ساحات القتال، بل من على منصّات الساسة والإعلاميين ورجال الدين. تبدأ المجازر ضد الطفولة والمستشفيات والجامعات والمتاحف والمفكرين والمؤثرين كالصحفيين والأطباء؛ بالكلمة الجارحة.
في هذا المشهد، يثبّت بنيامين نتنياهو سرديةً يعرف وقعها على المستمع الغربي، فيها "النور" مقابل "الظلام"، و"الحضارة" في مواجهة "الإرهاب"، و"محبّو الحياة" ضدّ "عشاق الموت".
هكذا يتحوّل الصراع إلى اختبارٍ أخلاقي بسيط ظاهريًا: الغربي بشر وغيرهم همجيون، وبلاده بلاد قانون، وبلاد غيره لن تنجو من الفوضى، والغربي ديمقراطي صاحب دولة وحضارة، بينما العربي قبائل ومجموعات متناحرة يرسم لها سايكس وبيكو والعم "سام" الحدود في الرمال كيفما يشاء، مبشرا بالسلام والازدهار.
هذه التصنيفات العنيفة التي يروّج لها رئيس الوزراء الإسرائيلي ليست مجرّد مصطلحات؛ إنها أسلحة لإيذاء الآخرين وسلب حقوقهم، وتستمد قوتها من الرافعة المادية والسياسية والعسكرية للعقلية الاستعمارية.
استمع لخطابات نتنياهو (إن استطعت!) وستجد أنها ذات تقطيع إيقاعي لجُملٍ مصاغة كشعارات، وإدارته لتموجاته الصوتية واضحة، والتي يوظفها رفعا وخفضا في لحظات يراها "حاسمة"، مع التفاتة سريعة إلى الحاشية، وتوقّف قصير يمنحهم فرصة للتصفيق، وابتسامةٍ خفيّة توحي بالرضا و"النصر". هكذا كان يفعل على الدوام، وكان يتسبب ذلك في انتصاراته الخطابية.
وعلى طريقة سيد الوجوه المتعددة، يُتقن نتنياهو تبديل الأقنعة، فبجانب استعارة قاموس "الحضارة" ضد "البربرية" الذي ازدهر في القرن 19 لدى فرنسا وبريطانيا، يُعيد تدوير خطاب "الحرب على الإرهاب" الأميركي في القرن 21 مثل الرئيس جورج بوش الابن، وكذلك يستعير لسان المندوب السامي الاستعماري متحدثا باسم حماية الأقليات ويربط أمنها في الإقليم بأمن إسرائيل في خطابه أمام الجمعية العامة لعام 2025، وكأنه يحمل دمية بصورة الجنرال غورو ويتحدث بلسانه، في حين تُنتهك حقوق أقلياتٍ مسيحية ومسلمة في فلسطين والأرض المحتلة.
لكن المشهد مؤخرا بدا هزليًّا، إذ واجهت كلماته قاعة شبه فارغة في حديثه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 26 سبتمبر/أيلول 2025، رغم أنه حاول أن يعرض قوّة نفسية مصطنعة، لم تؤد إلا إلى إبراز عزلة إسرائيل المتزايدة ووحشيتها، الأمر الذي كشف عن هشاشة بنية الخطاب الاستعماري، التي تعيش على وقود الماضي الغابر الذي لم يعد مقنعا، ولذلك يندفع لتحريك ساحاتٍ متعددة ويرفع منسوب التوتّر فيها، طلبًا لنجاةٍ سياسية آنية له ولائتلافه اليميني.
ومع اتساع الخسائر في جيشه وتزايد العزلة على نظامه السياسي، يعود نتنياهو لتذكير الغرب بمظلومية إسرائيل "الأبدية"، باعتبارها جبهةً تقاتل الإرهاب نيابةً عن "العالم المتمدّن"، وتحيطه بالأخطار من كل صوب، تبريرًا لمزيدٍ من البطش.
هكذا قال نتنياهو مخاطبًا الغرب في الجمعية العامة: "أعداؤنا يكرهوننا جميعًا بالقدر نفسه من الحقد.. إنهم يريدون إعادة العالم الحديث إلى الماضي، إلى عصرٍ مظلم من العنف والتطرّف والإرهاب".
