غزة- على مدار عامين من الإبادة الجماعية ، تركت الحرب على قطاع غزة آثارها في كل بيت، ولم تستثن حكايات الفقد والوجع والنزوح أحدا، مع تواصل العدوان الذي استخدمت فيه إسرائيل أكثر من 200 ألف طن من المواد المتفجرة ضد القطاع.
المُسنَّة الثمانينية سعاد الكرد "أم حسن" واحدة من بين الحكايات التي اجتمعت عليها كل مآسي الحرب، حيث فقدت 48 شهيدا من أبنائها وأشقائها وأحفادها، وخرجت من تحت الركام بعدما كادت تفارق الحياة عقب تدمير الاحتلال منزلها، ونزحت من مكان لآخر هربا من الموت.
وطوال 75 سنة عاشتها أم حسن، لم تر أهوالا كالعامين الماضيين، رغم أنها شهدت جميع الحروب الإسرائيلية على فلسطين منذ عام 1956.
وفي الأسابيع الأولى للحرب، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي منزل أشقاء أم حسن في دير البلح ، ما أدى لاستشهاد 5 منهم رفقة نسائهم وأبنائهم، ليرتقي ما مجموعه 29 شهيدا، وعن ذلك تقول أم حسن "حرقوهم دون سبب"، وبعد أسبوع واحد فقط أغارت طائرات الاحتلال على منزل ابنها جنوب مدينة غزة فاستشهدت زوجته وابنتاه.
توالت المصائب التي حلت بأم حسن، فما إن وصلت لتتفقد أحوال ابنها وقبل أن يُخرجوا الشهداء من تحت الأنقاض حتى جاءها اتصال بأن الاحتلال استهدف منزل ابنتها وسط قطاع غزة واستشهد اثنان من أبنائها، وحفيدة أخرى كانت نازحة لديهم.
وفي نفس اليوم، ودَّعت أم حسن أبناءها وأحفادها في غزة ودير البلح، وبعد أسبوع واحد فقط أغارت طائرات حربية على منزلها شمال غرب مخيم جباليا ، فاستشهدت حفيدتها (5 أعوام) وأصاب الدمار جزءا من المنزل.
رفضت المُسنَّة أم حسن وعائلتها مغادرة المكان خلال اجتياح الاحتلال البري الأول لشمال القطاع نهاية عام 2023، ومع تقدم آليات الاحتلال إلى مكان سكناهم، وأثناء محاولتهم الخروج من المنطقة الخطرة باغتتهم طائرة حربية بصاروخ، فاستشهد زوجها، وثلاثة من أحفادها، الذين ظلوا ملقين على الأرض لعدة أيام.
أما هي فأصيبت وفقدت الوعي لأكثر من ساعتين وهي ملقاة بين الشهداء، واضطرت بعد ساعات للزحف برفقة حفيدتها المصابة لمسافة طويلة حتى وصلت إلى سيارة الإسعاف ونقلتهما للمستشفى لتلقي العلاج.
مرت أيام طويلة على أم حسن حتى تمكّنت من دفن زوجها وأحفادها بعدما تراجعت آليات الاحتلال عن مكان سكنهم، لتجد أن أجزاء منهم قد تحولت إلى أشلاء.
وبعد قصف منزلها اضطرت أم حسن للجوء إلى مراكز الإيواء، وتعرضت للحصار رفقة النازحين في 4 مراكز بشمال غزة، أخرجهم الجيش منها عنوة.
ولوهلة، وبينما كانت تتحدث أم حسن للجزيرة نت، صمتت، ثم راحت تبكي، وهي تستذكر حصار جيش الاحتلال لها في مدرسة الفاخورة غرب مخيم جباليا، وكيف قتل الجنود 50 شابا واعتقلوا العشرات، قبل أن يطلبوا من النساء مغادرة المكان، ففي حينها تفرَّقت عن أحفادها، في أصعب موقف مرَّ عليها بعدما تشتت عائلتها ولم تر من بقي من أبنائها وأحفادها لـ6 أشهر.
