القاهرة – عند رصيف ميناء برشلونة ، حيث يتلاقى هدير البحر مع أصوات الحشود المُلوّحة بالأعلام الفلسطينية، وقف المخرج المصري باسل رمسيس المشارك في قافلة أسطول الصمود العالمي لدعم غزة ، والذي طالما سعى بالكاميرا والكلمة إلى منح فلسطين صورة تليق بها.
هذه المرة لم يحمل كاميرا، بل حقيبة صغيرة وحلما أثقل من الحزن على غزة، بأن يصل إليها مع مئات المتطوعين، وأن يفتح ممرا إنسانيا يبدّد حصارا صار رمزا للعجز الإنساني قبل أن يكون رمزا للاحتلال.
ليس في هذه الرحلة رفاهية المغامرة، بل اختبار أخلاقي للضمير الإنساني، كما يقول رمسيس للجزيرة نت وهو على متن القارب "يولارا"، ويضيف "لسنا ذاهبين لتشكيل عبء على الفلسطينيين، بل لنقول للعالم إن غزة ليست وحدها".
قدّم ما بين 35 و40 ألف إنسان من مختلف قارات الأرض طلبا للالتحاق بأسطول الصمود، لكن القوارب، مهما تعددت، لا تستطيع حمل هذا العدد، فتم اختيار 300 فقط بعد استمارات وأسئلة ومقابلات، ليحملوا نيابة عن عشرات الآلاف رسالة واحدة أن: البشرية لا تزال قادرة على الوقوف بوجه الفاشية .
حين أخبر باسل رمسيس صديقة فلسطينية برقم المشاركين في الرحلة، قالت له "أنت إذن من شعب القافلة المختار"، وتعكس المشاركة الكثيفة هذه المرة حقيقة أن هؤلاء النشطاء يحملون رسالة بديلة للعالم مفادها أن التضامن لا يُختار بالدم أو بالدين، بل بالقرار الحر للإنسان.
منذ كان طفلا حلم رمسيس بأن يصبح قبطانا، وظل البحر يسكن وجدانه، لكنه لم يصبح بحارا، بل حمل هوس القوارب معه إلى أفلامه وكتاباته وحتى إلى وشم صغير على يده.
هذه المرة لم يعد البحر فضاء للحلم، بل صار سجنا محتملا، و"القارب قد يتحول إلى زنزانة"، يقول رمسيس وهو يستعد لرحلة قد تمتد أسابيع، وربما لا تنتهي أصلا.
وبنظر الكثيرين الذين تعلقت قلوبهم وأعينهم بهذه القوارب، فهي تحمل أثقل من الحديد وأثمن من الذهب: أفئدة الملايين الذين منعهم فقرهم أو قمع حكوماتهم أو بُعدهم الجغرافي من أن يكونوا هنا، إذ يرفع المتطوعون على متنها علم الفلسطينيين، ويحملون شعورا بأنهم ليسوا وحدهم.
قبل الرحلة بأيام، لمح رمسيس فتاة ترتدي قميصا أسود مطبوعا عليه ملصق فيلم "رسائل البحر" للمخرج داود عبد السيد، ابتسم للمفارقة، فهو الآخر سيبعث رسائل من البحر، لكنها ليست شاعرية، ولا تحمل الحلم ولا الرمز، بل المأساة المطبوعة على جبين العالم: المجاعة في غزة، والدم، و الإبادة ، و الحصار .
يكتب باسل رمسيس على صفحته في فيسبوك "إنها رسائل ضد النسيان، تقول إن العالم لا يجوز أن يتواطأ مع الفاشية الجديدة".
ولم تكن الرحلة مجرد ركوب قارب، فقبل الإبحار خضع المشاركون لدورات مكثفة حول كيفية مواجهة أي هجوم أو اعتقال إسرائيلي، والأوراق التي سيوقعون عليها أو يرفضون ذلك حال الاعتقال، وآلية التواصل مع محامين ومنظمات حقوقية.
وتلقى باسل رمسيس ورفاقه أيضا تدريبات على النضال السلمي ضد كل محاولات استفزازهم، ويعلق "الاحتمالات كلها مفتوحة، من المنع عند الحدود إلى الاعتداء والاعتقال والوصول بسلام، لكننا مؤهلون لها جميعا".
والقاعة التي تلقى فيها النشطاء تدريباتهم في برشلونة، كانت ذاتها التي احتضنت متطوعي "الفوج الدولي" في الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) الذين جاؤوا من كل أصقاع الأرض لمحاربة الفاشية الإسبانية، فالمشهد يعيد نفسه بعد عقود، لكن الوجهة غزة هذه المرة.