من المهم في هذا السياق أن نعرف مقدار المراوغة والتاريخ المشين لمفهومي "الإرهاب" و"الحضارة" اللذين نشآ معًا في أوروبا خلال القرن 18، تحديداً في فترة الثورة الفرنسية . في البداية، كان لمصطلح "الإرهاب" (Terrorism) دلالة إيجابية أو وظيفية، إذ أطلقه نظام اليعاقبة وروبسبير في فترة "عهد الإرهاب" على القوة المستنيرة التي تحمي المُثل الثورية وتهدّد مُعَارِضيها.
ومع الإطاحة بروبسبير في يوليو/تموز 1794، بدأت مصطلحات "الإرهاب" و"الإرهابي" تكتسب دلالات سلبية، مما يعكس تحولًا في ديناميكيات السلطة بين الثوار.
وبسبب خوف النخب الأوروبية من امتداد الثورة الفرنسية إلى أوروبا، بدأ تصنيف الثوار الفرنسيين على أنهم "إرهابيون"، وبالتالي "غرباء"، في فرنسا وبريطانيا وفقدوا شرعيتهم. وسرعان ما انقلب المعنى ليصبح المفهوم أداة في يد النخب المهيمنة في البلدين لتشويه سمعة الخصوم السياسيين والطبقات العاملة والشعوب المستعمرة.
بدأ أعضاء الطبقة الحاكمة البريطانية في استخدام مفهوم الإرهاب لتشويه سمعة خصومهم السياسيين في إيرلندا.
وفي القرن 19، كثيرًا ما استخدمت النخبة مصطلح "الإرهاب" لاستهداف الجماعات التي تدعو إلى الإصلاح الديمقراطي. وظل مصطلح الإرهاب في الأدبيات الفكرية الغربية عرضة للتقلب والتحوير تبعاً لموازين القوى السياسية، إذ تُصاغ دلالاته لخدمة مصالح النخبة المهيمنة.
في المقابل، وبحسب الدكتور نايف بن نهار وكتابه "التوطين التفاعلي في العلوم الاجتماعية"، يختلف هذا التوظيف لدلالة الجذر "رهب" في الثقافة الإسلامية، الذي ورد في القرآن الكريم بمعنى "ردع المعتدي" و"تهيئة القوة" من أجل الوصول إلى حالة من السلام، وليس لإرهاب المسالمين أو تشويه الخصوم بحسب الآية 60 من سورة الأنفال.
أما مصطلح "الحضارة"، فتم توظيفه بعد الثورة الفرنسية لتبرير التوسع الاستعماري البريطاني والفرنسي خلال القرنين 18 و19، حيث اعتبرت الدول الغربية أن "عملية التحضير" قد اكتملت داخل مجتمعاتها باختلاف طبقاته ولم تعد حكرا على الأرستقراطيين والطبقة الوسطى، وبناء على تفوقها الحضاري فقد آن الأوان لتحضير الشعوب "المتخلّفة" غير الأوروبية، وهو ما أدى إلى التوسع الاستعماري.
وقد عمل هذا التوظيف على تأسيس المركزية الغربية، حيث صُنِّفت ثقافة المستعمِر على أنها متفوقة، ووُصفت الشعوب المستعمَرة بأنها "متخلفة"، مما جعل الحروب التوسعية تبدو وكأنها "مساعٍ أخلاقية" لنشر الحضارة.
وقد عادت ثنائية الإرهاب والحضارة بقوة في القرن 21 بعد أحداث 11 سبتمبر /أيلول 2001، حيث تم ربط "الإرهاب الإسلامي المتطرف" بالهمجية في سياق "الحرب على الإرهاب" الأميركية.
ومن المفارقة الساخرة أن إسرائيل، المعتمِدة على الدعم الغربي، تتبنى هذا الخطاب الاستعماري العنصري نفسه، مدعية أنها تنقذ العالم من "الظلام"، وهو ما يشير إلى سقوط محتمل لهذه القوى كما حدث سابقًا للقوى الإمبريالية التي استخدمت نفس السرديات الفاشية.
