في حرّ ظهيرةٍ صيفية خانقة في مدينة غزة ، الحرّ الذي يلتصق بالجلد مثل الدخان، وقف صبي في طابورٍ لما بدا وكأنه مثلجات. وكان قميصه مبللا بالعرق، ووجهه مغطى بالغبار، وشفاهه متشققة من الجفاف. وحين جاء دوره أخيرا، همس للبائع قائلا "أريد الفراولة، ليس العنب مجددا. العنب طعمه مثل المستشفى".
وهذه القصة روتها الصحفية الفلسطينية لوجين حمدان -في مقال بموقع بريزم وهو منصة إعلامية أميركية مستقلة- عن مأساة جديدة يعيشها أطفال غزة ، في ظل حرب الإبادة الجماعة و التجويع المستمرة منذ قرابة عامين.
وتضيف الكاتبة "من خلف الطاولة، مدّ رجل في الأربعينيات بعينين مرهقتين وقميص مرقّع يده إلى مجمّد صغير يعمل بالطاقة الشمسية. أخرج قطعة مشوهة، بالكاد باردة، ملفوفة في كيس بلاستيكي ممزق، وناولها للصبي كأنها كنز".
وقال الرجل "السعر 5 شياكل".
وأخذ الصبي قضمة، ثم نظر إليّ بعينين نصف مغمضتين "طعمه مثل المرض، لكن إذا أغمضت عيني أستطيع أن أتخيله مانجو".
وكان اسم الطفل يوسف. ولم أسأله عن عمره، ففي غزة لم يعد يُقاس عمر الطفولة بالسنوات، بل بالهدن المؤقتة.
ولم أكن أعرف آنذاك ما الذي يأكله يوسف فقد بدا كالمثلجات، لكنه لم يكن كذلك.
لا يوجد حليب في غزة ولا سكر تقريبا ولا تبريد إلا لمن يملك ألواحا شمسية. ولاحقا علمت أن "الحلوى" التي كان يوسف يتناولها ما هي إلا شراب مضاد حيوي مُجمّد، هذه الشرابات المنتهية الصلاحية، المخصّصة لعلاج التهابات الأطفال، تأتي بنكهات الفراولة والليمون، والعنب، والبرتقال، والكرز، فالدواء هنا يُجمّد ويُباع كحلوى لأنه لا يوجد شيء آخر.
والرجل الذي يقف خلف الطاولة لا يسميها آيس كريم، بل يسميها "برد مُنكّه" لكن الأطفال يعرفون الحقيقة دائما، ويوسف لم يسأل لماذا طعمه غريب، فقط تمنى أن يكون طعم الغد أفضل.
حين أخبرت أمي عن قصة يوسف، التفتت إلي بحدة "ما الذي يأكلونه؟".
وشرحْت "أحدهم يجمّد شراب الأطفال المضاد للالتهابات ويبيعه على أنه مثلجات".
ولم تضحك أمي التي كانت صيدلانية قبل أن تتحول المستشفيات إلى أنقاض وأرفف الأدوية إلى غبار. صمتت قليلا، ثم قالت بهدوء "هذا ليس بقاء على قيد الحياة، هذا موت بطيء. الطفل يلعق مرتين ثم يتركه. هكذا تتعلم البكتيريا وهكذا تنتصر العدوى".
وكانت محقة، فبحسب موقع "مايو كلينيك" الطبي الأميركي، فإن الإفراط في استخدام المضادات الحيوية يعزز مقاومة البكتيريا لها، وهي من أخطر المشكلات الصحية في العالم.
والأطباء يحذرون من أن تناول المضادات خارج الوصفة الطبية لا يجعلها بلا فائدة فقط بل خطيرة أيضا، لأن الجرعات الصغيرة والمتقطعة، مثل تلك التي يتناولها الأطفال في "مثلجات" المضادات، لا تكفي لقتل البكتيريا، بل تمنحها فرصة للتأقلم والمقاومة، وما يبدأ بوجع معدة قد ينتهي بأضرار في الكبد، وما كان يمكن علاجه بسهولة قد يتحول إلى عدوى رئوية لا دواء لها.
ويضيف الأطباء "في مكان مثل غزة، حيث دمّر القصف الإسرائيلي المستشفيات وفُرغت الصيدليات، تصبح فرصة الشفاء شبه مستحيلة، وهؤلاء الأطفال الذين يستمتعون بآيس كريم المضادات قد يحتاجون غدا لجرعة دواء بسيطة لإنقاذ حياتهم، لكنهم لن يجدوها متوفرة هنا".
ولم أخبر أمي كيف ابتسم يوسف وهو يأكل الشراب المجمّد، أو كيف أغلق عينيه متخيلا مكانا آخر. فهي، مثلنا جميعا، تعرف أن الأطفال أكثر من يعاني من الإبادة، وحين لا يتبقى شيء آمن والطفل يطلب شيئا حلوا، تفعل أي شيء لتخفيف ألمه.
وفي غزة أخرى، كانت هذه الشرابات محفوظة خلف زجاج في الصيدليات، تُستخدم بحذر وبوصفة طبية دقيقة. أما الآن، فقد أصبحت تُباع بأسعار فاحشة، أو تُجمّد في مجمّد مكسور على يد رجل يحلم بالعودة إلى حياة طبيعية. وفي الوقت نفسه، تبقى المساعدات الإنسانية والطبية عالقة عند معبر رفح، وجيش الاحتلال الإسرائيلي بالكاد يسمح بمرور بعض الأدوية بعد أشهر من الانتظار، أما الغذاء فممنوع لا يدخل منه شيء.
قال لي الرجل الذي يبيع "آيس كريم المضادات" إن الأمر ليس مجرد تجارة "لم أرد أن ينسى الأطفال طعم المثلجات أو شعور السعادة".
وتذكرت محلات الآيس كريم في مدينة غزة (كاظم، غلاس، ومزاج) مضاءة بالنيون، وقد تحولت في الأسابيع الأولى من الحرب إلى أنقاض فالفريزرات ذابت، واليوم يمر الأطفال بجانب الركام ولا يتوقفون، كأنهم لم يعرفوا ما كان هنا.
ولم ينس الأطفال بل يتعلمون من جديد نكهات العنب والليمون والفراولة والبرتقال التي كانت مرتبطة بالمرض، ولكنها أصبحت اليوم رمزا لمتعة نادرة.
والحقيقة أن "مصاصات المضادات" ليست الابتكار الغذائي المرعب الوحيد في غزة، فهناك أطفال يأكلون الطحينة الممزوجة بمُحلٍ صناعي ويقولون إنها "تشبه الشوكولاتة البيضاء" في حين يجمع أطفال آخرون الحمص اليابس ويطلبون من أمهاتهم تحميصه على أنه "مكسرات العيد" ويطحن الآباء علف الحيوانات مع العدس ليصنع خبزا رماديا قاسيا لعائلتهم.
وكل هذا في ظل مجاعة شاملة تفتك بأهل غزة، وجوع شديد وسوء تغذية يدمّران الأسر.