ويقول رمسيس "العالم تغير كثيرا لكن الفاشية لم تتغير"، ويوقن بأنها مواجهة أخلاقية مع كيان بلا أخلاق، سلاحها الوحيد هو الفضيحة بأن ينكشف وجه إسرائيل أمام العالم إن هي هاجمت قافلة إنسانية تضم نشطاء من أكثر من 44 دولة، وهو الأمل الوحيد لردع إسرائيل عن إلحاق الأذى بأعضاء القافلة البحرية.
وفي وداع القافلة ببرشلونة، وقف رمسيس يتذكر شارلي شابلن الذي ناضل ضد النازية بفنه وبصوته حتى طُرد من الولايات المتحدة بتهمة "الشيوعية"، ويقول "كنا نريدك معنا يا سيد شابلن، هذه لحظة كنت ستعرفها جيدا".
كلمات شابلن في فيلمه "الدكتاتور العظيم" تعود عابرة الأزمنة لتقول "لنناضل جميعا لإسقاط الجشع والحقد والكره، ومن أجل عالم يستند إلى العقل". بالنسبة لرمسيس هذه ليست مقاطع من فيلم قديم، بل "وصية حية لرحلة البحر".
وفي الليلة الأولى بعد مغادرة برشلونة، هبت عاصفة هوجاء، القارب الصغير بدا هشا في قلب البحر المظلم، وأصيب معظم المتطوعين بدوار شديد، في وقت جلس فيه رمسيس إلى جانب قائدة القارب يساعدها في الإمساك بالحبال، يراقب الأمواج ويمنع سقوط الأغراض في المياه.
فجأة، تحقق حلم الطفولة، ولم يعد رمسيس متفرّجا على القوارب، بل صار مساعدا في قيادة أحدها، لكنه يقول "لم أكن أريد أن يتحقق هذا الحلم بهذه الطريقة، لم أرد أن يُضطر أحد لأن يبحر من غرب المتوسط إلى شرقه لأن دولة فاشية تبيد شعبا".
“فقط أخبروا الإسرائيليين أنها مجرد "قائمة غسل الصحون وليست قائمة إرهـ ـابـيـيـن”.. رسائل من سفينة “ألما” المشاركة في #أسطول_الصمود#الجزيرة_مباشر #غزة pic.twitter.com/EvAZYmLyh1
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) September 5, 2025
كابن لأسرة يسارية عرفت وتوارثت معنى التضامن، يرى باسل رمسيس أن مشاركته ليست فقط فعلا إنسانيا، بل واجبا مصريا، ويؤكد " مصر أكثر الدول قدرة على وقف الإبادة لكنها غابت". وأنا هنا لأقول "هناك مصري واحد على الأقل على متن الأسطول".
حضور مصري رمزي وسط عشرات الجنسيات لكنه يذكّر بأن فلسطين لم تكن يوما بعيدة عن الوجدان المصري مهما حاولت السياسة أن تفصل بينهما.
ويرى رمسيس مثل رفاقه على متن قوارب القافلة أن الأسطول الذي يضم عشرات القوارب ليس مجرد وسيلة لإيصال مساعدات، بل محاولة لإعادة إنقاذ الإنسانية من سقوطها. "فإن وصلت القافلة بسلام، فإنها تفتح الطريق لقوافل أخرى، وإن هوجمت، فإن العالم سيضطر لأن يواجه صورته في المرآة: هل يقبل بأن تتحول "الدولة الأكثر ديمقراطية في الشرق الأوسط " إلى قرصان يهاجم نشطاء عزّلا؟".
بين الأمل والقلق، يواصل باسل رمسيس رحلته، ويقول "الخوف لا يجب أن يشلّنا، فإن خضعنا للخوف، نكون قد سلّمنا العالم للفاشية، ومشاركتي هنا هي محاولة لإنقاذ العالم قبل أن تكون لإنقاذ غزة".
والآن، بينما تمخر القوارب عباب البحر الأبيض المتوسط ، تظل العيون معلقة على الأفق، فهل سيتحقق الوصول أم ستتكسر الموجة على صخرة الاحتلال؟
لكن مهما كانت النتيجة، فإن رسائل البحر قد وصلت بالفعل من خلال صور آلاف المحتشدين في برشلونة وعبر كلمات المتطوعين الذين ودّعوا عائلاتهم منذ أيام، وعبر الحلم الذي تحمله كل قلوب الذين لم يستطيعوا الصعود.