وهذا النظر العميق للتاريخ السلبي للمصطلحيْن يجعلنا نفهم لماذا يَحضران كثيرا في خطاب نتنياهو، وكيف توظف إسرائيل خطاب "الحضارة" مقابل "الإرهاب" وربطه بالمسلمين والعرب والفلسطينيين، حيث يعد ذلك من أشد أنواع العنف الرمزي والمعرفي والسياسي وقعًا، إذ تنعكس مآلاته على الأبرياء، ويهدف منها إلى استمرار الاحتلال غير القانوني والاقتصادي والعنف العسكري والإبادة الجماعية والتطهير العرقي في فلسطين، ومنع الشعوب من حكم نفسها بنفسها.
فما تفعله هذه اللغة أعمق من التبرير اللحظي للإبادة، إذ تعيد تنظيم الخطاب العام وتأطير الصورة أمام الجماهير، فهي تُسطّح الحرب ومنطقها ليبدو كأنها معركة قيَم فلسفية تدور بين قيمٍ متضادة، وتحوّل النقاش عن مَن قُتل وكيف ولماذا؟ ليكون السؤال: إلى أيّ معسكر تنتمي؟ لكن هذا الخطاب لا يتم تمريره عفو الخاطر، إذ تتحكم فيه تقنيات وأساليب يجب كشفها وبيان مدى عوارها الأخلاقي والقانوني، فكيف تتم صناعة خطاب العنصرية الإسرائيلي؟
تبدأ هندسة الإبادة من خلال توظيف السرديات والأنظمة الرمزية والمادية التابعة لها في إنتاج المعرفة المزيفة، والذي عادة ما يتم توظيفه لخدمة وتبرير إرهاب الدول الكبرى (State Terrorism).
تُعبّر الأنظمة الرمزية عن كيفية تصنيف ووصف الإنسان والأفراد والمجموعات والحضارات والأمم عن طريق استخدام اللغة والألوان والأشكال والموسيقى والصور والفن وغيرها من الأمور التي تعمل على صناعة الحضارة والخيال والتصورات والحقيقة.
إن تصنيع ثنائيات المتضادة التي تُغرق الآخر في التخلف والجهل، وترفع الذات الاعتبارية إلى سماء التقدم والحرية، هي اختراع استعماري فاشي متكرر عبر التاريخ. والقوة الرمزية للكلمات لا تكتفي بوصف الواقع، بل تصنعه وتعلو على الذاكرة الجمعية المحلية والعالمية. لذا سنناقش بعض الاستراتيجيات الأساسية الحاكمة لخطاب النخب الإسرائيلية، وفي طليعتها نتنياهو.
عادة ما يسعى الخطاب الإسرائيلي اليميني إلى تسمية الذات بالخير. حيث تُعرِّف الذات الإسرائيلية نفسها بمدلولاتٍ رمزية وصفاتٍ إيجابية مثل "النور" و"الأخلاق"، و"الإنسانية"، و"العالم المتمدّن"، فضلًا عن خطاب ليبرالي يَعِد بالتقدم ويؤكد قيَم "الشرعية" و"الديمقراطية".
ويستند نتنياهو أحيانًا إلى أسفار العهد القديم، على شاكلة قوله: "نحن أبناء النور وهم أبناء الظلام"، مع توظيف غير مباشر لنص إشعياء (49:6): "جعلتك نورًا للأمم.."، في محاولة لتقديم ذاته بوصفه النور و"المشيح" المخلّص لبني إسرائيل في القرن 21، فضلا عن نصوص أخرى: تقول التوراة.. سوف ينهضون كالأسود.. لقد نهضوا كالأسود، أسود يهوذا، أسود إسرائيل.
وفي نفس الوقت يتم وسم الآخر بالشر المطلق وهنا يُصنَّف الفلسطينيون "وحوشًا" و"حيوانات بشرية" و"إرهابيين" و"بربريين" (Barbarians)، والغاية هي إنكار كرامتهم الإنسانية وأحقيتهم في الأرض والتاريخ والدفاع عن النفس، كأنهم لا ينتمون إلى المكان والحضارة.