"شفت (رأيت) الموت ألف مرة في هذه الحرب" تقول أم حسن، وهي التي شهدت جميع الحروب التي شنتها إسرائيل على الأراضي الفلسطينية منذ عام 1956، لكنها لم تر مثل هذه الإبادة التي طالت البشر والشجر والحجر، ولم تعرف طوال سنوات عمرها الأحزمة النارية، ولم تشهد مجازر كالتي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق جميع سكان غزة.
وتقول "لو ضربونا (تم قصفنا) بالكيماوي لارتحنا ولم نتحسر على أحد"، في إشارة إلى هول المشاهد التي عايشتها خلال عامين من الحرب.
وشهدت أم حسن تفاصيل تجويع شمال غزة، واضطرت لتناول علف الحيوانات، والسير لمسافات طويلة متنقلة من مدرسة لأخرى مستعينة بعكازها، للبحث عن طعام لطفلة صغيرة تعاني من إعاقة، في حين كانت هي تربط على بطنها، وتذيب الملح بالماء لتصمد أطول وقت أمام الجوع.
وجابت المُسنَّة الفلسطينية المنازل المقصوفة واحدا تلو الآخر، علها تجد ما تبقى من طحين تحت الركام، لكن جميع محاولاتها باءت بالفشل.
وتستحضر موقفا لأم كانت تضع رغيفا صغيرا في حقيبتها، وحين يصرخ ابنها جوعا تضع الرغيف عند أنفه ليشمه ويشعر بالشبع ثم تعيد الرغيف إلى الحقيبة.
وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد فرضت حصارا محكما على محافظتي غزة وشمالها منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ومنعت إدخال أي من المساعدات والمواد الغذائية حتى شهر أبريل/نيسان 2024، مما أدخل أكثر من نصف مليون فلسطيني كانوا يوجدون هناك في موجة جوع شديدة.
ثم عاد الاحتلال ليشدد المجاعة على قطاع غزة منذ مطلع مارس/آذار الماضي حتى سمح بإدخال عدد قليل من الشاحنات بعد 5 أشهر.
تروي أم حسن للجزيرة نت أنها ذات مرة حاصرها الجيش الإسرائيلي داخل مدرسة إيواء، وأجبرها على مغادرتها دون أن تحمل شيئا من أمتعتها، ولم تتمكن من شدة النيران والقصف المحيط بها من استكمال المسير بعدما منعها جنود الاحتلال من الاتكاء على عكازها.
كانت تسير رغم إصابتها وتقع أرضا، حتى ابتعدت عن أماكن الجيش، وكادت تبيت ليلتها في الشارع قبل أن ينقلها شاب للمبيت لديهم، حتى تبدأ فصلا جديدا من البحث عمن بقي من عائلتها.
وتقلب أم حسن ذاكرتها من موقف لآخر حتى عاشت تجربتها الأقسى عندما فقدت الاتصال باثنين من أحفادها حاصرتهما قوات الاحتلال الإسرائيلي في محافظة شمال غزة عندما شنَّت عمليتها العسكرية هناك مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2024 والتي أطلقت عليها " خطة الجنرالات "، حتى مرت 3 أشهر دون أن تعرف مصيرهما.
وما إن دخلت التهدئة التي عقدت بين حركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) والاحتلال في يناير/كانون الثاني الماضي حيز التنفيذ حتى فُجعت أم حسن بخبر استشهادهما.
كانت شهادة أم حسن للجزيرة نت التي قطعتها دموعها أكثر من مرة، واحدة من آلاف حكايات الألم التي سكنت بيوت غزة على مدار عامين من حرب الإبادة التي أودت بحياة قرابة 66 ألف شهيد، ونحو 200 ألف إصابة، ومسحت آلاف العائلات من السجل المدني.