وفي هذا السياق توظف إسرائيل مصطلح الحضارة الذي أشرنا إليه سابقا كسلاح أبيض للطعن وإقصاء الآخر و تبرير الإبادة و رفض الحوار، تشهره حتى تحافظ باستمرار ليظل الفلسطيني في صورة الهمجي. ثم تحيل المصطلح ذاته إلى فكرة متفجّرة ترفع القيود والقوانين عن العنف، لتحضّر الجنود نفسيًا لملاقاة "الشر" المتخيَّل بصورةٍ تخرج الحيوان الكامن داخل الجندي الإسرائيلي.
وعند الفيلسوف الفرنسي بيار بورديو، لا تكون القوة الرمزية والحقيقة الزائفة فعّالتين إلا إذا اعترفت جماعاتٌ مختلفة بشرعيتهما، لذلك يسعى نتنياهو إلى تشكيل تضامن غربي يضعه في قمة هرم "الدفاع عن الحضارة".
وقد وجدت هذه المصطلحات صداها إلى بعض الخطابات الرسمية حول العالم، فتجد الرئيس الأسبق باراك أوباما يهنئ عائلات الإسرائيليين بوقف إطلاق النار وعودة الرهائن، ويتجاهل الضحايا الفلسطينيين، وترى الأوروبيين يتحدثون عن الرهائن وفظائع 7 أكتوبر والهولوكوست بلا ذكر للإبادة المستمرة وضحاياها الكثر إلا متأخرًا.
هذا ليس صداماً بين الحضارات.. إنه صدام بين البربرية والحضارة.. إنه صدام بين أولئك الذين يمجدون الموت وأولئك الذين يقدسون الحياة
بواسطة نتنياهو أمام جلسة مشتركة للكونغرس في 25 يوليو/تموز 2024
وصدى هذا التوظيف، كما تجده في الإبادة تلاحظه حاضرًا كذلك في الإدراك والعاطفة، فنرى جنودًا إسرائيليين يتقمّصون شخصية الفلسطيني في بيته على نحو ساخر، يُحاكون لباسه وطعامه وجوعه ونومه، في ترجمة مباشرة لخيال "الحيوان البشري".
وإذا كان نتنياهو قد نجح في تأليب شارعه، عبر استدعاء الصورة الحيوانية القاتمة لنا -نحن الأعداء- في مخيّلته العسكرية، فإنه واجه رأيًا عامًا عالميًا رافضًا لهذه السردية، وسرديات مضادّة.
وبسبب فشل خطابات نتنياهو التي تُحرّض على الكراهية والقتل ضد جميع الفلسطينيين، وتُحرض على اعتقال الناشطين في الغرب، اجتمع يوم الجمعة 26 سبتمبر/أيلول 2025 مع شخصيات أميركية مؤثرة مؤيدة لإسرائيل في القنصلية الإسرائيلية في نيويورك، من أجل إنقاذه.
ووفق تقارير صحفية، تمّ التعاقد مع شركة "بريدجز بارتنرز" (Bridges Partners LLC) لإدارة شبكة مؤثّرين ضمن مشروعٍ يحمل الاسم الرمزي "إستير"، لمواجهة ما تُسمى "معاداة السامية" على منصّات تيك توك وإكس.
ولدى سؤاله عن استعادة الدعم المتراجع لإسرائيل، قال: "علينا أن نردّ الهجوم.. كيف نردّ؟ عبر مؤثّرينا". وأضاف: "يجب أن نقاتل بالأسلحة الملائمة لساحات القتال التي نخوضها، وأهمها وسائل التواصل الاجتماعي".
ويتجاوز الأمر العلاقات العامة التقليدية إلى استئجار شركات لصياغة محتوى موجّهٍ لجيل "زد"، والسعي إلى إعادة تشكيل استجابات الذكاء الاصطناعي في القضايا المرتبطة بإسرائيل وفلسطين وحرب "الإبادة الحضارية".
وكعادته في قلب السرديات، حيث زعم في مقابلة مع تلفزيون "آي 24" أن العرب يزوّرون التاريخ القديم والحديث لينكروا حق إسرائيل في الأرض، ويروجون للأكاذيب من خلال شبكات التواصل الاجتماعي والروبوتات والخوارزميات والجامعات والمنظمات والدعم المالي ، للمؤثرين وترويح هذه الدعاية: "إنهم يرفضون قبول إرثنا في أي جزء من أرض إسرائيل، أو ما يسمونه فلسطين".
هناك استراتيجية مهمة أخرى تستخدمها دولة الاحتلال ويوظفها نتنياهو، تقوم على إنكار نوايا الذات السلبية عبر الادعاء بأن إسرائيل "لم تُرِد الحرب" بل "أُجبرت عليها"، ومن ثم نقل المسؤولية كاملة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، بل إلى الشعب برمته في الساحة الدولية، واتهامه بأنه دفع إسرائيل إلى خرق قوانين الحرب.
ولتحصين هذه الاستراتيجية رُوَّجت مزاعم ثبت كذبها، مثل "الاغتصاب" و"قطع رؤوس الأطفال" و"تعذيب الناجين"، من قبل القوى الفلسطينية، وكلها صور لها ذكريات يهودية سلبية، تم استدعاؤها مجددا باعتبارها تكررت مع عملية 7 أكتوبر، وذلك لتوجيه عواطف الجمهور الإسرائيلي والدولي، واستثمار الخوف والغضب والذكريات في صناعة قراراتٍ وأفعال، وبناءِ ذاكرة قومية ودولية زائفة ذات طابع فاشي.
وتتناسق رؤية تبرئة الذات ولوم الضحية مع خطاب غربي قديم وحديث يُعلن ضمنًا أن قوانين الحرب التي تضبط "الدول المتحضرة" لا تنطبق حين يكون الخصم ممن يصنفونه "متوحشًا". وفي هذا الإطار، يُستعاد خطاب استعماري أقدم، فقد ردّد نتنياهو تصريحات قريبة من تصريح شهير للجنرال الأميركي ماك آرثر في 20 ديسمبر/كانون الأول 1900 إبّان الحرب الأميركية في الفلبين، حين اعتبر أن حرب العصابات من طبيعتها أن تنتهك "تقاليد" الحرب.
فالغاية واحدة إذن، وتكمن في نصب ستار بلاغيّ يبرّئ الفاعل من جناية الدوس على الأعراف والقواعد التي تحمي المدنيين، وقلبِ المعادلة بحيث يغدو الضحية متّهَمًا، ويصبح الخرق سلوكًا "مشروطًا" بضروراتٍ أمنية دفعت القاتل لممارسة الإبادة مضطرا!!
وهكذا يُعاد تعريف المسموح والممنوع، وتُبرَّر الإبادة الجماعية للمدنيين والعقاب الجماعي والتعذيب بوصفها "عادلة" و"مشروعة" و"ضرورية" في "كفاح إسرائيل من أجل الحضارة"، ضد فلسطينيين يُجرَّدون من الحماية الأخلاقية والقانونية بوصفهم "حيوانات بشرية"،وهنا تفهم منطق المجاعة والحرمان من الوقود والماء وانتشار "الأوبئة الشديدة" و"المعاناة"، فكلها وسائلُ ضغط "مشروعة" لدفع الفلسطينيين أو "الوحوش" إلى "الاستسلام".
يؤمن نتنياهو وفريقه من المتطرفين بأن النصوص الدينية وتفسيراتها الحرفية تتسيّد القانون الدولي، وأنه بوسع السردياتٍ الدينية فرض خططٍ توسعية تتحدى الأعراف والاتفاقيات القانونية وهذا منطق يحكم سلوك الجماعة الدينية التي تقوم اسرائيل حاليا.كذلك
كذلك يرى نتنياهو أن الجماعات الحقوقية والمناضلين الإنسانيين كلهم يأخذون موقع الاستهداف الممنهج ضد إسرائيل. ويدّعي أن إسرائيل رغم أنها هي "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" فإنها تتعرض لهجمات "معادية للسامية" حتى من المحكمة الجنائية الدولية، بعد طلبه للمثول أمام العدالة.
وتعمل إسرائيل بشكل ممنهج ومقصود على تحريف المبادئ الدولية الأساسية المختصة بحماية المدنيين والتي تنص بشكل صريح على عدم استهداف المدنيين حتى في حال استخدامهم دروعا بشرية. ورغم ذلك، كسرت اسرائيل هذا الحظر، بل وتوسعت في استخدامه بالادعاء بأن المستشفيات والأماكن والمساحات تُستَخدم دروعًا وأنفاقًا من قبل "الجماعات الإرهابية"، مما يجعل إسرائيل غير قادرة على التمييز بين المدنيين والمتورطين.
أيضا منذ بداية الحرب، اعتمد نتنياهو على استراتيجية تَوقّعِ الشر، التي تُمهد له الطريق لإلقاء التهمة مسبقًا على الضحية بقوله: "ستستخدم حماس الفلسطينيين دروعًا.. ستستغل المساجد والمستشفيات.. ستسرق الوقود والمساعدات". وهكذا يتكلّم بالنيابة عن الآخر، رافعًا صوته فوق صوت الحق، متنبئا بوقائع مستقبلية لتبرير أفعال حاضرة يريد هو القيام بها.
وبذلك تبرر إسرائيل أخلاقيا لجيشها جعل كل شخص ومكان في غزة هدفًا مشروعًا يحوّل المسؤولية عن الضحايا إلى الطرف الواقع تحت الاحتلال. وبذلك توظف هذا الخطاب لحصار مبدأ التمييز الذي ينص على ضرورة الفصل الواضح والجاد بين المدنيين والمقاتلين وبين الحظر العالمي لاستهداف المدنيين، الذي يُعد جريمة بحق البشرية جمعاء، وذلك باعتبار الحروب الحديثة حروبا بين جيوش محترفة لا تشمل السكان. يقول اللواء الإسرائيلي جورا إيلاند: "من هنّ النساء الفقيرات في غزة؟ إنهن أمهات أو أخوات أو زوجات قتلة حماس".
كما تكسر إسرائيل قاعدة الاحتياط، وهي اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتقليل أذى المدنيين، من اختيار التوقيت ونوع السلاح إلى التحذير بالانتقال إلى "مناطق آمنة" من أجل "الابتعاد عن حماس التي تستغلكم كدروع بشرية".
وادعى نتنياهو أمام الكونغرس وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 2024 قائلا: "ولم يقم أي جيش بما تقوم به إسرائيل لتقليل الخسائر في صفوف المدنيين.. نحن نلقي منشورات، نرسل رسائل نصية ونجري ملايين المكالمات الهاتفية، لضمان إخلاء المدنيين الفلسطينيين من مناطق الخطر، ولا ندخر جهداً في هذا المسعى النبيل".
والحقيقة التي تسجلها المحطات الفضائية والصحافة تؤكد أن هذه التحايلات الإعلامية لا صدى لها على أرض الواقع. فقد كشفت دراسة أجرتها البي بي سي، أن المنطقة "الآمنة" في غزة التي طلب الجيش الإسرائيلي من السكان التوجه إليها "حفاظاً على سلامتهم"، تعرضت لـ97 غارة منذ مايو/أيار 2024 حتى يناير/كانون الثاني من هذا العام.
وكان المكتب الإعلامي الحكومي ووزارة الداخلية في غزة، قد حذرا مرارا من أن جيش الاحتلال ينفذ عمليات إعدام بحق المواطنين في طريق انتقالهم إلى مناطق الجنوب عبر الممرات الآمنة المزعومة. كما يتم استهداف أماكن النزوح، بينما اعتاد جيش الاحتلال على ارتكاب المجازر في المناطق التي زعم أنها آمنة في وسط القطاع وجنوبه.
وتدعي إسرائيل أنها تطبق مبدأ التناسب (Proportionality) -عدم إحداث أضرارٍ جانبية مفرطة- وتصوّر قتل الفلسطينيين على أنه جريمة "متناسبة" و"عرضية" يرتكبها جيش عالي التدريب والمهنية والدقة والأخلاقية وواعٍ بمسؤوليته القانونية، وهي تفعل ذلك رغم الشرّ الصادر من المقاومة والذي يلقي بالفلسطينيين في وجه المدفع.
ويعاتب نتنياهو ببعض الدول الغربية في خطابه أمام الجمعية العامة في سبتمبر/أيلول الماضي بسبب إدانتها للحرب على غزة، والتي جاءت متأخرة في نهاية العام الثاني من العدوان، وقال: "من المذهل بينما نحارب الإرهابيين الذين قتلوا العديد من مواطنيكم، أنتم تحاربوننا.. أنتم تدينوننا.. أنتم تفرضون علينا حظراً، وأنتم تشنون حرباً سياسية وقانونية، تسمى حرباً قانونية، ضدنا.. أقول لممثلي تلك الدول: هذه ليست إدانة لإسرائيل.. إنها إدانة لكم! إنها إدانة للقادة الضعفاء الذين يرضون الشر، بدلاً من دعم دولة جنودها الشجعان يحمونكم من البرابرة".
وكما في كل مشروعٍ استعماري، فإن الخريطة أداةُ سلطة وهيمنة ومعرفة، ووسيلة لامتلاك المخيال. ويشرح بندكت أندرسون في كتابه "الجماعات المتخيَّلة"، كيف تُعدّ الخرائط جزءًا من مشروع السيطرة، وتُشحن بالهيمنة في بناء الأمم والإمبراطوريات. وبحسب أندرسون فإن مفاتيح "الثالوث الاستعماري" تتمثل في التعداد السكاني والخريطة والمتحف.
وهوس نتنياهو بالخرائط معروف، وسعيه لأن يصبح ملك إمبراطورية إسرائيل أو المخلّص المنتظر وأن يحظى ويخلّد بعيد وطني؛ سعيٌ لم يفارقه كظله.
أما توظيفه للخرائط فهو لإضفاء مصداقية على خطاباته، كما فعل أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عامي 2024 و2025، حين استعرض بعض الخرائط: خرائط اصطفافاتٍ جيوسياسية تُقسم بين "نِعمة" تُسوِّق تحالفات وممرّاتٍ تجارية ويقول حالمًا "بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، عبر هذا الجسر، سنمد خطوط سكك حديدية وأنابيب طاقة وكابلات ألياف بصرية، وهذا سيخدم تحسين حياة ملياري شخص" (الجمعية العامة 2024)، وخرائط "لعنة" تُسوّد رقعًا كاملة بوصفها شرًّا مطلقًا.
ويهدف نتنياهو، عبر الخرائط إلى تثبيت وعي بسرديته لتحديد ما يُرى وما يُمحى، وتُعيد تعريف الجغرافيا والأخلاق معًا. وفي جزء من مقابلته مع قناة "آي 24" يُهدي المحاور نتنياهو ما يزعم أنها خريطة إسرائيل الكبرى التي يحتفظ بها لزوجته ويستذكر والده والأجيال السابقة واللاحقة، في مشهد يسعى به إلى استعطاف الغرب.
وبعد عامين شديدين، تمكن الصمود التاريخي للإنسان الفلسطيني الذي تضرب جذوره في الأرض ويعلو صدره في السماء، من فضح الإبادة وإيقاف الحرب في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025. وبذلك أثبتت الحرب في فلسطين -كما في سوريا- أن الكثافة السكانيّة والإنسان الحضاري العربي في بلاد الشام أقوى من كل ترسانات الإمبراطوريات التي عجزت عن إخضاعه.
والآن، تتمثل الحرب الحقيقية في محاولات السيطرة على الإنسان ووعيه؛ بالحرب تارة، ووعده بالرخاء والازدهار و"السلام التاريخي" تارة أخرى، من أجل استلاب التوحيد من النفس البشرية واستعباد الأرض. التاريخ يتكرر في تدافع الحضارات والصراع بين الحق والباطل، وفي هذه المعركة الحضارية تستشعر أنه -وحتى نهاية العالم- لا غالب إلا الله.